باقية وتتمدد!

عودة صعود داعش.. وتغير ديناميكيات الساحل الإفريقي

13 December 2023


على الرغم من الحرب العالمية ضد الإرهاب، ما تزال الجماعات السلفية الجهادية العنيفة، ولاسيما في إفريقيا، باقية وتتمدد، من خلال اكتساب مزيد من الأراضي. وبعد الضربات الموجعة التي تلقتها تلك الجماعات في بلاد الشام والرافدين، أصبحت إفريقيا مركزاً للتوسع السلفي الجهادي في العالم. كما كان التأثير السلبي لموجة الانقلابات العسكرية المتعددة في السنوات الأخيرة عبر منطقة الساحل، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى السودان وإريتريا، سبباً في زيادة حدة أوضاع عدم الاستقرار والتأثير في جهود مكافحة الإرهاب. وفي الوقت نفسه، تستغل الجماعات السلفية الجهادية الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والسياسية المحلية لتعزيز قوتها. ومؤخراً شهدت ولاية الساحل، وهي فرع من فروع داعش تم تجاهله سابقاً، انبعاثاً كبيراً، فاق كل التوقعات، إذ وسعت نفوذها عبر مالي والنيجر، وبدرجة أقل، بوركينا فاسو. وتمثل هذه الطفرة الفارقة تحولاً ملحوظاً لتنظيم داعش من معاقله التقليدية في العراق وسوريا إلى القارة الإفريقية. وربما يُعْزى صعود تنظيم داعش في الساحل إلى عوامل متعددة، أبرزها تراجع المساعدات العسكرية الغربية ورحيل الجنود الفرنسيين، إلى جانب القرارات الاستراتيجية التي اتخذتها الجماعة المنافسة لداعش، وهي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. 

ويسعى هذا المقال إلى تحليل أسباب عودة صعود ولاية داعش في الساحل الإفريقي وخريطة توزيع الجماعات الإرهابية في المنطقة وتأثير ذلك في مستقبل الأمن الإقليمي في المنطقة.

عوامل الصعود والتمدد:

1. الفراغ الأمني والمكاسب الإقليمية: إن الفراغ الأمني الناجم عن تقليص الوجود العسكري الغربي، وخاصة خروج الجنود الفرنسيين وإغلاق مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، خلق بيئة مناسبة لتنظيم داعش، لتأكيد هيمنته في منطقة الساحل. وقد استفادت المجموعة الإرهابية من هذه الظروف، وسيطرت على مساحة أكبر من أي وقت مضى وعززت قوتها في أجزاء واسعة من مالي والنيجر. إذ قلصت العديد من الدول الغربية –الولايات المتحدة وفرنسا وشركاؤها في الاتحاد الأوروبي– دعمها للنيجر ومالي وبوركينا فاسو، رداً على الانقلابات التي شهدتها هذه البلدان. ولعل ذلك يقيناً يترك فجوة في البنية الأمنية للمنطقة.  

وفي ظل هذا الفراغ، بحثت حكومات منطقة الساحل عن شركاء آخرين. وبرزت روسيا، من خلال مجموعة فاغنر، كقوة فاعلة رئيسية. ولعل النيجر تمثل جائزة كبرى للقوى الغربية لسببين. الأول: هو أنه يُنظر إليها على أنها حصن ضد الجهادية العنيفة من جهة، وأنها تمثل تجربة ناجحة للتحول الديمقراطي من جهة أخرى. وهذا ما يفسر وجود قوات ومنشآت غربية في البلاد. والثاني: هو أنها سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم وثاني أكبر مورد لليورانيوم إلى فرنسا. وعلى هذا فإن النيجر تمثل جائزة لا تستطيع الدول الغربية تحمل خسارتها لصالح روسيا. وعليه سوف تكون منطقة الساحل مسرحاً لمزيد من المواجهات بين القوى العظمى العالمية.

2. التحول الاستراتيجي لجماعة نصرة الإسلام: هناك عامل مهم آخر يسهم في صعود داعش في منطقة الساحل وهو التحول الاستراتيجي لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المنافسة. إذ إنه بعد الخسائر التي لحقت بها في ساحة المعركة أمام تنظيم ولاية داعش في الساحل، أعادت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين توجيه مواردها بعيداً عن المناطق المتنازع عليها، وتنازلت فعلياً عن مساحات شاسعة من الأراضي بالقرب من الحدود بين مالي والنيجر لمنافسها. ومن الملاحظ أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لم تتمكن من منع تنظيم داعش من التوسع في شمال شرق مالي ومنطقة الحدود الثلاثية مع بوركينا فاسو ومالي والنيجر، لكنها تستخدم التهديد المتمثل في توسع تنظيم داعش في الساحل لتعزيز العلاقات مع الجهات الفاعلة المحلية الضعيفة في شمال مالي. وقد حافظت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على عملية تتمحور حول السكان، مستغلة الحكم الضعيف، وانتهاكات الجيش المالي ومجموعة فاغنر، وعدم الاستقرار السياسي والأمني للحصول على مصادر الدعم المحلي. 

3. تطور التكتيكات: في سنواته الأولى، اكتسب تنظيم داعش في الساحل سمعة سيئة بسبب تعامله العنيف وبطريقة عشوائية مع السكان. ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى حدوث تحول في النهج، مع التركيز بشكل أكبر على الحكم في البلدات والقرى الخاضعة لسيطرته. ويلاحظ المحللون انخفاضاً في معدل الفظائع المرتكبة ضد المدنيين، إذ تصور الجماعة نفسها الآن على أنها قوة حاكمة.  وفي المقابل تحاول جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أيضاً التفاوض مع مختلف الطوائف والجماعات العرقية الإسلامية لتوسيع نفوذها وتتجنب الرؤية القائمة على النقاء الديني التي تطالب بها داعش كشرط لقبول التحالفات مع الجماعات الأخرى. ولعل ذلك يعمل على زيادة نفوذ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المناطق التي تسيطر عليها.

4. التركيز على الحوكمة: تتضمن الاستراتيجية المتطورة لتنظيم داعش في منطقة الساحل نهجاً أكثر تنظيماً للتلقين والتجنيد والحكم. وبحسب الشواهد على الأرض، اختارت المجتمعات المحلية، التي انجذبت لفكرة فرض الشريعة الإسلامية بشكل صارم والسعي لتحقيق الاستقرار في المناطق التي تفتقر إلى الحكم الفعال، الانضمام إلى ولاية الساحل الإسلامية. وقد توسعت بالفعل الهياكل الداخلية للتنظيم، مع تزايد عدد المدارس المخصصة لتدريب الجيل القادم من المقاتلين. 

ويعمل تنظيم ولاية داعش في الساحل بشكل أساسي في منطقة ليبتاكو-غورما. وبالفعل أصبحت الجماعة هي الفاعل المهيمن في العديد من المناطق التي تشملها هذه المنطقة، بما في ذلك، منطقتا غاو وميناكا في مالي، ومقاطعتا أودالان وسينو في بوركينا فاسو، ومنطقتا تيلابيري وتاهوا في النيجر، بالإضافة إلى المناطق المتاخمة لحدود المناطق المذكورة.

وعلى أية حال فقد شهد ظهور تنظيم داعش في الصحراء الكبرى في عام 2015 في البداية تحالفاً غير مستقر مع مختلف فصائل تنظيم القاعدة في منطقة الساحل، وهو ما مثل انحرافاً واضحاً عن الصراعات الجهادية المعتادة التي لوحظت في أماكن أخرى. ويعزى هذا الاختلاف جزئياً إلى العلاقات الشخصية بين أعضاء الجماعات المتنافسة. 

إذ يحمل تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، الذي نشأ من حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، والتي انفصلت بدورها عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في عام 2011، اختلافات جوهرية عن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. ويكمن الاختلاف الرئيسي في نهجهم تجاه السكان المحليين، إذ يستخدم تنظيم داعش في الصحراء الكبرى الترهيب والعنف الوحشي بينما تؤكد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على التعاون والالتزام بمقاصد الشريعة العامة داخل المجتمعات المحلية. وبينما حدثت تحالفات انتهازية، شهد عام 2019 قطيعة نهائية، مما أدى إلى أعمال عدائية مفتوحة بين المجموعتين. 

وقد أدت عوامل مثل صعود تنظيم داعش في منطقة الساحل، وانشقاق المقاتلين وانضمامهم إليه، والمفاوضات بين الحكومة المالية وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، إلى المساهمة في حدوث هذا التحول. بالإضافة إلى ذلك، أدت الخلافات حول قضايا مثل الإتاوات الرعوية في دلتا النيجر إلى زيادة حدة الصراع بينهما، مما يعكس تفسيرات متناقضة للمبادئ المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقضايا المساواة.

خريطة انتشار الإرهاب:

1. منطقة وسط مالي: تمثل منطقتا موبتي وسيغو، الجزء الأوسط من مالي، ومنذ عام 2015، أصبح وسط مالي معقلاً لكتيبة ماسينا، وهي مجموعة يقودها الداعية الفولاني أمادو كوفا. وقد أدى العنف الذي ارتكبته هذه المجموعة إلى تحويل مركز العنف في مالي بشكل كبير من المناطق الشمالية إلى المناطق المحلية الوسطى، ولاسيما، باندياجارا، وبانكاس، ودجيني، ودوينتزا، وكورو، وتينينكو، وموبتي، وماسينا، ونيونو.

2. منطقة الحدود الثلاثية: تغطي هذه المنطقة، التي يطلق عليها اسم ليبتاكو-غورما، أجزاء من شمال مالي (غاو، أنسونغو) وبوركينا فاسو (أودالان، سوم، سينو) وغرب النيجر، منطقة تيلابيري. وتاريخياً، تهيمن على المنطقة المجتمعات الرعوية، ولاسيما الفولاني، ولكن أيضاً الطوارق والغورما. وأصبحت هذه المنطقة بؤرة للعنف في منطقة الساحل. وتشهد المنطقة وجود العديد من الجماعات الإرهابية: سواءً أكانت الجماعة الجهادية البوركينية أنصار الإسلام، أم الجماعات الأخرى التي تقاتل تحت راية تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين؛ وغيرها التي ترتبط بالأحرى بتنظيم داعش في الساحل كما ذكرنا آنفاً. 

3. غرب النيجر: في حين أن العنف الجهادي في النيجر يمثل 10% فقط من إجمالي أعمال العنف في المنطقة (طبقاً لمركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، 2022)، فقد كان هناك ارتفاع في النشاط الجهادي في غرب النيجر. ويُعد تنظيم داعش في الساحل بمثابة المجموعة الرئيسية العاملة في المنطقة، إذ يسيطر على حدود النيجر مع مالي وبوركينا فاسو. علاوة على ذلك، بالمقارنة مع البلدين الآخرين (مالي وبوركينا فاسو)، فإن العنف ضد المدنيين أعلى بكثير في النيجر. ويبدو أن استهداف المدنيين هو تكتيك متعمد لترهيب المجتمعات المحلية وإجبارها على التعاون أو تحرير المنطقة. وهذا يمنح الجماعات الجهادية قدرة أكبر على السيطرة على الأراضي.

4. شمال وسط بوركينا فاسو: يقال إن المنطقة عانت من أسرع تصعيد للعنف في منطقة الساحل، بقيادة كتيبة ماسينا، بالإضافة إلى فلول أنصار الإسلام. وقد أدى العنف إلى نزوح ما يقرب من مليوني شخص، لجأوا إلى مخيم للنازحين في كايا، العاصمة الإقليمية وخامس أكبر مدينة في بوركينا فاسو. هناك أيضاً مناجم ذهب كبيرة في المنطقة، بما في ذلك ثلاثة مناجم صناعية على الأقل، وعشرات من عمليات الاستغلال الحرفي المعلن عنها رسمياً. وتمثل هذه المواقع مصدراً مهماً للدخل للجماعات الجهادية.

5. جنوب غرب وجنوب شرق بوركينا فاسو: يمكن أن تُعْزى جميع الحوادث التي وقعت في جنوب شرق وجنوب غرب بوركينا فاسو تقريباً إلى مجموعات مرتبطة بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين. فمنذ عام 2019، أدى تصاعد النشاط العنيف المنسوب إلى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى زعزعة استقرار شرق بوركينا فاسو على طول الحدود مع النيجر. ومنذ عام 2021، تركز العنف بشكل متزايد في منطقة غورما. وتستخدم الجماعات الجهادية المتنزهات الطبيعية الممتدة إلى النيجر وبنين وتوغو المجاورة على وجه الخصوص للتحضير لهجمات على هذه البلدان الساحلية.

ديناميكيات متغيرة:

يمكن القول إجمالاً إن الانتشار الأوسع للجماعات الجهادية في منطقة الساحل له جذوره في ديناميكيات بالغة التعقيد والتشابك، بما في ذلك تصاعد التوترات العرقية في مالي. فقد أدت التهم الموجهة ضد مجتمعات بأكملها، وخاصة الفولاني، بارتباطها بالأنشطة الجهادية، إلى علاقات صراعية ومميتة بين المجتمعات المحلية. 

كما أدى استغلال الصراع على الأراضي والموارد من قبل زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي، إلى زيادة انتشار الجهادية العنيفة. وكان الاستياء بين رعاة الفولاني من الحكومة التي تعطي الأولوية للتوسع الزراعي على الرعي يصب في مصلحة القادة الجهاديين، الذين استفادوا من هذه الإحباطات. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت البنية الاجتماعية داخل مجتمعات الفولاني، والتي تتميز بالانقسامات الهرمية، في تجنيد شباب الفولاني في الجماعات الجهادية التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. 

يسلط توسع العمليات العسكرية الجهادية في بوركينا فاسو والنيجر، الضوء على الحدود التي يمكن اختراقها وتسهل الأنشطة الإجرامية، مما يوفر للجماعات الجهادية بيئة مواتية لتمددها وتوسعها. ويؤكد تصاعد العنف في المنطقة، وخاصة في بوركينا فاسو، تعرض منطقة الساحل للأنشطة الجهادية الإرهابية، مما يفرض تحديات كبيرة على الأمن الإقليمي.

في الختام، يسلط صعود تنظيم داعش في منطقة الساحل الضوء على مشهد معقد يتسم بالصراعات على السلطة، والتحولات الاستراتيجية، والعواقب المترتبة على انخفاض الوجود العسكري الغربي. ومع استمرار المجموعات الإرهابية في التوسع وتكييف تكتيكاتها، يواجه المجتمع الدولي التحدي المتمثل في معالجة ديناميكيات الإرهاب المتطورة في القارة الإفريقية. 

إن ميل الأزمة في منطقة الساحل إلى الامتداد إلى بلدان أخرى في المنطقة أمر ممكن الحدوث للغاية. وبما أن استجابة الاتحاد الإفريقي لتحديات انعدام الأمن هذه تتطلب جهوداً متضافرة على المستويين الإقليمي والقاري، فإن ثمة حاجة لنمط من الدبلوماسية المتعددة الأطراف لإدارة جهود الشركاء الدوليين وتكتلات القوى في المنطقة. وإذا تم تبني مثل هذه الدبلوماسية بشكل مناسب، فقد يكون ذلك بمثابة إشارة إلى حقبة من التغيير الإيجابي في منطقة الساحل. ويمكن أن يعني أيضاً نظاماً للتنمية والازدهار الاقتصادي. وفي المقابل، إذا لم تتم إدارة الجهود التي يبذلها الاتحاد الإفريقي بشكل مناسب، فقد ينذر ذلك بتصادم المصالح غير المقيدة من قبل وسطاء القوى الكبرى المتنافسة في منطقة تعاني من تصاعد مؤشرات عدم الاستقرار وانعدام الأمن.