الانتخابات في 2024.. هل تُعيد تشكيل النظام الدولي؟

14 September 2023


يستعد عدد كبير من دول العالم في عام 2024 لانتخابات تتضمن منافسات رئاسية مهمة من المقرر إجراؤها في الولايات المتحدة وروسيا ومصر، إلى جانب انتخابات برلمانية في الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا. وستحدد نتائج هذه الانتخابات من سيقود هذه الدول في المستقبل القريب، وستؤثر بالتالي تأثيراً كبيراً في تشكيل سياساتها الداخلية والخارجية. وتُعد هذه الدول جميعها فواعل محورية على المستويين الإقليمي والعالمي، وستؤدي سياساتها دوراً رئيسياً في تحديد النظامين العالمي والإقليمي وتشكيلهما.

وستنعكس نتائج هذه الانتخابات كلها دون استثناء انعكاساً كبيراً على مستقبل إدارة الشؤون الدولية، ولاسيما نتائج انتخابات الولايات المتحدة وروسيا على الساحة العالمية، والانتخابات في مصر والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا على نطاق جنوب العالم. 

سيركز هذا المقال بالأساس على تحليل انتخابات روسيا والولايات المتحدة، نظراً لثقل الدولتين وأثرهما البالغ في إعادة تشكيل النظام الدولي، خاصة في ضوء المخاوف التي أثيرت مؤخراً بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، إما بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين الولايات المتحدة والصين، نتيجة لما تتبادله روسيا والولايات المتحدة من تصريحات تصادمية وحادة، إلى جانب تجدد التحذيرات من احتمال العودة إلى ديناميكيات الحرب الباردة.

ومن الجدير بالذكر أن المجتمعين الأمريكي والروسي يمران بعملية إعادة تشكيل جذري لهويتهما السياسية في القرن الحادي والعشرين، وهو تحوّل يتسم بمراجعة مختلف جوانب المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني بالدولتين، وإعادة تقييمه على نطاق واسع.

الولايات المتحدة: "الانعزالية الوسطية"

تشهد الولايات المتحدة تحولاً ملحوظاً في المشهد السياسي، فلقد زادت بشدة نسبة الناخبين من أصل إسباني ممن يتعاطفون مع التيارات السياسية اليمينية، ويدعمون شخصيات مثل دونالد ترامب، وكذلك حاكم فلوريدا رون ديسانتيس من الحزب الجمهوري، وغيرهما ممن يميلون إلى التطرف. وفي الوقت نفسه، تزداد ثقة وعزيمة الناخبين السياسيين ذوي الميول اليسارية ممن يدعون إلى سياسات أكثر تقدمية، مثل زيادة الدعم الاجتماعي للسكان المحرومين اقتصادياً، واتخاذ مواقف أكثر انفتاحاً تجاه المهاجرين. وتتوافق هذه الدائرة الانتخابية التقدمية إلى حد كبير مع الحزب الديمقراطي.

وفي هذا المناخ السياسي شديد الاستقطاب، يواجه الطرفان مخاوف بشأن الطريقة التي ينظر بها جمهور الناخبين على النطاق الأوسع إليهما، فالحزب الجمهوري يشعر بالقلق من أن يُنظر إليه باعتباره ممثلاً لليمين السياسي فحسب، في حين يُحذر الحزب الديمقراطي من تصنيفه بأنه شديد اليسارية. لذا تتوقف نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة على الناخبين الوسطيين الذين لم يحددوا أمرهم بعد، وهو ما يدفع كلا الطرفين إلى التودد لهذه الفئة الديموغرافية الحاسمة. ونتيجة لذلك، يسعى كلا الحزبين إلى حمل رسالة وسطية، مع الحفاظ على قواعدهما الانتخابية الرئيسية، فالجمهوريون يقفون على يمين الوسط، مؤكدين التزامهم بالحد من دور الحكومة في مختلف جوانب المجتمع، بينما يقف الديمقراطيون على يسار الوسط، منادين بدور حكومي أكثر قوة واستباقية في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية، وسياسات الحد الأدنى للأجور، ودعم العاطلين عن العمل.

وتشغل أذهان المجتمع الأمريكي قضية مهمة أخرى تتعلق بدور الولايات المتحدة على الساحة العالمية، فهناك رغبة سائدة في دعم الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، حيث يدعو البعض إلى تبني دول أخرى قيم النظام الأمريكي، على المستويين الدولي والمحلي. وتنتقد هذه الفئة سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وجه الخصوص، وتشعر بقلق عميق إزاء النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين باعتباره تهديداً محتملاً.

ومع ذلك، يوجد تباين كبير بين رغبة المجتمع الأمريكي في الهيمنة وبين رغبته في تحمل المسؤوليات المرتبطة بأدواره الأمنية والسياسية العالمية. على الجانب الآخر، هناك قطاع من المجتمع الأمريكي أكثر براغماتية، يفضل اتباع نهج أكثر تعاوناً ونفعياً مع الشؤون الدولية، حيث يعطي الأولوية للمصالح والعلاقات الوطنية القائمة على المنفعة المتبادلة مع منح استثناءات أقل، حيث يرى الولايات المتحدة كقوة اقتصادية كبرى قادرة على ردع التحديات العسكرية أو الاستجابة لها، دون تحمل مسؤوليات واسعة النطاق تجاه الآخرين، أو محاولة فرض نظامها الخاص على الدول الأجنبية. ويعكس التحول المتكرر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مدى العقود الثلاثة الماضية – حيث صوّت الناخبون لشخصيات شديدة الاختلاف، بل ومتناقضة في بعض الأحيان – هذا الخلاف داخل المجتمع.

وبغض النظر عن التفاصيل، فمن الواضح أن الولايات المتحدة اليوم تمر بصراع مع تحديات كبيرة، وتشهد فترة من التفكير والمراجعة. والجدير بالذكر أن الرمز الجمهوري الرائد اليوم، دونالد ترامب، الذي يوصف بأنه مناهض للمؤسسات، قد اتُخذت ضده إجراءات لعزله مرتين، مع احتمال توجيه تُهم عديدة له بحلول فترة الانتخابات. وعلى نحو مماثل، قدم الحزب الديمقراطي جو بايدن كمرشح رئاسي له، وهو خيار يتعارض مع التقاليد الأمريكية المتمثلة في تفضيل المرشحين الأصغر سناً والأكثر تواكباً مع العصر في الأغلب.

روسيا: "محاسبة النفس"

منذ تولي ميخائيل غورباتشوف الرئاسة ودعوته إلى "البيريسترويكا" (أي إعادة الهيكلة)، التي أحدثت تحولاً جذرياً في النظام الشيوعي المركزي، بدأ المجتمع الروسي في التحرك نحو مسار المادية، والفردية، ومستوى أكبر من الحكم الذاتي. ولقد أدى هذا التحول في البداية إلى ظهور نخبة اقتصادية صغيرة الحجم وفي الوقت نفسه فاحشة الثراء، مما شكّل المراحل الأولى من الإصلاح الاقتصادي في عصر ما بعد الاتحاد السوفيتي.

وتلت ذلك مرحلة من إعادة التقييم، بُذلت خلالها الجهود لاستعادة الانضباط الاقتصادي والسياسي، مع الحفاظ على درجة من الانفتاح على الغرب وإعادة المركزية إلى الحكومة والحزب.

مر تطور علاقة روسيا بالمجتمع الدولي، ولاسيما بالولايات المتحدة، بمراحل متعددة وتطورات مهمة، وشهدت هذه التحولات سلسلة من التحديات والتغيرات، بدءاً من الإطاحة بميخائيل غورباتشوف وحتى ظهور فلاديمير بوتين كرمز محوري في السياسة الروسية.

وخلال السنوات الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت هناك فترات من التفاهم، وصلت إلى درجة العلاقات الودية، بين روسيا والولايات المتحدة، وخاصة خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش الابن، ودونالد ترامب. غير أن هذه الفترات كانت استثنائية ولم تستمر طويلاً حيث عادة ما كانت تتبعها فترات من العلاقات المتوترة كما حدث أثناء ولاية أوباما وأخيراً خلال ولاية بايدن الحالية.

ولقد وصلت علاقات روسيا مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق بسبب سلسلة من التحركات التي قامت بها الأولى، منها ضم شبه جزيرة القرم، والصراع في جورجيا، وحرب أوكرانيا. ويمكن النظر إلى هذه التحركات على أنها جهود تبذلها روسيا لمواجهة ما تعده محاولات للهيمنة الأحادية من جانب الولايات المتحدة والغرب، وهي مشاعر أكدها الرئيس بوتين أثناء القمة الروسية الإفريقية الأخيرة عندما أعلن أن عصر "العالم أحادي القطب قد انتهى"، وهو ما يعكس موقف روسيا من ديناميكية القوى العالمية الناشئة.

وبينما يختلف المشهد السياسي في روسيا عن النظام الأمريكي، فإن فصول التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا اتسمت بالعديد من التناقضات والتيارات المتغيرة. وفي خضم هذه التغييرات الهائلة، نهض اليمين القومي الروسي من جديد على نطاق أوسع، واكتسبت تيارات مختلفة داخل النظام السياسي زخماً. وكان أحد أبرز جوانب هذه الديناميكيات هو الخلافات العامة داخل روسيا، حيث انتقدت رموز مثل شركة فاغنر العسكرية الخاصة (التي كان يتزعمها يفغيني بريغوجين) كبار القادة العسكريين في البلاد علناً. وأعقب هذا الصراع الداخلي تحرك عسكري نحو موسكو بدا مسرحياً، أطيح فيه ببعض القادة العسكريين الروس. ولكن المفاوضات بين بوتين وبريغوجين مكنتهما في النهاية من الوصول إلى تفاهم يحمي قوات الشركة من المساءلة.

وتدل هذه المؤشرات في الواقع على أن المجتمع الروسي يمر هو الآخر بفترة من محاسبة النفس والمراجعة والتأمل، مع اختلاف ظروفه عن ظروف المجتمع الأمريكي. ومن خلال مقابلاتي مع بعض المعارف الروس، اتضح أن حرب أوكرانيا قد فاجأت بعض الروس ممن كانوا يشعرون بالقلق إزاء العواقب المحتملة للسياسة العسكرية وأثار حفيظتهم. ومع ذلك، يبدو أن المحاولات الغربية لعزل روسيا أو إضعافها كان لها تأثير كبير في توحيد المواطنين، حيث حشدت العديد من الروس حول رئيسهم بوتين. وفي الوقت نفسه، قدم الصراع الأوكراني دروساً مهمة فيما يتعلق بحدود القدرات العسكرية الروسية وحقيقتها.

الآثار المحتملة

سيؤدي الناخبون في كل من الولايات المتحدة وروسيا دوراً محورياً في تحديد القيادة المستقبلية لبلديهما، وهو ما سيؤثر بدوره تأثيراً كبيراً في دورهما على الساحة الدولية. وبالرغم من أنه من السابق لأوانه التنبؤ بنتائج هذه الانتخابات، فإن الأحداث الأخيرة تقدم العديد من الرؤى الجديرة بالملاحظة:

- الاضطرابات والانقسامات السياسية: إن من أبرز المؤشرات على الاضطراب السياسي والتفكك المجتمعي في روسيا والولايات المتحدة هي الاختيارات التي يواجهها الناخبون الأمريكيون بين مرشحين إما يمثلون الماضي أو يناهضون النظام السياسي، فضلاً عن قرار الناخبين الروس بشأن الرئيس الذي استخدم القوة العسكرية لمواجهة ما يراه بأنه تهديد يمثله "الناتو".

- التحولات في ديناميكيات القوة العالمية: ستواصل الولايات المتحدة الحفاظ على مكانتها بصفتها أقوى دولة في العالم في المستقبل القريب، بينما ستبقى روسيا فاعلاً قوياً ومؤثراً. ومع ذلك، فقد صار جلياً يوماً بعد يوم أن أياً من الدولتين لا تستطيع فرض رغباتها على نحو أحادي على الساحة الدولية. بينما تواجه روسيا، على وجه الخصوص، قيوداً تعوق وصفها بالقوة العظمى.

- ظهور التعددية السياسية: يتجه العالم نحو حالة من التعددية السياسية، حيث يتعين على الدول الكبرى أن تسعى جاهدة للحصول على دعم الدول المتوسطة والصغيرة وتعاونها من أجل تحقيق أجنداتها. وقد لا يستلزم هذا التحول بالضرورة التعاون والتكامل الكاملين، ولكنه يؤكد أهمية انخراط القوى الكبرى من أجل الحصول على دعم مواقفها وسياساتها من جانب حلفائها وشركائها من القوى الصغيرة والمتوسطة.

- امتداد فترة التغيير: تمر كل من الولايات المتحدة وروسيا بمراحل من التغيير الدولي والهيكلة الوطنية، من المرجح أن تمتد إلى المستقبل. وتوفر هذه الفترة بالتالي فرصاً للدول متوسطة الحجم وتلك المعتمدة على المشروعات والأعمال الحرة لإعادة تشكيل النظام الدولي ليصير أكثر تعددية.

- أهمية الانتخابات المقبلة: ستكون نتائج الانتخابات المقبلة في دول مثل مصر والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا ذات أهمية بالغة، فرؤية هذه الدول للمستقبل وقدرتها على التعاون مع الآخرين في جنوب العالم ستؤدي دوراً حاسماً في خلق صوت قوي وفعال لهذه المنطقة على المسرح العالمي.