القوة الفضائية:

انعكاسات نجاح الهند في الوصول إلى القمر على مكانتها الدولية

11 September 2023


واصلت الهند خططها في مجال استكشاف الفضاء، حيث أطلقت يوم 2 سبتمبر 2023 بنجاح مسباراً لدراسة الشمس، وذلك بعد نحو أسبوع فقط من نجاح مركبة الفضاء الهندية غير المأهولة "تشاندرايان-3" في الهبوط السلس على القطب الجنوبي للقمر، وتشغيل مركبة متجولة على القمر؛ وهي خطوة عدّها رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، "تاريخية". وبهذا الإنجاز، تنضم الهند إلى مصاف القوى الدولية الفضائية التي تمكنت من الوصول إلى القمر، وذلك بعد أربعة أعوام من آخر محاولة فاشلة قامت بها مركبة "تشاندرايان-2". الأمر الذي يطرح تساؤلات بشأن أبعاد ودلالات هذا الأمر وتداعياته بالنسبة للدولة الأكثر تعداداً للسكان في العالم حالياً وهي الهند، وكذلك بالنسبة للتنافس الدولي على استكشاف الفضاء، والعودة إلى استئناف إطلاق الرحلات الفضائية إلى القمر. 

دوافع النجاح:

ثمة عوامل عديدة جعلت الهند تحقق نقلة نوعية في مجال استكشاف الفضاء، تجلت ذروتها في الوصول إلى القطب الجنوبي للقمر، ومن أبرز هذه العوامل ما يلي:

1- امتلاك الهند برنامجاً فضائياً طموحاً: ترجع بدايات البرنامج الفضائي الهندي إلى عام 1969، وهو تاريخ إنشاء منظمة أبحاث الفضاء الهندية. ويرتكز هذا البرنامج إلى الإمكانات والمؤسسات العلمية الهندية، وعدم الاستعانة بالخبرات الأجنبية، حيث تعتمد سياسة الهند العلمية والتقنية على الصناعة المحلية والموارد البشرية الهندية، بما تضمه من علماء وفنيين ومتخصصين، علاوة على اكتساب الخبرات الكبيرة عبر مشاركة علمائها في البرامج الفضائية للدول المتقدمة.

2- توافر الإرادة السياسية: يحظى البرنامج الفضائي الهندي بدعم كبير من الحكومة، التي أبدت اهتماماً كبيراً بمشروع الوصول إلى سطح القمر، خاصة أنه يمثل مرحلة متقدمة جداً في أي برنامج فضائي، إذ يعني أنه نجح في المراحل السابقة على ذلك، أي في صناعة الصواريخ وتطويرها وإرسال الأقمار الاصطناعية إلى مدارات حول الأرض. وبالتالي، فإن توافر هذه التكنولوجيا لدى الهند، يدفع ساستها إلى التفكير في هذه الخطوة الجريئة والقوية. كما تحظى منظمة أبحاث الفضاء الهندية بدعم كبير من جانب رئيس الوزراء، مودي، باعتبارها أحد مقومات تعزيز مكانة نيودلهي على الساحة العالمية. وليس أدل على ذلك، من حرص مودي على متابعة عملية الهبوط الأخيرة على سطح القمر، على الرغم من وجوده خارج البلاد للمشاركة في قمة مجموعة "بريكس" في جنوب إفريقيا؛ في مؤشر واضح على مدى الاهتمام الكبير الذي يحظى به البرنامج الفضائي الهندي من جانب الحكومة.

3- توظيف الفضاء لخدمة البشرية: تعمل الهند على توظيف برنامجها الفضائي لمساعدة الدول الأخرى في الحصول على الخدمات المتنوعة التي يتيحها الفضاء الخارجي. فعلى سبيل المثال، أطلقت منظمة أبحاث الفضاء الهندية مشروع الشبكة الإلكترونية لعموم إفريقيا في عام 2009، والذي تضمن تأسيس شبكة من الألياف الضوئية لتوفير الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية، والتطبيب عن بُعد، والتعليم عن بُعد للدول الإفريقية. كما أطلقت الهند قمراً اصطناعياً خاصاً لصالح سبع دول من جنوب آسيا، فيما رفضت باكستان أن تكون جزءاً منه لأسباب سياسية. وعبّر رئيس الوزراء الهندي عن المعاني السابقة، بتصريحه، تعليقاً على نجاح مركبة "تشاندرايان-3" في الهبوط على القمر، بأن "مهمة الهند الناجحة إلى القمر ليست مجرد مهمة للهند وحدها.. هذا النجاح ينتمي إلى البشرية جمعاء".

4- انخفاض تكلفة برامج الفضاء الهندية: تتسم المهمات الفضائية التي تجريها الهند بانخفاض تكلفتها مقارنة بتلك التي تجريها القوى الدولية الأخرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. فقد بلغت تكلفة مهمة "تشاندرايان-3" نحو 75 مليون دولار. وتتفوق الميزانية السنوية لوكالة "ناسا" الأمريكية على نظيرتها الهندية، ففي عام 2023، تلقت الوكالة الأمريكية تمويلاً بقيمة 25.4 مليار دولار، مقارنة بحوالي 1.6 مليار دولار لمنظمة أبحاث الفضاء الهندية.

5- العائد الاقتصادي لبرنامج الفضاء الهندي: يتمثل أحد دوافع نجاح برنامج الفضاء الهندي في الارتباط الوثيق بين هذا البرنامج ودوره في تعزيز الاقتصاد والقطاع التكنولوجي، حيث تطمح الهند إلى الإسهام بنحو 9% في سوق الفضاء العالمي بحلول عام 2030، مقارنةً بـ2% حالياً. وعلى المدى الطويل، من المُرجح أن تكون الهند من بين الدول الثلاث الأولى في العالم التي ترتاد الفضاء؛ نظراً لتوقعاتها القوية للنمو الديموغرافي والاقتصادي، حيث تتيح المشاركة في اقتصاد الفضاء الناشئ القدرة على تحقيق فوائد ضخمة لاقتصادات الدول الفضائية. ومن المُتوقع أن تبلغ قيمة اقتصاد الفضاء الهندي 13 مليار دولار بحلول عام 2025.

6- التعاون الدولي في مجال الفضاء: أسهم تعاون نيودلهي مع القوى الفضائية الدولية الأخرى في إضفاء مزيد من الزخم على البرنامج الفضائي الهندي، ونقله من السياق المحلي الضيق إلى السياق العالمي الأشمل. وفي هذا الإطار، تتعاون الهند مع روسيا، وقد مثّل التعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق، نقطة الانطلاق للبرنامج الفضائي الهندي، عبر إطلاق أول قمر اصطناعي هندي "أرياباتا" إلى الفضاء عام 1975. كما تتعاون الهند أيضاً مع الولايات المتحدة، في إطار اتفاقيات "أرتميس"؛ وهي شراكة في مجال الفضاء تدعمها الولايات المتحدة وتضم 27 دولة، ليس من بينها روسيا والصين. وستتعاون الهند مع وكالة "ناسا"، لإرسال رائد فضاء هندي إلى محطة الفضاء الدولية في العام المقبل. كذلك تشارك الهند في مشاريع فضائية أخرى ذات طابع دولي، ومنها مهمة استكشاف القمر القطبي (LUPEX) بالتعاون مع وكالة استكشاف الفضاء اليابانية (JAXA)، ومن المُرتقب إطلاق هذه المهمة بعد عام 2025.

تفوق الهند:

من دون شك، فإن نجاح الهند في الصعود إلى سطح القمر، بعد محاولات متكررة فاشلة في السابق، ينطوي على مجموعة من الدلالات المهمة، ليس فحسب بالنسبة لبرنامج الفضاء الهندي، وإنما أيضاً بالنسبة لمسألة السباق الدولي على غزو الفضاء واستغلال موارده. وتتمثل أبرز هذه الدلالات في الآتي:

1- التطور الكبير لبرنامج الفضاء الهندي: يمثل وصول الهند إلى القطب الجنوبي للقمر قمة النجاح لبرنامجها الفضائي، وهو ما يعكس التطور الكبير الذي طرأ عليه منذ تأسيس منظمة أبحاث الفضاء الهندية. فقد قامت المنظمة بتطوير مركبات الإطلاق والأقمار الاصطناعية، والتي تشمل المهام الفضائية إلى مدار الأرض، ومهام مركبة "تشاندرايان" إلى القمر، وصارت رابع وكالة فضاء تنجح في الوصول إلى مدار المريخ من المحاولة الأولى.

وتعمل الهند، من خلال مهمة "تشاندرايان-3"، على توسيع قدراتها الفضائية الشاملة - نظام الإطلاق، والمركبة المدارية، ومركبة الهبوط، والمركبة الجوالة - لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية: الأول، أنها تستطيع الهبوط على القمر، والثاني، إرسال مركبة جوالة، ويتمثل الهدف الثالث في استخدام الموارد في الموقع. 

ويُرجع الخبراء التطور الكبير لبرنامج الفضاء الهندي، إلى العمل الشاق الذي يقوم به موظفوه، والاستثمارات طويلة الأجل في قاعدة المواهب، والدعم الحكومي المُستمر، بما في ذلك التمويل المُستدام. وقامت الهند بذلك في الغالب بمفردها، حيث اختارت الاستثمار في الكفاءات الأساسية وتعزيز تعليم العلوم، مما أدى إلى وفرة المهندسين ذوي المهارات العالية. 

2- تحول الفضاء إلى أحد مصادر قوة الدولة: لم تعد مصادر قوة الدولة ومكانتها في النظام الدولي الراهن ترتكز على المصادر التقليدية للقوة، من إمكانات متنوعة توجد على الأرض، وإنما صار ارتياد الفضاء أحد المصادر الجديدة التي تضيف إلى قوة الدولة، وصارت مكانة الدول تتحدد بالربط بين إمكاناتها على الأرض وبين نجاحها في استكشاف الفضاء الخارجي. ومن هنا، فإن هبوط الهند على سطح القمر، يُعد من الناحية الاستراتيجية، خطوة جيوسياسية كبيرة تُبشر بوصولها إلى المسرح العالمي. إذ إن الدولة التي تنجح في الوصول إلى الفضاء تُسيطر على الأرض. وبالتالي، فإن الوصول إلى الفضاء صار أحد معايير تحول الدولة إلى قوة عالمية، وهو ما يعني أن النجاح الأخير، وفي ظل التغير السريع في المشهد الجيوسياسي العالمي، يجعل الهند فاعلاً دولياً في مجال الفضاء.

3- تعزيز مكانة الهند كقوة عالمية في مجال الفضاء: بوصولها الناجح إلى سطح القمر، حققت الهند إنجازين كبيرين، جعلاها تنضم إلى مصاف القوى العظمى في مجال الفضاء. الأول، أنها صارت الدولة الرابعة في العالم، بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين، التي تنجح في الهبوط على سطح القمر. والثاني، أنها حققت إنجازاً لم تسبقها إليه أي دولة في العالم، بنجاحها في الهبوط على منطقة القطب الجنوبي للقمر، وهي منطقة لم يتم استكشافها من قبل.

ويُضاف هذا النجاح الكبير إلى النجاحات الأخرى العديدة التي حققتها الهند في إطار برنامجها الفضائي، مما يجعلها بالفعل قوة دولية في مجال الفضاء، حيث نجحت في إدخال مركبة فضاء هندية إلى مدار المريخ في سبتمبر 2014، لتكون الدولة الآسيوية الأولى التي تصل إلى المريخ، وصارت الهند القوة الرابعة بعد الولايات المتحدة وأوروبا والاتحاد السوفيتي السابق، التي تنجح مهمتها إلى الكوكب الأحمر. وهي أيضاً الدولة الأولى التي تنجح في دخول مدار المريخ من المرة الأولى. كذلك، نجحت الهند في إطلاق مئات الأقمار الاصطناعية بتكلفة أقل من الدول الأخرى التي ترتاد الفضاء، فقد كانت منظمة أبحاث الفضاء الهندية واحدة من أكثر مقدمي خدمات إطلاق الصواريخ فعالية من حيث التكلفة، حيث نجحت خلال الفترة بين عامي 2018 و2022 في إطلاق 177 قمراً اصطناعياً لدول أخرى.

4- التفوق الهندي على روسيا: يتضح مغزى نجاح نيودلهي في الهبوط على سطح القمر، بالنظر إلى أنه جاء بعد أيام قليلة من محاولة فاشلة من جانب روسيا للهبوط قرب منطقة القطب الجنوبي للقمر، إذ تحطم المسبار "لونا-25" الروسي، وهو الأول الذي ترسله موسكو إلى القمر منذ عام 1976. وهذا يشير إلى تفوق الهند على روسيا في الوصول إلى منطقة القطب الجنوبي للقمر، وتحقيقها إنجازاً غير مسبوق في هذا الشأن، بجانب ربما ما يعنيه ذلك من تفوق وتطور برنامج الفضاء الهندي مقارنة بنظيره الروسي.

انعكاسات متنوعة:

ثمة مجموعة من النتائج المُحتملة لنجاح الهند في الوصول إلى سطح القمر، ومنها الآتي:

1- تسارع برنامج الفضاء الهندي في المستقبل: يمنح نجاح الهند في الهبوط على سطح القمر ثقة كبيرة لهذا البلد الأكبر تعداداً للسكان في العالم وللسلطات المسؤولة عن برنامج الفضاء الهندي، للقيام بخطوات وقفزات أخرى أكبر في برنامج الهند لاستكشاف الفضاء، ولاسيما إرسال رحلات فضائية مُحتملة إلى كواكب أخرى في المجموعة الشمسية، كالعودة مرة أخرى إلى المريخ والدوران حول كوكب الزهرة. وهذا ما بدأت نيودلهي فيه بالفعل، بإطلاقها يوم 2 سبتمبر الجاري أولى مهامها الفضائية المخصصة لمراقبة الشمس، فضلاً عن التخطيط لإطلاق رحلة فضائية مأهولة، لم يتم الإعلان الرسمي عن موعدها، ويُرجح أن تكون جاهزة بحلول عام 2024. علاوة على أن نجاح الهند في الوصول إلى القطب الجنوبي للقمر، سيترتب عليه تسهيل مهام المحاولات المستقبلية للهبوط على سطح القمر بالقرب من البقعة التي هبطت عليها مركبة الفضاء الهندية.

2- تزايد التنافس الدولي على الوصول إلى القمر: من دون شك، فإن نجاح الهند في الوصول إلى القطب الجنوبي للقمر، سوف يمثل حافزاً للعديد من دول العالم الأخرى، سواءً في تكرار إنجاز وصولها إلى القمر في السابق، كالولايات المتحدة وروسيا والصين، أم في محاولة تحقيق إنجاز مماثل لنظيره الهندي بالصعود إلى سطح القمر، كاليابان وغيرها من الدول.

ولا ينفصل عما سبق، تزايد اهتمام القوى الدولية الكبرى بشأن استكشاف المزيد من العناصر والمعادن الموجودة في القمر، فقد أعلنت روسيا اعتزامها إرسال المزيد من البعثات إلى القمر، وبحث إمكانية إطلاق مهمة مشتركة مع الصين، وربما إنشاء قاعدة على القمر. في الوقت الذي تحدثت فيه وكالة "ناسا" الأمريكية عن إمكانية التنقيب عن "ذهب القمر".

3- تنامي المكانة الدولية للهند: من اللافت أن الدول التي نجحت في ارتياد الفضاء، سواءً الولايات المتحدة أم الصين أم روسيا، تتبوأ مكانة محورية في النظام الدولي الراهن. وبالتالي، فإن الفترة المقبلة قد تشهد تصاعداً في الدور المحوري للهند على الساحة الدولية. فمع الإقرار بما وصلت إليه الهند من مكانة مهمة، كإحدى القوى الناشئة الصاعدة بقوة على المسرح الدولي، وهو الأمر الذي تؤكده العديد من المؤشرات، من خلال عضويتها في العديد من المنظمات والتكتلات السياسية والاقتصادية الدولية الكبرى، مثل "منظمة شنغهاي للتعاون"، وتكتل "بريكس"، فضلاً عن رئاستها هذا العام لمجموعة العشرين؛ فإن نجاح الهند في الوصول إلى القمر من شأنه أن تترتب عليه تداعيات سياسية مهمة بالنسبة لمكانة الهند في النظام الدولي، وكذلك علاقاتها مع القوى الكبرى. وقد تعمل نيودلهي على توظيف هذا النجاح في تجديد مطالبتها بالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، في ضوء تغير معايير القوة في الوقت الراهن، وتفوقها في بعض المؤشرات على بريطانيا وفرنسا؛ العضوين الدائمين بالمجلس.

4- محاولة التوظيف السياسي للإنجاز الفضائي: تنتظر حكومة رئيس الوزراء الهندي، مودي، في العام المقبل، انتخابات عامة مهمة، وهو يواجه تحديات داخلية عديدة. ولذا، فإنه من المؤكد أن تعمل هذه الحكومة على محاولة توظيف هذا الإنجاز الفضائي سياسياً في مواجهة قوى المعارضة المُنافسة لمودي؛ بهدف تعزيز شعبيته، وبما يمكنه من الحصول على ولاية جديدة في الحكم.

ختاماً، يمكن القول إن نجاح الهند في الوصول إلى القطب الجنوبي للقمر، لم يأت من فراغ، وإنما جاء كنتيجة طبيعية لجهود وخطوات عدة اتخذتها نيودلهي لبلوغ حلمها بالصعود إلى الفضاء. وهي خطوة لن تكون نهاية المطاف بالنسبة للهند التي ستتجه في المستقبل إلى تسريع برنامجها الفضائي، ولاسيما في ضوء ما ترتب على إنجازها الفضائي من إدراك لدى القوى الدولية الأخرى بضرورة تكثيف جهودها في مجال استكشاف الفضاء، خصوصاً في ظل تحول ارتياد الفضاء إلى أحد مصادر تحديد قوة الدولة ومكانتها على المسرح العالمي، وهو ما أدركته نيودلهي بنجاحها في التحول إلى قوة فضائية وبالتالي تنامي مكانتها ودورها في السياسة الدولية.