جدل الرقابة:

كيف تتحكم التكنولوجيا في إدارة "الإرهاق" بقطاع النقل؟

13 March 2023


عرض: عبدالله عيسى الشريف

أظهرت جائحة "كورونا" وما خلفته من تعطل إنتاج وتوزيع السلع في جميع أنحاء العالم، الحاجة المُلحة لضمان الحفاظ على سلاسل الإمداد، وفي هذه الأثناء، شهدت واشنطن احتجاجات لسائقي الشاحنات على انخفاض الأجور وارتفاع تكاليف التأمين. ويعتبر قطاع النقل بالشاحنات، بمثابة البنية التحتية الحيوية التي تعتمد عليها الأسواق الأمريكية في كل سلعة. ففي عام 2018، تم تسجيل حوالي 37 مليون شاحنة لأغراض تجارية في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يوجد حوالي 8 ملايين شخص يعملون في قطاع النقل بالشاحنات باعتبار مهنة سائقي الشاحنات هي الوظيفة الأكثر شيوعاً في 29 ولاية أمريكية. 

ونظراً لأن سوق النقل البري للبضائع في الولايات المتحدة بات مدفوعاً بالتقدم التكنولوجي المُتزايد في صناعة النقل بالشاحنات، فمن المهم الوقوف على تأثير المراقبة الرقمية في دورة عمل النقل بالشاحنات. إذ تقدم كارين ليفي أستاذة علوم المعلومات بجامعة كورنيل بنيويورك، رؤية حول الآثار المترتبة على الفئات المهمشة، في كتابها "البيانات المشتقة: سائقو الشاحنات والتكنولوجيا ومراقبة مكان العمل الجديد".

تطرح الكاتبة فكرة أساسية تدور حول مراقبة سلوكيات سائقي الشاحنات بالطرق السريعة، وكيفية الاعتماد على الخيار التكنولوجي وأدوات الأنظمة الرقمية، كأجهزة التسجيل الإلكترونية في جمع البيانات، والتحكم في سلوك سائقي الشاحنات، آخذة في الاعتبار أن هذه الفكرة تدور حول جدلية كبرى تتعلق بدور أنظمة جمع البيانات في الرقابة الاجتماعية.

صعود الإنفاذ الرقمي 

أدت موجة التحرر في سبعينيات القرن العشرين بالولايات المتحدة إلى الركود الاقتصادي، بكل ما استتبع ذلك من انخفاض أجور سائقي الشاحنات بنسبة 44%، وإجبارهم على القيادة لساعات أطول وبأموال أقل، وهو ما انعكس على الصحة البدنية والعقلية للسائقين، فضلاً عن الضغوط التي يتعرضون لها على الطرق، وظروف العمل غير الآمنة، والعزلة وعدم الاستقرار الأسري الناجم عن حياة التنقل بالشاحنات.

ففي عام 2019، كان قطاع النقل بالشاحنات سادس أعلى معدل وفيات مهنية من بين جميع الوظائف الأمريكية، فضلاً عن أن معدل حدوث الإصابات الخطرة بين سائقي الشاحنات هو الأعلى في أي مهنة أمريكية. ونتيجة التعب الجسدي والذهني، فإن سائقي الشاحنات يواجهون عواقب صحية وخيمة  بدءاً من الإرهاق وصولاً إلى الإدمان. فضلاً عن أنه في عام 2021 وصل العجز في السائقين لحوالي 80 ألف وظيفة شاغرة. وفي حين يرى سائقو الشاحنات أن القطاع يواجه نقصاً في الأجور وليس العمالة، فإن شركات الشحن تسعى إلى إصلاح المشكلة بمنطق ربحي عبر تدوير العمالة، إذ قامت بتقليل سن الحصول على رخصة قيادة تجارية "CDL" من 21 إلى 18 عاماً، فضلاً عن التوسع في توظيف النساء في هذه المهنة.

وبدلاً من قيام الحكومة بإعادة هيكلة أجور سائقي الشاحنات لضمان التزامهم بساعات العمل القانونية للقيادة، فإنها لجأت إلى المراقبة الإلكترونية كبديل عن السجلات الورقية التي يسهل التلاعب بها لتحقيق هذا الهدف. لذا، تعتبر أجهزة المراقبة بمثابة العمود الفقري التكنولوجي للحكومة ولشركات النقل، بكل ما توفره من معلومات حول أداء وسلوك سائقي الشاحنات. ففي ديسمبر2017، فرضت الحكومة الفدرالية على سائقي الشاحنات ضرورة شراء وتثبيت واستخدام أجهزة التسجيل الإلكترونية "ELD"؛ للتصدي لأحد أخطر المشكلات والأكثر انتشاراً في قطاع النقل بالشاحنات، وهي "التعب"، حيث إن سائقي الشاحنات يعانون من إرهاق العمل وقلة النوم، بكل ما يحمله ذلك من عواقب مميتة، على السائقين أنفسهم وكذا على باقي المواطنين بشكل عام، وذلك على الرغم من أن سائقي الشاحنات يخضعون منذ ثلاثينيات القرن الماضي للوائح "ساعات الخدمة" الفدرالية التي تحدد ساعات العمل التي يمكنهم دوامها.

وتعتبر أجهزة التسجيل الإلكترونية أحد الأنظمة الرقمية التي تلتقط بيانات حول أنشطة سائقي الشاحنات، خاصة فيما يتعلق بعدد ساعات العمل؛ وذلك بهدف منعهم من القيادة لفترة أطول مما تسمح به اللوائح الفدرالية، وضماناً لالتزامهم بأوقات العمل الرسمية، ويمكن اعتبارها أحد أنظمة "الإنفاذ الرقمي"، حيث يتم استخدام التكنولوجيا لفرض القواعد، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية على منظومة القيم السائدة بين سائقي الشاحنات؛ خاصة من حيث الاستقلالية المهنية، والمرونة التي يتمتعون بها للقيام بأعمالهم بالطرق التي تناسبهم، فضلاً عن علاقتهم بسلطات إنفاذ القانون.

إشكالية فرض القواعد

ينطلق الكتاب من إشكالية محورية في معالجة المراقبة الرقمية وتتمثل في التساؤل حول: "إذا كان لدينا قواعد معمول بها لأسباب تتعلق بالسلامة العامة، وتم التوصل إليها من خلال عمليات سياسية مشروعة، لماذا لا يتم تطبيقها باستمرار؟". هنا، تشير الكاتبة إلى أن "القواعد ليست دائماً قواعد"، لأنها يجب أن تتشكل من خلال الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، علماً بأنه قد يتم انتهاك القاعدة في بعض الحالات؛ لأن الالتزام الحرفي بها غير عادل وغير منطقي، ويدلل الكتاب على ذلك بأن مراقبة مخالفات السرعة الطفيفة مجرد "ذريعة" للشرطة لإيقاف السائقين وخاصة السود للتحقيق معهم.

كما أنه في بعض الحالات، فإن كسر القواعد الروتينية يجعل المجتمع يعمل بكفاءة، لأن الالتزام الحرفي بالقواعد يؤدي إلى سيطرة البيروقراطية وإبطاء الوظائف التنظيمية، خاصة وأن الموظفين يتبعون القواعد بحذافيرها للحد الذي يصعب معه تأديبهم على التأخر في إنجاز المهام الموكلة إليهم. لتجنب ذلك، فإن الكثير من المنظمات تتبنى قواعد وهياكل رسمية معينة لتحقيق الشرعية القانونية استجابة للضغوط من أجل التوافق المؤسسي، مع فصل هذه القواعد عن الممارسات التي تسمح لها بالعمل بكفاءة.

ويجادل الكتاب بأن تطبيق القواعد بصرامة ليس جيداً أو سيئاً تماماً، فالعالم معقد للغاية، وإدارة العلاقات الاجتماعية تتوقف على "الفجوة" بين القواعد الموجودة في الكتب والممارسات على الأرض. مع العلم بأن إدخال التكنولوجيا في هذا المضمار، والاعتماد عليها فيما يعرف بـ"الإنفاذ الرقمي" قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية في النظام الاجتماعي القائم لسياق معين بطرق غير متوقعة.

الرقمنة ومستقبل العمل

مستقبل العمل ليس نمطاً منفصلاً عن التنظيم الاجتماعي، فلا تختلف ممارسات إدارة الغد عن ممارسات الإدارة في الماضي، لأنهما يقومان على نفس الأسس والغايات: (تحفيز الكفاءة، تقليل الخسائر، تحسين العمليات، تحسين الإنتاجية). كما أن إحدى الاستراتيجيات الأكثر شيوعاً لتحقيق هذه الأهداف، تتمثل في زيادة الإشراف على أنشطة العمال. وتاريخياً، كانت العمالة المتنقلة تتمتع بقدر أكبر من الاستقلال عن الرقابة مقارنة بالعمالة المتمركزة في أماكن عمل ثابتة، إلا أن سيطرة التكنولوجيا واستخدام أنظمة تتبع المواقع والشبكات اللاسلكية غير ذلك تماماً.

وقد أدى تنامي اللجوء إلى ترتيبات العمل من المنزل خلال جائحة "كورونا" إلى تزايد استخدام برامج التتبع، وأصبحت وسائل جمع البيانات الحيوية أكثر شيوعاً بدءاً من التعرف إلى بصمات الأصابع ومسح الشبكية وصولاً إلى جمع البيانات السلوكية حول معدلات انتباه العمال و"التعب". بالتالي، تلاشت الفواصل بين حدود العمل وغيرها من مجالات الحياة؛ مما أدى إلى خلق أنواع جديدة من التشابكات؛ حيث تسهل أنظمة مراقبة بيئة العمل من المنزل جمع المعلومات حول الأسرة والأصدقاء والمواقف المعيشية، بكل ما يرتبط بذلك من مخاوف تتعلق بخصوصية وأمن البيانات.

بيئة النقل بالشاحنات

أثرت تقنيات المراقبة الرقمية - والتي منها أجهزة التسجيل الإلكترونية - في طبيعة عمل سائقي الشاحنات، من ناحيتي الحرية والاستقلالية في أداء عملهم اليومي، حيث تتضمن أنظمة المراقبة في الشاحنات جمع أنواع جديدة من البيانات الدقيقة حول سلوكيات سائقي الشاحنات وأجسادهم وأنماط الفرملة وحتى الموجات الدماغية. وتدعم هذه البيانات أشكالاً جديدة من التحليل؛ حيث يمكن للشركات مقارنة أداء سائقي الشاحنات مع بعضهم البعض والتنبؤ بسلوكهم المستقبلي تجاه مختلف المواقف التي يتعرضون لها، بما يمنح الشركات رؤية أكبر وتحكماً أوسع في عمل سائقي الشاحنات. ويتعارض ذلك مع رؤية السائقين للشاحنات باعتبارها مكان عمل خال من البيروقراطية، وتتمتع بدرجة عالية من الخصوصية والسرية للحد الذي يجعلهم يمارسون فيها كافة أوجه الأنشطة الحياتية، حيث إن خصوصيتهم مقدسة، فضلاً عن الدلالات الثقافية المرتبطة بالمهنة لدى السائقين، وسيطرة مفهوم "الرجولة" في نظرتهم لأنفسهم، وإظهار القدرة على التحمل الجسدي والعقلي، من دون توجيه من أحد خاصة وإن كان جهاز مراقبة، ووفقاً لعالم الاجتماع راوين كونيل فإنه بالنسبة لرجال الطبقة العاملة فإن "القدرات الجسدية هي أصولهم الاقتصادية".

مقاومة التفتيش الإلكتروني

تعمل أجهزة التسجيل الإلكترونية ككائن قانوني واقتصادي وثقافي في آن واحد، ففيما يتعلق بالحكومة؛ تعتبر ابتكاراً قانونياً لفرض الامتثال للقواعد، واستراتيجية لمعالجة مشكلات السلامة في قطاع النقل بالشاحنات. وفيما يخص شركات الشحن؛ فهي أداة اقتصادية لمواءمة سلوكيات العمال مع الأهداف التنظيمية مثل: زيادة كفاءة استهلاك الوقود، وتقليل فرص القيادة خارج المسار. لذا، فإن الشركات تستخدم أجهزة المراقبة الإلكترونية، ليس فقط للامتثال لقواعد ضبط الوقت، وإنما لمراقبة سلوك السائقين بهدف تحقيق أهداف الشركة، وبالتالي فهي أداة قانونية ذات ربحية تجارية.

بالنسبة لسائقي الشاحنات، تعتبر أجهزة التسجيل الإلكترونية كائناً ثقافياً يتحدى قيمة "معرفتهم بالطرق" وهويتهم المهنية، فضلاً عن قيمة إنجاز العمل بشكل مرن ومستقل، ويعالج الكتاب التأثيرات المتعددة لأجهزة التسجيل الإلكترونية من ناحية التفاعل المُعقد للقواعد القانونية والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والمعايير الثقافية والقدرات التكنولوجية لأنظمة المراقبة.

وترى الكاتبة أنه من غير المُحتمل أن تقوم التكنولوجيا الرقمية بدور ناجح في فرض القواعد على سائقي الشاحنات، نظراً للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي لقطاع النقل بالشاحنات. حيث كان ينظر إلى سائقي الشاحنات في منتصف القرن الماضي على أنهم "فرسان الطريق السريع"، حتى تلاشت هذه الصورة بداية من الثمانينيات؛ نظراً لدور تحرير الاقتصاد في انخفاض أجور سائقي الشاحنات، بكل ما فرضه ذلك من تزايد ضغوط نقص العمالة. وأنه بدلاً من مواجهة ذلك والعمل على جعل ظروف العمل أكثر إنسانية والأجور أكثر تنافسية، فقد استجابت الصناعة بمحاولة إجبار مجموعات جديدة من السائقين المُحتملين على الدخول في مجال النقل بالشاحنات، من خلال الترخيص لمن هم في سن 18 عاماً بمزاولة المهنة على حساب السلامة العامة، وصولاً إلى اللجوء إلى المراقبة الرقمية كتقنية للتنظيم، وضبط الأداء والسلوك، فتعدت آثارها قواعد ضبط الوقت، إلى ما هو أبعد من ذلك، في ثلاثة مجالات اجتماعية متداخلة: كأداة للعمل، وموضوع للتفتيش، ومكان للمقاومة. 

ولمواجهة المفتش التكنولوجي على أداء سائقي الشاحنات، يعرج الكتاب إلى مجموعة من الوسائل لمقاومة المراقبة الرقمية؛ بدءاً من تحطيم الجهاز وتنظيم احتجاجات جماعية وتظاهرات فئوية، وصولاً لاختراق الجهاز، وتتساءل الكاتبة عن: هل يتم احتساب المقاومة إذا لم تغير أي شيء هيكلياً؟، هل المقاومة "سلاح للضعفاء" أم يمكن أن تكون وسيلة لدفع الأقل قوة إلى أسفل السلم؟، وتخلص الكاتبة إلى أن المقاومة يمكن فهمها إذا تم التفكير فيها كوسيلة للتفاوض على السلطة الاجتماعية وليس مجرد رفض من القاعدة للقمة.

ختاماً، يطرح الكتاب تساؤلين محوريين حول مستقبل مهنة سائقي الشاحنات في ظل المراقبة الرقمية وهما: كيف سيبدو قطاع النقل بالشاحنات في المستقبل؟ وهل ستتولى "الروبوتات" هذه الوظائف؟، ترى الكاتبة أنه من غير المُرجح أن تصبح المركبات الآلية بديلاً عن سائقي الشاحنات، لأسباب قانونية واجتماعية وثقافية، والأرجح أن يتم دمج عمل البشر والآلات، في عملية تهجين للإنسان والآلة معاً. وتدلل على ذلك، بأن مسألة استخدام التكنولوجيا لفرض القواعد، ليست الحل، لأن المشكلات التي تهدف التكنولوجيا إلى حلها ليست في جوهرها مشكلات تقنية، وإنما مشكلات اجتماعية واقتصادية وثقافية.

المصدر

Karen Levy, Data driven: Truckers, Technology, and The New Workplace Surveillance, Princeton University Press, New Jersey, 2023.