جفاف الممرات:

أثر المناخ على المنافسة بين قناة بنما وسكة حديد المكسيك

07 December 2023


أصبحت الممرات الملاحية وسلاسل الإمداد والتجارة العالمية تواجه العديد من المخاطر والتحديات في الآونة الأخيرة، وهذه المرة ليست بسبب تفشي جائحة "كورونا" أو استمرار تأثير الحرب الروسية الأوكرانية؛ لكن بسبب الجفاف القوي الذي تتعرض له قناة بنما بفعل التغيرات المناخية، فضلاً عن انعكاسات الحرب الدائرة بين إسرائيل والفلسطينيين على القنوات الملاحية والمضائق البحرية في منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً أن هذه المنطقة يعبر من خلالها حوالي 40% من بترول العالم وتستحوذ على نحو تريليون دولار من قيمة البضائع السلعية سنوياً، ولاسيما في ظل قيام مليشيا الحوثيين في الأيام الماضية باستهداف عدد من السفن التابعة لإسرائيل في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، الأمر الذي دفع شركات التأمين العالمية لرفع علاوة مخاطر الحرب.

وفي ضوء التحديات سالفة الذكر، ربما أصبحت هناك حاجة مُلحة للتفكير في وجود بدائل للمرات الملاحية القائمة، إذ تفكر الصين في إنشاء قناة نيكاراغوا، وتبني مبادرة الحزام والطريق. وتتجه كل من الهند وإيران وروسيا إلى زيادة التجارة عبر ممر النقل الدولي الشمال – الجنوب. كما تضخ روسيا مزيداً من الاستثمارات في طريق القطب الشمالي. ومن جهتها، طرحت الولايات المتحدة فكرة مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا. وتفكر إسرائيل في مدى جدوى إمكانية شق قناة بن غوريون، فضلاً عن اتجاه المكسيك لإعادة إحياء خط سكك حديد كبديل لقناة بنما.

الجفاف في قناة بنما:

اتخذت قناة بنما مجموعة من الإجراءات لتوفير المياه والحفاظ عليها في عملية الشحن، بما في ذلك استخدام أحواض توفير المياه في الأهوسة الجديدة (Neo-Panamax)، لكن تأخر ونقص موسم الأمطار هذا العام أجبر إدارة القناة على تقليل الطاقة الاستيعابية وتخفيض مستمر للغاطس المسموح به لعبور السفن في الأهوسة الجديدة لينخفض من معدله الطبيعي والبالغ 15.2 متر إلى حوالي 13.4 متر في يوليو 2023.

وخلال شهر سبتمبر الماضي، قررت هيئة قناة بنما استمرار العمل بالقيود المفروضة لمدة عام وحتى سبتمبر 2024، مع الإبقاء على متوسط العبور في حدود 32 سفينة يومياً. ومع تراجع كمية الأمطار في أكتوبر الماضي بنسبة 41% مقارنة بمستويات عام 1950، وتوقع تراجع الأمطار خلال باقي الموسم بنسبة 38%، أعلنت قناة بنما في 30 أكتوبر الماضي عن استمرار تخفيض الطاقة الاستيعابية من أعداد السفن لتجنب تخفيض الغاطس المسموح به دون مستوى 13.41 متر، ليتم تطبيقه بدءاً من 3 نوفمبر الماضي.


وأثرت التخفيضات المتتالية في مدى اعتمادية قناة بنما في الخطط المستقبلية لدى خطوط الشحن والشركات العالمية، خصوصاً مع إعطاء أولوية لسفن الحاويات والغاز الطبيعي، وتوقع توقف عبور كل من سفن البترول وسفن الصب الجاف من الأهوسة الجديدة بشكل نهائي بدءاً من فبراير 2024.

وأدت المشكلات والاختناقات المرورية التي سببها الجفاف لقناة بنما، إلى تجدد زيادة الاهتمام بمشروع خط سكة حديد المكسيك أو ما يُطلق عليه "برزخ تيهوانتيبيك للممر بين المحيطات" Tehuantepec Isthmus Interoceanic Corridor (CIIT)، إذ يهدف إلى ربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلسي في جنوب شرق المكسيك من خلال مسار نقل متعدد الوسائط يجمع بين البنية التحتية للسكك الحديدية والموانئ والمطارات والطرق لنقل البضائع كبديل ومنافس لقناة بنما.

خط سكة حديد المكسيك:

تحاول الحكومة المكسيكية إحياء خط السكك الحديدية الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمان، إذ تم بناؤه لأول مرة لصالح حكومة الرئيس الأسبق، بورفيريو دياز، وتم افتتاحه في عام 1907، وكان يعبر من خلاله 60 قطاراً من وإلى موانئ سالينا كروز وكواتزاكوالكوس، لكن تم تدمير هذا الخط مع اندلاع الثورة المكسيكية، ثم تم التخلي عنه مع افتتاح قناة بنما في 1914. 

وأصبح هذا المشروع اليوم كياناً قانونياً عاماً وهيئة لا مركزية لها أصولها الخاصة، تم إنشاؤها في عام 2019 بموجب مرسوم من الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. وفي عام 2020، تم تطوير العمل في هذا المشروع في أضيق نقطة في سواحل المكسيك، والتي تربط المحيطين الهادئ والأطلسي، في ظل خطة طموحة للحكومة تهدف إلى أن يتمكن هذا المسار من منافسة قناة بنما المزدحمة حالياً وتعاني من شدة الجفاف، وأن يصبح أحد أكثر القنوات كفاءة وأهمية في العالم، وأن يصبح وسيلة سريعة وفعالة لنقل البضائع والركاب. وأعلنت الحكومة عن استثمارات في هذا المشروع بقيمة 2.85 مليار دولار.

ويتكون هذا المشروع من خط سكة حديد عبر شريط من الأرض بطول 303 كيلومترات (186 ميلاً) من ميناء سالينا كروز في أواكساكا على المحيط الهادئ إلى كواتزاكوالكوس في فيراكروز على الجانب الآخر من ممر تيهوانتيبيك. ويتضمن المشروع العمل على 459 كيلومتراً من المسارات بالإضافة إلى 12 محطة، إذ يحتاج إلى 9 محطات و87 جسراً و328 كيلومتراً من المسارات إلى العمل في قسم كواتزاكوالكوس-بالينكي، الذي سيتصل بخط سكة حديد قطار مايا. كما يتضمن المشروع تحديث الموانئ في سالينا كروز وكواتزاكوالكوس، وإنشاء طريق سريع جديد عبر الممر و10 مجمعات صناعية.

وتأمل الحكومة المكسيكية في أن يبدأ تشغيل الخط في ديسمبر 2023 برحلتين يومياً ذهاباً وإياباً للركاب وثلاث رحلات للبضائع. ومن المتوقع بحلول عام 2028 أن يشهد الخط عبور 300 ألف حاوية بضائع سنوياً عن طريق السكك الحديدية، ليصل إلى 1.4 مليون حاوية – أي حوالي 33 مليون طن - بحلول عام 2033. بينما قامت قناة بنما، التي يبلغ طولها 80 كيلومتراً، بنقل نحو 10.9 مليون حاوية مكافئة وحوالي 63.2 مليون طن في عام 2022.


أهداف المشروع:

يستهدف خط سكك حديد المكسيك تحقيق الأهداف التالية:

1- زيادة معدل نمو الاقتصاد المكسيكي: عززت المكسيك مكانتها كأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة وحلت محل الصين خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023، وفقاً لتقرير "بيزنس إنسايدر" الأمريكي. وتتفاءل الحكومة المكسيكية بشأن آفاق خط السكك الحديدية الجديد بالتزامن مع تنامي العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة بسبب القرب الجغرافي مقارنة ببنما، وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. ويمكن أن يمثل الممر التجاري حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك بمجرد تشغيله بكامل طاقته بحلول عام 2033، وفقاً لتوقعات وزيرة الاقتصاد المكسيكية.

2- جذب الاستثمارات الأجنبية: يهدف الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، من هذا المشروع، إلى جذب الاستثمارات إلى مناطق جنوب المكسيك الأكثر فقراً، إذ يُتوقع أن يجذب المشروع استثمارات بقيمة 200 مليار دولار بحلول عام 2050، عن طريق جذب الشركات المكسيكية التي تستخدم قناة بنما، وجذب حركة مرور الحاويات العابرة للقناة لتمر عبر خط سكك حديد المكسيك. كما يسعى هذا المشروع إلى الاستفادة من رغبة الشركات المتعددة الجنسيات في أن تكون أقرب إلى الولايات المتحدة، ولاسيما خلال فترات انخفاض منسوب المياه في قناة بنما التي تعاني من موجات جفاف متكررة بشكل متزايد.

3- إنشاء مناطق اقتصادية ولوجستية متكاملة: سوف يكون هذا المشروع مصحوباً بتنمية المناطق الصناعية، التي تم فتح مناقصات بشأنها، والتي تأمل الحكومة المكسيكية في أن تجتذب استثمارات بنحو 7 مليارات دولار. وتستهدف الطموحات الأكبر للمشروع جذب الشركات للإقامة بشكل دائم في المنطقة بواحدة من المجمعات الصناعية العديدة ومحاور التصنيع التي من المتوقع أن تستقر في المناطق المحيطة بالمشروع.

4- توفير طريق جديد للشحن الدولي: إن إحياء خط السكة الحديدية يعني أنه يمكن للسفينة تفريغ حمولتها من جانب واحد، وإرسالها بالسكك الحديدية عبر الخط، وإعادة تحميلها مرة أخرى على سفينة أخرى على الجانب الآخر، وبالتالي توفير طريق جديد يمكن من خلاله الشحن الدولي.

5- خلق فرص عمل جديدة وتطوير المناطق الجنوبية: نجح المشروع في خلق 800 فرصة عمل مباشرة ونحو 2400 فرصة عمل غير مباشرة، ويُتوقع أن يخلق 10 آلاف فرصة عمل مباشرة في عام 2024، و550 ألف فرصة عمل بحلول 2050، وفقاً لتصريحات المدير العام للمشروع. وهذا ما سيؤثر إيجاباً في تنمية المناطق الجنوبية الفقيرة من المكسيك. ويسعى المشروع إلى تعزيز البنية التحتية والنشاط الإنتاجي في القطاعات الإقليمية كافة، ما سيكون له أثر اجتماعي مهم للغاية، من خلال التخفيف من الوضعية الخاصة للمناطق التي كانت تعيش في فقر مدقع، وهي المناطق الزراعية بالدرجة الأولى.

التأثير الاقتصادي:

يتمثل التأثير الاقتصادي المتوقع لمشروع خط سكك حديد المكسيك، في النقاط التالية:

1- خلق مجمعات صناعية ومراكز تصنيع متكاملة: سيأتي التأثير الاقتصادي الأكبر لخط سكك حديد المكسيك من تطور البنية التحتية والمجمعات الصناعية ومراكز التصنيع ومشروعات تطوير السكك الحديدية والطرق، مثل قطار المايا، الذي ستتقاطع قدرات نقل البضائع فيه مع هذا المشروع العابر للحدود، إذ تتمثل هذه الفكرة في جعل أقطاب التنمية مرتبطة بالنشاط الصناعي الزراعي، وبالنشاط الهيدروكربوني - وخاصة الجزء الجنوبي من سالينا كروز - وحتى رؤية إمكانية تطوير تجمعات أخرى في المنطقة مثل صناعة الطيران في كويريتارو وصناعة السيارات في أغواسكاليينتس، إلى جانب جذب السياحة، وإنشاء مصفاة نفط جديدة بقيمة 18 مليار دولار.

2- خدمة السفن العملاقة: سيكون هذا المشروع العابر للحدود قادراً على الاستفادة من ميزة أخرى على قناة بنما، إذ سيتمكن من خدمة السفن العملاقة التي تحمل أكثر من 15 ألف حاوية والتي لا تستطيع عبور قناة بنما.

3- توفير الوقود: ستسافر البضائع المتجهة من آسيا إلى الولايات المتحدة مسافة أقل بمقدار 8 آلاف كيلومتر عند العبور عبر الممر العابر للحدود، مقارنة بقناة بنما، مما يؤدي إلى توفير الوقود، بما يصل إلى مليون دولار أمريكي لكل رحلة.

4- تحسين البيئة وتوفير البصمة الكربونية: نظراً لأن القطار سيكون كهربائياً، فإن شحنات البضائع لن تكون مستدامة فحسب، بل ستكون أيضاً أكثر كفاءة وأرخص وأقل من حيث اختصار المسافة.

منافسة قناة بنما:

من المُتوقع أن تبلغ طاقة الشحن السنوية القصوى لمشروع خط سكك حديد المكسيك حوالي 10.5% من إجمالي كمية البضائع المنقولة عبر قناة بنما في عام 2022، وفقاً لتقديرات صحيفة "فايننشال تايمز".

وفي سبتمبر2023، أقر مدير قناة بنما بأنه في ظل مشكلات المياه التي تواجهها القناة، فإن المشروع المكسيكي يمكن أن يشكل تهديداً محتملاً للقناة، لكنه أكد أنه لن تكون هناك حاجة إلى طريق بديل إلا إذا كانت القناة في وضع حيث لا يوجد ماء على الإطلاق. 

وفي حالة انتظام كل من خدمات النقل البحري لقناة بنما وعودة الأمطار لمستوياتها الطبيعية، من المُتوقع أن تعود معظم البضائع التي سيتم نقلها برياً عبر خطوط السكك الحديدية المكسيكية بين دول الشرق الأقصى وأمريكا، لاستخدام النقل البحري، بينما سيقتصر خط سكة حديد المكسيك على نقل البضائع الحساسة للزمن كما هو الحال في الجسر البري الذي ينقل البضائع بين الساحل الشرقي والساحل الغربي الأمريكي.

ولا يمثل خط سكك حديد المكسيك تهديداً وجودياً للتجارة عبر قناة بنما؛ نظراً لارتفاع تكلفة النقل عبر خطوط السكك الحديدية والتي تتراوح ما بين 3 إلى 5 أضعاف تكلفة النقل عبر طريق قناة بنما البحري، ومحدودية طاقة النقل باستخدام السكك الحديدية على الطريق المذكور بسعة القطار.

ولكي يصبح خط سكك حديد المكسيك منافساً لقناة بنما، يجب أن تكون تكلفة النقل عليه أرخص، وأن يكون أكثر أمناً وأقل في نسبة المخاطر، وأكثر سرعة، وأقل في احتمالات التوقف والتأخير مقارنة بطريق النقل عبر قناة بنما. وبالتالي، عند مقارنة النقل البحري عبر قناة بنما بخط السكك الحديدية في المكسيك، يتضح أن النقل بالسكك الحديدية أسرع في زمن الرحلة من النقل البحري، لكن النقل البحري أقل في التكلفة وأرخص من النقل بالسكك الحديدية، كما أنه أقل في نسبة المخاطر، فضلاً عن أن النقل البحري أقل في احتمالات التوقف والتأخير عن النقل بالسكك الحديدية.

ختاماً، يمكن القول إنه في ضوء الجفاف الشديد الذي تتعرض له قناة بنما بسبب التغير المناخي، ويُتوقع معه انخفاض أعداد السفن العابرة حتى سريان موسم الأمطار في العام المقبل؛ من المُتوقع أن يشكل خط سكك حديد المكسيك تهديداً محتملاً لقناة بنما ويستحوذ على جزء من البضائع التى كانت ستعبر القناة، لكنه لن يكون بديلاً كاملاً للقناة في ظل محدودية البضائع، والتحديات الأمنية والبيئية واللوجستية التى يمكن أن تواجه هذا المشروع.