النقل المُستدام:

المناطق منخفضة الانبعاثات.. هل تنتقل إلى الشرق الأوسط؟

20 September 2023


يترقَّب العالم انعقاد مؤتمر القمة الثامنة والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28) في دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة من 30 نوفمبر وحتى 12 ديسمبر 2023، حيث ستشهد القمة أول تقييم دولي لنتائج التقدُم المُحرز في اتفاق باريس، والذي يوضح كيف يسير العالم نحو إدارة أزمة المناخ ونحن في منتصف الطريق، فقد مرت سبع سنوات على الاتفاق، وتتبقى سبع أخرى حتى عام 2030، يتعين خلالها على العالم خفض الانبعاثات بنسبة 43%.

ومن أجل تجنب الأسوأ، يجب أن تقتصر زيادة درجة الحرارة العالمية على 1.5 درجة مئوية فقط فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ويتطلب تحقيق مستهدفات اتفاق باريس مواصلة العمل بجدية نحو خفض الانبعاثات والوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050. وهذا ما دفع العديد من الدول إلى اتباع آليات متنوعة لخفض الانبعاثات.

وفي هذا السياق، تتسبب حركة المرور على الطرق في حوالي 39% من انبعاثات أكاسيد النيتروجين الناتجة عن وسائل النقل، و13% من المواد الجسيمية، و25% من انبعاثات الغازات الدفيئة. لذا تُعد سياسة المناطق منخفضة الانبعاثات (Low Emission Zones) "LEZ"، من ضمن السياسات المختلفة المُطبَّقة للحد من الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل.

المناطق منخفضة الانبعاثات:

تُعرف المناطق منخفضة الانبعاثات (LEZ) بأنها نطاقات يتم فيها تقييد حركة المركبات المُسبِّبة للتلوث بطرق مختلفة، وعادة ما تكون داخل المدن الكبرى، حيث تُفْرَض قيود مختلفة على المركبات الأكثر تلويثاً. وكانت القيود تستهدف في البداية مركبات النقل الثقيل التي تعمل بوقود السولار على وجه الأولوية، لكنها توسعت لاحقاً لتشمل مزيداً من أنواع المركبات مصحوبة بتدابير أخرى. إذ تشير القيود المفروضة على المركبات إلى أن هناك حاجة إلى وضع تدابير موازية للتأكد من مدى ملاءمة المنطقة لاستخدام بدائل التنقل الأخرى مثل توفير أماكن للمشاة، وراكبي الدراجات، والنقل العام والمساحات العامة، وما إلى ذلك.

ومن المُهم ملاحظة أن مجالات لوائح تقنين دخول المركبات إلى المناطق الحضرية، وسياسات الحد من التلوث، واسعة للغاية من حيث المحددات، ومتنوعة من حيث القواعد والمسميات. إذ تتبع بعض المدن نفس اللوائح الخاصة بالمناطق منخفضة الانبعاثات، ولكن يتم إدراجها تحت مسمى مختلف مثل المناطق البيئية، والمناطق محدودة الحركة المرورية، وغيرها. وتُعد العاصمة الإيطالية روما مثالاً جيداً للمدينة العالمية التي تنفذ تدابير للحد من تلوث الهواء، وتحسين لوائح تقنين دخول المركبات إلى المناطق الحضرية، حيث بدأت تطبيق السياسة المُسماة بالمناطق محدودة الحركة المرورية منذ عام 1989، إلا أنها لم تؤكد الجانب البيئي منذ البداية، وكانت تستهدف تقليل حجم حركة المرور داخل المنطقة التاريخية القيّمة بالدرجة الأولى. 

ويمكن اعتبار تجربة "المناطق البيئية" (Environmental Zones) التي بدأت في السويد منذ عام 1996، هي الإرهاصات الأولى لما نراه اليوم من ممارسات متعلقة بالمناطق منخفضة الانبعاثات. وعلى غرار السويد، تم تنفيذ تلك المناطق في عدد قليل من المدن الأوروبية في مطلع الألفية في كل من ألمانيا وهولندا وشمال إيطاليا، وكذلك لندن في الفترة 2007-2008. ومنذ ذلك الحين، زاد عدد المناطق منخفضة الانبعاثات بشكل مُطرد، وشهدت هذه التجربة توسعاً ملحوظاً في عدد من دول الاتحاد الأوروبي. 

سمات رئيسية:

يتم تحديد المناطق منخفضة الانبعاثات في نطاقات جغرافية محددة، وتنظيم عبور المركبات بها، بحيث تنخفض معدلات الانبعاثات الصادرة عن المنطقة ككل، ويعني هذا أن المركبات ذات الانبعاثات الأعلى لا يمكنها دخول المنطقة. وفي بعض المناطق، يتعين على المركبات الأكثر تلويثاً، دفع رسوم لدخول تلك المنطقة. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، لا يتم تنسيق متطلبات المناطق منخفضة الانبعاثات عبر الاتحاد، بل تخضع للوائح مختلفة على المستوى المحلي لكل دولة، لكنها تشترك في عدد من السمات، أبرزها ما يلي:

1- حظر دخول المركبات ذات الانبعاثات العالية: لا يُسمح للمركبات التي تزيد عن مستوى معين من الانبعاثات، وفقاً للوائح الاتحاد الأوروبي، بدخول المناطق منخفضة الانبعاثات. فعلى سبيل المثال، يُسمح فقط للمركبات من فئات حديثة محددة بدخول تلك المناطق، بينما لا يمكن دخول المركبات من الفئات الأقدم؛ بهدف الحد من الانبعاثات المختلفة للجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين.

2- فرض رسوم مرور: في بعض المناطق، يتم فرض رسوم على المركبات ذات الانبعاثات العالية لدخول المنطقة، بينما تدخل المركبات التي تستوفي حداً أدنى من المعايير بشكل مجاني. وتنطبق تلك المتطلبات على المركبات الثقيلة أو الخفيفة أو الاثنين معاً. 

3- تباين المدى الزمني للتطبيق: تعمل معظم المناطق منخفضة الانبعاثات 24 ساعة في اليوم/ 365 يوماً في السنة، باستثناء بعض المناطق التي تحدد أوقاتاً معينة للحظر. ويتم متابعة الالتزام بالمتطلبات باستخدام أنظمة المراقبة على مدار الزمن، مع وجود ملصقات على الزجاج الأمامي للمركبات المسموح بمرورها. وفي بعض المناطق، من الضروري التسجيل أو شراء ملصق قبل الدخول، ويُفرض ذلك على المركبات الأجنبية والمحلية.

تجارب دولية:

تُعد التجربة البريطانية فريدة فيما يتعلق بالمناطق منخفضة الانبعاثات، حيث بدأت لندن تطبيق سياسة هذه المنطقة منذ عام 2008، مع حظر دخول مركبات النقل الثقيل التي تعمل بالسولار من فئة Euro4 وأقل، بالإضافة إلى الشاحنات الكبيرة والحافلات الصغيرة التي تعمل بالسولار من فئة Euro3 وأقل. وتم تنفيذ التجربة بشكل تدريجي، إذ اعتمد بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هذا البرنامج حينما كان عمدة لندن في مارس 2015. ثم دخل حيز التنفيذ في إبريل 2019، حيث تم تطبيق منطقة الانبعاثات المنخفضة للغاية (Ultra-Low Emission Zone) "ULEZ" حول حدود وسط مدينة لندن فقط، وبها تم تطبيق حظر إضافي على السيارات الخاصة والدراجات البخارية والشاحنات الصغيرة. وجرت توسعة المنطقة على مرحلتين؛ أولاهما في عام 2021 لتضم الطرق الدائرية الشمالية والجنوبية، ثم توسَّعت المنطقة مجدداً في نوفمبر 2022 لتغطي جميع أحياء لندن، ودخل قرار التوسعة الأخير حيز التنفيذ بدءاً من 29 أغسطس 2023.  

وتعمل منطقة الانبعاثات المنخفضة للغاية في لندن على مدار الساعة طوال أيام السنة، باستثناء يوم عيد الميلاد (25 ديسمبر)، ويتم فرض غرامة يومية قدرها 12.5 جنيه إسترليني إذا كانت السيارة لا تستوفي المعايير المحددة للانبعاثات. ونجحت تلك السياسة في خفض عدد المركبات القديمة الملوِّثة التي دخلت هذه المنطقة بشكل كبير، حيث أصبح 97% منها الآن مطابقاً للمعايير البيئية، كما تشير التقديرات إلى انخفاض انبعاثات أكسيد النيتروجين بنسبة 26% منذ إبريل 2019 حتى يوليو 2023، مع انخفاض معدلات الجسيمات الدقيقة المُلوِّثة للهواء بنسبة 19% خلال نفس الفترة.

وفي العاصمة الصينية بكين، تم إطلاق المنطقة منخفضة الانبعاثات في سبتمبر 2017، حيث مُنعت مركبات الشحن الثقيلة التي تقل انبعاثاتها عن المعايير الوطنية الرابعة (National IV Standards) من دخول المنطقة. ودعَّمت الحكومة الصينية تكرار هذه التجربة في عدد من المدن الأخرى؛ بهدف تحسين جودة الهواء وصحة السكان، حيث يتعرض كل عام أكثر من مليار صيني للهواء السام لأكثر من ستة أشهر، مما يؤدي إلى تأثيرات خطرة على الصحة العامة، وما يرتبط بها من خسائر اقتصادية نتيجة ارتفاع معدلات الانبعاثات الصادرة عن قطاع النقل في الصين، والتي تُمثِّل ما بين 10 إلى 12% من إجمالي الانبعاثات على المستوى الوطني ككل، ونحو 26% من إجمالي الانبعاثات في المناطق الحضرية بشكل خاص. 

ومنذ يناير 2019، نجحت السلطات البلجيكية في فرض نحو 6500 غرامة على المركبات المُلوِّثة بعد تنفيذ برنامج بروكسل للمناطق منخفضة الانبعاثات، حيث تم التطبيق على مراحل تدريجية بدأت بإرسال رسائل تحذيرية لإبلاغ السائقين بالقواعد الجديدة. ثم بدأت هيئة الضرائب في إرسال الغرامات الأولى، وتُقدَّر بحوالي 350 يورو لكل مخالفة، إلا أن عدد الغرامات انخفض مع مرور الوقت، مما يشير إلى أن الامتثال الطوعي يزداد بشكل واضح. وتم توزيع نحو 200 كاميرا مُجهزة بتقنية التعرف التلقائي على لوحة الأرقام، تلتقط نحو أربعة ملايين صورة يومياً تفحصها الجهات المختصة للتأكد من أن تلك السيارات قد حصلت على تراخيص مسبقة لدخول المناطق منخفضة الانبعاثات، ومطابقتها للمعايير التي تستهدف الحد من الانبعاثات الكربونية.


اتجاهات متزايدة:

تُعدِّد نتائج دراسة التجارب الدولية المختلفة لإنشاء المناطق منخفضة الانبعاثات، المزايا التي تُحقِّقها هذه السياسة البيئية في خفض الانبعاثات، والحد من التلوث، والحفاظ على البيئة، وتحقيق وفورات مالية جيدة، من خلال تحسين الوضع الصحي نتيجة تحسين جودة الهواء، وخفض حركة المرور والحد من الاختناقات المرورية. فعلى سبيل المثال، أسهمت تلك السياسة في حماية المنطقة التاريخية في روما من الضغوط البيئية والضغط المروري الذي تُسبِّبه السياحة. وفي هولندا، انخفض عدد المركبات المُسبِّبة للتلوث في البلاد ككل بنسبة 18% عام 2017 مقارنة بعام 2015.   

كما تشير النتائج إلى وجود زيادة واضحة في أعداد المناطق منخفضة الانبعاثات، وتطور التوجهات العالمية نحو التوسُّع في إنشائها. ففي أوروبا وحدها، توجد حتى الآن 320 منطقة منخفضة الانبعاثات في 15 دولة أوروبية بزيادة قدرها 40% منذ عام 2019، ومن المُقرر أن يرتفع العدد إلى 507 مناطق في 17 دولة خلال السنوات الثلاث المقبلة. ويُوصي التقرير المُعنون بـ"حملة المدن النظيفة: اتجاهات التنمية للمناطق منخفضة وصفرية الانبعاثات في أوروبا"، والصادر في يوليو 2022، بضرورة قيام جميع المدن الأوروبية بإدخال المناطق منخفضة الانبعاثات في سياساتها الحالية، والبدء في التخطيط للمناطق صفرية الانبعاثات (Zero Emission Zones) "ZEZs" بحلول نهاية العقد الحالي.

فاعلية التطبيق:

تمثل المناطق منخفضة الانبعاثات إحدى السياسات البيئية المتزايدة في قطاع النقل، سواءً داخل أوروبا أم خارجها. وعلى الرغم من أنها تواجه العديد من الانتقادات، خاصةً أنها لم تنجح في الحد من المواد الجسيمية (خاصة من فئة PM10)، لكنها نجحت في الحد من انبعاثات أكاسيد النيتروجين والكربون الأسود وثاني أكسيد الكربون، فضلاً عن تقليل حركة المرور. كما تتعرض هذه المناطق للانتقاد أيضاً بسبب قيودها الصارمة التي تؤثر في أنواع مختلفة من المُستخدمين مثل أصحاب الأعمال، ووسائل النقل العام، والمركبات الخاصة، وشركات النقل الثقيل، وهواة جمع السيارات القديمة، مما يجعل من الصعب الحصول على دعم الجمهور العام بالكامل.

وبالرغم من وجود العديد من القيود والتحديات، فإن هناك مجالاً كبيراً لتحسين سياسة المناطق منخفضة الانبعاثات وتطويرها. لذلك، تعيد المدن تعديل أهداف سياساتها، كما أن الدول التي تسعى لتبني هذه السياسة يجب أن تضع بعين الاعتبار كيف ستضمن قبول الجمهور العام لها؟ وما هي السياسات والتدابير المُصاحبة التي سيتم اتخاذها للتخفيف من الآثار المترتبة على تلك القيود؟ لذا فإنه من الضروري تضمين المناطق منخفضة الانبعاثات في خطة وطنية أو محلية حتى يمكن تطبيقها بكفاءة وفاعلية.

ونظراً لأن تلك السياسة البيئية تستهدف الحد من تلوث الهواء من خلال التحكم في انبعاثات حركة المرور، فعادةً ما يتم تضمينها في الخطط الوطنية المختصة بحركة المرور و/أو جودة الهواء في المدينة، ويجب أن يتم التطبيق على مراحل، حيث تتضمن المرحلة الأولى قيوداً أقل وتمثل مصداقية نحو التنفيذ وميزة تسويقية للمراحل التالية. وبالتالي تُسهِّل تلك الخطوات المتدرجة التحوُّل طويل الأجل نحو النقل المُستدام، وهو ما يتطلب توفير المعلومات ونشر الوعي وتوفير منظومة متكاملة للرقابة والتقييم والتطبيق بشكل سليم.

وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط، لا توجد حتى الآن مناطق منخفضة الانبعاثات مُعلنة في أي من دول المنطقة، بيد أن ثمة بعض السياسات والبرامج البيئية لخفض الانبعاثات بشكل عام، وخاصةً في قطاع النقل. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، اعتمدت هيئة الطرق والمواصلات في دبي خطة طويلة المدى لجعل وسائل النقل العام خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050. كما أعلنت المملكة العربية السعودية، في يناير 2021، عن خطتها لإنشاء مدينة خالية من الكربون في نيوم.