استعادة التوازن:

توجهات سياسة مصر الخارجية في عهد السيسي

11 June 2014


لم يخلُ خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يوم 8 يونيو الجاري من رسائل واضحة حول الاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية للدولة المصرية عقب توليه السلطة، خلافاً للتوقعات المتداولة حول اتجاه الدولة المصرية للانكفاء على شؤونها الداخلية تحت وطأة تحديات استعادة الدولة المصرية، خاصة مكافحة الإرهاب والتصدي لتردي الأوضاع الاقتصادية وتحقيق الأمن والاستقرار، حيث تصدرت شعارات "العودة للمكانة التقليدية" و"نهاية التبعية" توجهات الرئيس السيسي تجاه الدور الخارجي لمصر في ظل التحولات الإقليمية المتلاحقة، والتحديات الأكثر خطورة على الأمن القومي المصري.

محددات الرؤية الخارجية للسيسي:

حكمت أطروحات السياسة الخارجية للرئيس عبدالفتاح السيسي في خطابه الرئاسي الأول عدة عوامل يمكن القول إنها تشكل منظوره لدور مصر الإقليمي والدولي والخطوط العريضة لسياستها الخارجية، من أبرزها:ـ

1- الخصائص الذاتية: إذ لا تنفصل الرؤية ابتداءً عن الخصائص الذاتية للسيسي كرجل دولة  ذي خلفية عسكرية استخباراتية، اتخذ من "استعادة قوة الدولة" و"العمل البناء" شعارات مركزية لحملته الانتخابية، ما سينعكس على مستوى الزخم والدافعية والاتزان وانضباط ردود الأفعال في سياسته الخارجية في مواجهة المخاطر الرئيسية التي تواجه الدولة المصرية، ناهيك عن المنظور الأمني الذي سوف يحكم رؤيته للتحولات الدولية.

2- الحرب على الإرهاب: فعلى الأرجح أن تنعكس الحرب على الإرهاب والمواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها على المواقف الخارجية للرئيس السيسي، خاصة في ظل تصاعد مساعي الجماعة لتدويل صراعها مع الدولة، سواء عبر اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية والمؤسسات الحقوقية العالمية أو عبر شن حملات إعلامية ضد الدولة المصرية.

 وعلى مستوى آخر، يرجح أن تشهد العلاقات المصرية مع الأطراف الداعمة للإخوان، مثل قطر وتركيا وحركة حماس، مراجعة جادة لتحييد التهديدات النابعة من التدخلات الخارجية.

3- التهديدات الحدودية: حيث أضحت سيولة الأوضاع على المناطق الحدودية تهديداً حيوياً للدولة المصرية، خاصة على خطوط التماس مع بؤر الصراعات الأكثر احتدماً في الإقليم، مثل الصراع المحتدم في ليبيا منذ إعلان عملية كرامة ليبيا من جانب اللواء خليفة حفتر، واحتدام الصراع بين فصائل الجيش الوطني الليبي والميليشيات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين والتيارات المتطرفة، فضلاً عن إشكاليات ضبط الحدود مع قطاع غزة،  الذي تسيطر عليه حركة حماس التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، والتوترات الحدودية مع السودان، خاصة عقب حشد الجيش السوداني على الحدود مع حلايب وشلاتين وتصريحات بعض المسؤولين السودانيين العدائية تجاه مصر.

4- التحفظ الغربي: يواجه السيسي في مستهل رئاسته جموداً في العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة، وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، وهو ما تجسد في انخفاض مستوى تمثيل تلك الدول في احتفالية تنصيب الرئيس، فالولايات المتحدة أرسلت "توماس شانون" مستشار وزير الخارجية للمشاركة في حفل التنصيب، وتأخر اتصال الرئيس أوباما بنظيره المصري المنتخب لتهنئته بالوصول للسلطة، وذلك في ظل الجدل حول مستقبل المعونة الأمريكية لمصر التي تم تجميدها قبيل منتصف أكتوبر 2013، فضلاً عن مفردات درج  خطاب الدول الغربية على توظيفها، مثل انتهاكات حقوق الإنسان، والمصالحة الوطنية، والتوقف عن اعتقال الناشطين، ودمج المعارضة في العملية السياسية.

استعادة التوازن:

بالرغم من تركيز الخطاب الرئاسي الأول للسيسي على الخطوط الرئيسية لبرنامجه الانتخابي فيما يتعلق بالشؤون الداخلية، إلا أنه عرض بصورة واضحة رؤيته حول مرتكزات السياسة الخارجية المصرية وترتيبة دوائرها، والتي جاءت تعبيراً عن سعي الرئيس السيسي لاستعادة الدافعية والاتساق في السياسة الخارجية المصرية. وبدت أهم الرسائل التي تضمنها الخطاب فيما يلي:ـ

1- بناء القوة الذاتية: حيث أكد الخطاب الرئاسي أن استقلال السياسة الخارجية المصرية واستعادة مصر دورها الرائد إقليمياً يتوقف على "العمل والبناء في الداخل" بهدف تعظيم محصلة القدرة الشاملة للدولة المصرية لتقوية ركائز دورها الإقليمي عقب عقود من استنزاف أرصدة القوة وتقييد دورها الإقليمي.

2- استقلالية القرار: لم يغب عن الرئيس السيسي التأكيد على استقلالية السياسة الخارجية المصرية عن الضغوط الخارجية بقوله: "لقد مضى عهد التبعية في العلاقات الخارجية لمصر"، وتأكيده أن "الندية" ستحكم نهج الدور الخارجي لمصر بالتوازي مع "الالتزام والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى" باعتبارها المبادئ الرئيسية الموجهة للسياسة الخارجية المصرية.

3- تدعيم مرتكزات المكانة: كشف خطاب الرئيس السيسي عن عزمه إعادة مصر لدورها العربي، حيث أكد أن مصر يجب أن تستعيد مكانتها التقليدية "شقيقة كبرى تدرك تماماً أن الأمن القومي العربي خط أحمر"، وتتضح رؤية السيسي لمرتكزات الدور الإقليمي لمصر لأنها "نقطة توازن واستقرار في الشرق الأوسط" و"مركز للإشعاع الديني". ويتسق ذلك مع تأكيد السيسي على "الأمن القومي العربي" باعتباره خطاً أحمر يستوجب الحماية تعبيراً عن توجهات عروبية غالبة على خطاب السيسي وإن اختلفت عن الرؤية الناصرية في اقترانها بالاستقرار والتوازن.

ومن ثم يمكن التأكيد على هيمنة التوجهات المحافظة المتزنة الساعية للحفاظ على الوضع الراهن على رؤية الرئيس للدور المصري بعيداً عن الاتجاهات الراديكالية السابقة للرئيس المخلوع محمد مرسي، التي تضمنت نزعات لتصدير عدم الاستقرار السياسي للجوار الإقليمي؛ مما تسبب في توتر العلاقات المصرية مع دول الجوار العربي، وربما يرتبط ذلك بموقفه المتحفظ من الصراع في سوريا وتأييده الضمني لتسوية سلمية تحافظ على وحدة الدولة السورية.

4- احتواء مصادر التهديد: بالرغم من تجنب الرئيس السيسي الإشارة في خطابه الرئاسي لمصادر التهديد الإقليمي لمصر، إلا أن مراجعة ما طرحه خلال الحملة الانتخابية يكشف تصوره لمحور عدم الاستقرار الإقليمي الذي تتمثل أضلاعه في قطر وتركيا وحركة حماس، وبدرجة أقل إيران خاصة تحذيره قطر بقوله "لا تخسروا الشعب المصري أكثر من ذلك" وإلقائه اللوم على الحكومة التركية في تدهور العلاقات بين الدولتين.

ويبدو أن سياسة الرئيس السيسي ستعتمد على مواجهة صارمة مع حركة حماس، التي أشار إليها في خطابه ضمناً واصفاً تهديداتها للأمن المصري بكونها "صغائر الجماعات الضيقة"، بالتوازي مع قطع أذرع التأثير القطري والتركي في الداخل المصري مع تجنب مواجهة مباشرة مع الدولتين أو تحسين العلاقات قبل أن تكف تلك الدول عن تهديد الداخل المصري، وتنهي تحالفها العابر للحدود مع جماعة الإخوان المسلمين.

ترتيب دوائر حركة مصر الخارجية:

يرجح أن تتبع السياسة الخارجية المصرية نهجاً يقوم على المزاوجة بين الانخراط الكامل في تحالف إقليمي محوري في مواجهة محور عدم الاستقرار الإقليمي سالف الذكر، والتأكيد على ثوابت السياسة الإقليمية لمصر، لاسيما رعاية القضية الفلسطينية والحفاظ على السلام مع إسرائيل، مع توسيع دائرة التفاعلات الدولية عبر تعزيز الشراكة مع القوى الدولية الصاعدة دون الاستغناء في المدى القريب عن العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، ومحاولة تجاوز فترة التوتر التي شابت العلاقات في إطار استقلالية القرار المصري، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما اتضح في خطاب الرئيس السيسي من خلال عدة نقاط محورية هي:ـ

1- تحالف استراتيجي صاعد: تضمن خطاب السيسي إشارات واضحة إلى مدى تماسك التحالف الاستراتيجي بين مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، خاصة السعودية والإمارات والكويت والبحرين، وهو ما اتضح في تأكيد السيسي أن "أمن الخليج جزء من الأمن القومي المصري"، وهو ما يتسق مع عبارات التقدير لقيادات هذه الدول التي أوردها السيسي في حواراته التليفزيونية أثناء التنافس الانتخابي على غرار وصفه العاهل السعودي الملك عبدالله بأنه "حكيم العرب" ووصفه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بأنه "لم يمت"، بعدما أشاد بصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة والفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ودعوته شعوب هذه الدول لحماية دولهم عبر الالتفاف حول قياداتهم، وتأكيده على أن زيارته الأولى الخارجية عقب توليه الرئاسة ستكون للملكة العربية السعودية.

2-  أولوية القضية الفلسطينية: لم يخرج السيسي عن مألوف السياسة الخارجية المصرية برؤيته القاطعة حول أولوية القضية الفلسطينية في السياسة الخارجية المصرية والدعم المصري المتواصل للشعب الفلسطيني حتى "إقامة دولة فلسطينية - مستقلة وكاملة السيادة - على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية"، إلا أن استطراده بالقول إن "مصر تعلي مصالح الشعوب العربية على صغائر جماعات ضيقة" تضمن رسالة إدانة مباشرة لحركة حماس بالتسبب في تهديد الأمن القومي المصري عقب سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر.

وبالرغم من تتابع تعهدات السيسي بالحفاظ على السلام بين مصر وإسرائيل والالتزام بالاتفاقيات الدولية الحاكمة للعلاقات بين الدولتين، إلا أنه أوقف تطور العلاقات بين الدولتين على تحقيق تقدم ملموس على صعيد القضية الفلسطينية، وهو ما انتقده وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان في أول بادرة لاختلاف ثوابت السياسة الخارجية بين الدولتين.

3- العودة للدائرة الأفريقية: حيث تضمن خطاب السيسي تأكيداً على الترتيب المتقدم للدائرة الأفريقية في السياسة الخارجية المصرية انطلاقاً من ثوابت الجغرافيا السياسية كون مصر "أفريقية الوجود والحياة" والإرث التاريخي للدور المصري بالقارة والريادة في دعم التحرر والتنمية، واقترن ذلك بإشارة قاطعة إلى النهج السلمي التوافقي الذي ستتبعه مصر تجاه قضية سد النهضة الأثيوبي واحتواء آثارها السلبية على العلاقات مع أثيوبيا والدول الأفريقية عبر تحقيق التوازن بين حق أثيوبيا في التنمية وحق مصر في الحياة من خلال شراكة تنموية واقتصادية كاملة مع دول القارة تعظم من المنافع المتبادلة.

ومن ثم فمن المتوقع أن يتبع السيسي سياسة بناءة يغلب عليها الحذر الممزوج بالإيجابية تجاه أثيوبيا مع إجراءات لبناء الثقة لرأب الصدع مع الدول الأفريقية الناجم عن إهمال نظم الحكم السابقة للعمق الأفريقي لمصر، وهو ما لا يعني استبعاد خيارات أكثر حسماً في حال عدم استجابة أثيوبيا لسعي مصر للتوصل لتسوية تفاوضية وتصاعد التهديد الذي يمثله سد النهضة على الأمن القومي المصري.

4- التوازن في العلاقات الدولية: تكشف مراجعة الخطاب السياسي الصادر عن السيسي على مدار الانتخابات الرئاسية عن إدراكه ضرورة الحفاظ على العلاقات المصرية ـ الأمريكية، وأن التقارب بين الدولتين يحقق مصالح استراتيجية مشتركة لا يمكن تعويضها بإحلال واستبدال الشراكة مع الولايات المتحدة بأي من القوى الدولية الصاعدة، إلا أن السيسي لن يبدي أي استعداد لتقديم تنازلات داخلية فيما يتعلق بإعادة دمج الإخوان في العملية السياسية لإرضاء الولايات المتحدة وليس وارداً في حساباته التفريط في استقلالية القرار المصري.

ومن ثم يرجح أن يعمد السيسي لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية لمصر من خلال تعزيز العلاقات مع روسيا والصين بقدر المساحة المتاحة للمناورة في العلاقات المصرية الأمريكية دون أن يخاطر بتوتير العلاقات المصرية ـ الأمريكية أو الإيحاء بأن مصر تحاول الاستعاضة عن الشراكة مع الولايات المتحدة بتعزيز علاقاتها مع تلك الدول.

إجمالاً، تعكس أطروحات السياسة الخارجية للرئيس السيسي في مستهل خطاباته الرئاسية رؤية واقعية برجماتية تسعى للتعامل مع الأوضاع الإقليمية من منظور مصلحي محافظ، يضع الاستقرار والتوازن وتحييد التهديدات الداخلية كقيم مركزية تفرضها الأوضاع الداخلية المعقدة ومقتضيات إعادة بناء الدولة وتعظيم قدراتها، ومن ثم يتوقع أن يتبع السيسي سياسة خارجية يغلب عليها الالتزام بالثوابت المركزية للسياسة المصرية والتركيز على تعزيز التحالف المصري مع السعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن لمواجهة محور التهديدات الإقليمية وتوسيع دوائر الحركة الخارجية، واستعادة الزخم في البعد الأفريقي لمصر والتقارب مع القوى الصاعدة في النظام الدولي.