صفقة مرحلية:

"تبادل السجناء" بين واشنطن وطهران.. هل يقود لـ"تفاهم نووي"؟

15 August 2023


بعد أيام قليلة من تبادل التصريحات العدائية على خلفية تعزيز الولايات المتحدة وجودها العسكري في الشرق الأوسط وانتقادها السلوك الإيراني في الممرات المائية بالمنطقة، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في 10 أغسطس 2023، عن عقد صفقة لتبادل السجناء مع إيران، تلتزم الأخيرة بمقتضاها بالإفراج عن 5 أمريكيين مُتهمين في قضايا تجسس، في مُقابل أن تُطلق واشنطن سراح عدد مماثل من الإيرانيين المُحتجزين بتُهمة اختراق قانون العقوبات الأمريكي على طهران، وأن تُلغي الحظر المفروض على أموال إيرانية تُقدر بعدة مليارات من الدولارات. 

ولم توضح بيانات الخارجية الأمريكية أو الإيرانية كثيراً عن تفاصيل الصفقة، لكن تقارير أفادت بأن هذه الأموال كانت مُستحقة لطهران نظير شحنات نفطية تسلمتها كوريا الجنوبية، وأن العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، على إيران، بعد انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، جمدت أرصدتها. وأفادت هذه التقارير أيضاً بأن الأموال لن تُنقل مباشرة إلى طهران، وإنما سُتحول إلى سويسرا أولاً ومنها إلى حساب خاص في قطر. وتنتظر إيران تحويل الأموال للحساب حتى تُفرج عن السجناء الأمريكيين، الذين نُقلوا من سجن إيفين إلى فندق تحت الإقامة الجبرية تمهيداً لمغادرة البلاد، وفق تصريحات المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، أدريان واتسون. 

وفي ضوء ما سبق، ثمة عدة تساؤلات بشأن دلالات عقد هذه الصفقة، وكذلك التداعيات المُترتبة عليها سواءً على الصعيد الداخلي الإيراني والأمريكي أم الإقليمي. 

دلالات الصفقة:

ثمة دلالات عدة تُثيرها صفقة تبادل السجناء بين واشنطن وطهران، خاصة أنها جاءت عقب مناوشات سياسية بين الطرفين، وفيما يلي أبرز هذه الدلالات:   

1- طول مدة المفاوضات وتعقد الحسابات الأمريكية: كعادة المباحثات الأمريكية الإيرانية، يبدو أن تشعباً وتعدداً لقضايا الخلاف بينهما أطال أمد المفاوضات بشأن الصفقة المُبرمة التي استمرت قرابة عامين، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية. والجدير بالذكر أنه سبق للجانب الإيراني الإعلان عن الصفقة منذ خمسة أشهر تقريباً، ففي مارس 2023، أعلن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان عن التوصل لاتفاق تبادل سجناء مع الولايات المتحدة، بيد أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، نفى ذلك بشكل قاطع، في حينها، ووصف تصريحات عبداللهيان بـ"الكاذبة"، وهو الأمر الذي أبدت الخارجية الإيرانية استغرابها حياله، وأكدت وجود اتفاق مكتوب بين البلدين منذ مارس 2022 لم تقُم واشنطن بتفعيله.

وفي نفس الاتجاه، كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن أغلب تفاصيل الصفقة سواءً فيما يتعلق بعدد السجناء المُزمع تبادلهم أو حجم وآليات استرداد إيران لأموالها المُجمدة، في تقرير نُشِر يوم 12 مارس الماضي. ومن المُرجح أن بعض الحسابات السياسية دفعت الولايات المتحدة لإنكار الصفقة في ذلك الوقت، فربما أرادت عدم الإفصاح عن بعض تفاصيلها إلا بعد الحصول على تنازلات إيرانية أخرى في الملف النووي، وربما أرادت فرض السرية حتى تُعلِن عنها بنفسها بعد طمأنة حلفائها في الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل، بشأن التطورات في هذا الملف. 

2- تضارب الروايتين الأمريكية والإيرانية بشأن تفاصيل الصفقة: لم تُحدد وزارة الخارجية الأمريكية حجم الأموال الإيرانية التي سيُفرج عنها لصالح طهران بالرغم من تأكيد تقارير أمريكية بأنها 6 مليارات دولار، فيما كان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، حريصاً على تأكيد أن الأموال سوف يُسمح لإيران باستخدامها للأغراض الإنسانية وحسب؛ أي لشراء سلع غذائية ومنتجات طبية. ويعني ذلك أن ثمة شروطاً في الاتفاق المُزمع، تقضي بمراقبة واشنطن للحساب القطري، الذي سُوف تُودع فيه الأموال، للتأكد من أوجه إنفاق طهران لها، وأنها لن تُستخدم لتمويل الأنشطة العسكرية والنووية الإيرانية، وهو الأمر الذي أكده منسق الاتصالات بمجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، في تصريحاته يوم 11 أغسطس.

وفي المُقابل، كشفت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "إرنا"، في اليوم التالي لبيان بلينكن، عن تفاصيل مختلفة، إذ أكدت أن الصفقة تتضمن إفراجاً عن أموال إيرانية ببنك التجارة في العراق بجانب تلك المُجمدة في سيول، وأن حجم الأموال الإيرانية المُستحقة 10 مليارات دولار، وأن لطهران "حق التصرف الكامل والمباشر" في الأموال المُفرج عنها. ومع أن بيان الخارجية الإيرانية لم يُحدد حجم الأموال المُتفق على الإفراج عنها، لكن جاءت صياغته تُوحي بحرية واستقلالية صانع القرار الإيراني في إنفاق الأموال المُستردة حينما اعتبر أن الأمر سيكون "بالنحو الذي نراه مُناسباً لتلبية احتياجات البلد"، وذلك خلافاً للقيود التي حددتها واشنطن. 

3- استمرار "تبادل السجناء" بالرغم من تصاعد التوتر: يحفل تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية بالعديد من صفقات تبادل السجناء حتى في أكثر الأوقات توتراً وتشدداً، وذلك في ضوء أن الولايات المتحدة تتعامل تاريخياً مع ذلك الملف بشكل مستقل عن بقية القضايا الخلافية، وأنها تعتبره امتداداً لقوتها الأخلاقية بين الدول، ولرؤيتها لنفسها كقوة عالمية تحمي كل من يحمل جنسيتها. فعلى سبيل المثال، بالرغم من تدهور العلاقات بين واشنطن وطهران في عهد ترامب، خاصة بعد توقيعه عدداً هائلاً من العقوبات على إيران، نجحت إدارته عام 2019 في عقد صفقة تبادلية استردت بموجبها أكاديمي أمريكي احتجزته السلطات الإيرانية، في مُقابل الإفراج عن باحث إيراني. وفي العام التالي، أفرجت واشنطن عن اثنين من العلماء الإيرانيين نظير إطلاق طهران سراح جندي أمريكي. 

ويؤكد ذلك أيضاً إبرام الصفقة الحالية التي تأتي في سياق إقليمي ودولي أكثر تعقُداً وتأزماً. فمن ناحية، تسود حالة من عدم الثقة بين الجانبين الأمريكي والإيراني بعد فشل المفاوضات في الوصول لتفاهمات بشأن عودة واشنطن للاتفاق النووي. ومن ناحية ثانية، تدهورت العلاقات بين البلدين منذ عام 2022 بسبب الدعم العسكري الإيراني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، كما تصاعدت الانتقادات الأمريكية لسياسة طهران في المياه الإقليمية بالخليج العربي، ووصل الأمر إلى ذروته بأن أرسلت واشنطن يوم 7 أغسطس الجاري سفينتين حربيتين على متنهما قُرابة 3 آلاف جندي لتدعيم أسطولها الخامس، مُعلنة أن الهدف منهما ردع الاعتداءات الإيرانية على السفن في المنطقة. 

تداعيات متنوعة:

تتنوع التداعيات المُحتملة لصفقة تبادل السجناء بين الولايات المتحدة وإيران، سواءً على الصعيد الداخلي للبلدين أم الإقليمي، ومن أبرزها الآتي: 

1- توظيف دعائي من جانب الحكومة الإيرانية: منذ نهاية العام الماضي، تعرضت حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للعديد من الانتقادات وتصاعدت موجة الاحتجاجات ضدها بسبب سوء الأحوال المعيشية. ومن المؤكد أن حكومة رئيسي سوف تُسوق صفقة تبادل السجناء سياسياً وتُصورها كنصر دبلوماسي يُضاف إلى نجاحها في عقد اتفاق تاريخي مع السعودية بوساطة صينية في مارس الماضي. ولعل ذلك ما يُفسر حرص وسائل الإعلام الإيرانية على إعطاء انطباع للرأي العام بحرية تصرف طهران في الأموال عند استردادها، بالرغم من نفي مسؤولين أمريكيين ذلك. واقتصادياً، تأمل طهران أن يُسهم ضخ المستحقات الدولارية، ولو بشكل ضئيل، في تخفيف أزمة الاقتصاد الإيراني المُتدهور، حيث تجاوز معدل التضخم فيه نسبة 39.4% في يوليو 2023 مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، فضلاً عن تراجع العملة الإيرانية. 

2- تصاعد انتقادات الجمهوريين: أثارت الصفقة اعتراض العديد من أنصار الحزب الجمهوري الذين تحفظوا، تحديداً، على مليارات الدولارات التي ستحصل عليها إيران نظير الإفراج عن السجناء، وهو الأمر الذي أشار إليه النائب الجمهوري مايكل ماكول، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، الذي صرح بأن "الديمقراطيين يُعيدون أخطاء الماضي"؛ وذلك في إشارة لصفقة تبادل السجناء التي عقدها الرئيس الأسبق، باراك أوباما، مع الإيرانيين نظير 400 مليون دولار عام 2016، في حين لم تحصل طهران على أي أموال في عمليات تبادل السجناء التي تمت عهد ترامب. 

وفي هذا الإطار، دارت أغلب انتقادات الجمهوريين حول رفض فكرة "الفدية مُقابل السجناء"، خوفاً من أن يُشجع ذلك طهران على احتجاز مزيد من المواطنين الأمريكيين وابتزاز واشنطن بهم، وهذا ما عبّر عنه السيناتور جيمس ريش، وهو أكبر الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. وفي سياق متصل، هاجم مايك بنس، نائب ترامب السابق وأحد مُرشحي الرئاسة المُحتملين عن الحزب الجمهوري في انتخابات 2024، الصفقة، واعتبر أن إدارة بايدن وفرت لطهران موارد مالية هائلة ستستخدمها لدعم روسيا بالمزيد من الطائرات المُسيّرة ضد الأوكرانيين، وتمويل العمليات الإرهابية ضد واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط. 

3- توقعات باتفاق غير مُعلن حول برنامج إيران النووي: مع الإعلان عن صفقة تبادل السجناء، زادت التوقعات بشأن وجود اتفاقات غير مُعلنة بين واشنطن وطهران تتعلق بالملف النووي. وعلى الرغم من نفي الخارجية الأمريكية وجود أي اتفاق غير رسمي مع إيران في هذا الشأن أو تخفيف العقوبات عنها، فإن الجانب الإيراني يبعث برسائل غير مباشرة تُرجح وجود صيغة أقرب للتفاهم بينهما. ففي مايو الماضي، سمحت طهران للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة بإعادة تركيب معدات لمراقبة أنشطة المنشآت النووية. وصرح المرشد الإيراني، علي خامنئي، في 11 يونيو الماضي، بأن التوصل لاتفاق نووي مع الولايات المتحدة "ليس أمراً مُستحيلاً". وفي اليوم السابق لتصريحه، أكدت وكالة "إرنا" الإيرانية أن واشنطن سمحت بالإفراج عن قرابة 3 مليارات دولار من أموال إيران المُجمدة بالعراق.

وجدير بالذكر أن تقارير أمريكية وإيرانية وإسرائيلية أشارت إلى نجاح مباحثات سلطنة عُمان في تحقيق اتفاق مؤقت وجزئي تلتزم طهران بمقتضاه بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتتوقف عن تطوير نسب تخصيب اليورانيوم بحيث تُبقيها عند وضعها الحالي البالغ 60%. وفي المُقابل، تسمح واشنطن لطهران بتصدير كميات مُحددة من مخزونها النفطي، وأن تسترجع أموالها المُجمدة في الخارج بسبب العقوبات الأمريكية. 

وفي ضوء ما تقدم، وبعد الإعلان عن صفقة تبادل السجناء، أشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، يوم 11 أغسطس الجاري، إلى أن طهران تقوم بتخفيض مخزونها من اليورانيوم. وفي نفس اليوم، صرح كيربي بأن أي خطوات إيرانية لإبطاء مُعدلات التخصيب من شأنها أن تكون موضع ترحيب أمريكي.

4- زيادة المخاوف الإسرائيلية: لم تُرضِ التطورات الأخيرة الجانب الإسرائيلي، فنشر مكتب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بياناً، في 12 أغسطس الجاري، أعلن فيه اعتراض بلاده على الصفقة الأمريكية الإيرانية لتبادل السجناء، وكذلك رفض أي اتفاق تُبرمه الولايات المتحدة لا يُفكك البنية التحتية النووية لطهران؛ وذلك في إشارة للتكهنات حول وجود اتفاق غير رسمي بين البلدين بشأن تخفيض إنتاج اليورانيوم الإيراني مُقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية الأمريكية. وفي سياق مُتصل، أكد مسؤولان بارزان في وزارة الدفاع الإسرائيلية نفس المعنى، وأضافا أنهما على يقين من أن صفقة تبادل السجناء جزء من اتفاقية غير رسمية أكبر بين واشنطن وطهران بفضل المحادثات غير المباشرة بينهما في مسقط.

مسار مُرجح:

تتعامل الولايات المتحدة مع ملف تبادل السجناء بشكل مستقل عن القضايا الخلافية الأخرى مع إيران، غير أن المبالغ الضخمة التي ستستردها طهران نظير الصفقة ربما تُعد مؤشراً على وجود تفاهمات أكبر لم يُعلن عنها، خاصة أن الحوار بين الطرفين لم ينقطع وتحديداً بشكل غير مباشر من خلال وسطاء. 

ويبقى القول إن الاتفاقات المؤقتة مجرد مسكنات قد لا تُقدم حلاً لجذور الخلاف، ومع ذلك ربما تكون كافية مرحلياً لتحقيق بعض مصالح البلدين. فمن ناحية، ترغب إدارة بايدن في تفادي نشوب صراع في الشرق الأوسط إذا ما استمرت وتيرة تخصيب اليورانيوم الإيراني بشكل متسارع. وفي المقابل، تريد حكومة رئيسي تخفيف العقوبات الأمريكية وتحسين الوضع الاقتصادي لإيران. ومن المُرجح أن تستمر إدارة بايدن في ممارسة ضغوط أكبر على طهران في الملف النووي، ولن تُفصح عن وجود تفاهمات معها كي لا تتعرض لانتقادات الجمهوريين والإسرائيليين قُبيل الانتخابات الرئاسية المُزمع إقامتها في نوفمبر 2024.