خفض "الدولرة":

دوافع ضم روسيا عملات جديدة لسلة "الروبل"

07 February 2023


قرر البنك المركزي الروسي، في 18 يناير 2023، توسيع نطاق قائمة العملات التي يشملها نظام التداول الرسمي لتتضمن 9 عملات جديدة، مثل البات التايلندي والدونج الفيتنامي والدينار الصربي والدولار النيوزيلندي واللاري الجورجي والروبية الإندونيسية بالإضافة إلى بعض عملات الشرق الأوسط، ليصل العدد الإجمالي للعملات التي يحددها المصرف المركزي الروسي بأسعار يومية رسمية إلى 43 عملة.  ويأتي هذا القرار في سياق اقتصادي عالمي مضطرب يتسم بعدم اليقين نظراً لاستمرار الحرب الأوكرانية منذ قرابة العام، وما تلاها من تصعيد للعقوبات التي تفرضها الأطراف الدولية ضد روسيا من أجل تضييق الخناق الاقتصادي عليها وإحكام عزلتها الدولية، مما دفع موسكو إلى تبني سياسات متتالية تستهدف الالتفاف على العقوبات والتخفيف من حدتها.
دوافع مُحركة:
تتنوع الدوافع التي حثت البنك المركزي الروسي على ضم عملات جديدة إلى نشرته لأسعار الصرف، وهو ما يُمكن استعراضه على النحو الآتي:
1- مواجهة الهيمنة الدولارية: تتسق خطوة البنك المركزي الروسي الأخيرة مع مساعي الحكومة الحثيثة، منذ ضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014، لاتخاذ خطوات جدية تستهدف خفض "الدولرة" من التعاملات الخارجية، بيد أن هذا التوجه قد تبلور عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا خاصة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أكد في مناسبات عديدة ضرورة التصدي للهيمنة الدولارية على النظام الاقتصادي الدولي في ظل التحول لعالم متعدد الأقطاب، مشدداً على أن إنهاء "دولرة" الاقتصاد العالمي أصبحت "خطوة حتمية".
واتصالاً بذلك، ترى روسيا أن إدراج المزيد من العملات في نظام التداول الرسمي قد يؤدي إلى تسهيل المعاملات التجارية الثنائية باستخدام العملات المحلية بدلاً من الاعتماد على الدولار الأمريكي، وهو توجه بدأ في البروز مع اتجاه روسيا والصين للاعتماد بشكل أكبر على اليوان الصيني في التسويات عبر الحدود بين الدولتين.
2- التخفيف من وطأة العقوبات الغربية: فرضت الدول الغربية الكبرى عقوبات متصاعدة على روسيا منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، مستهدفة القطاعات الحيوية مثل قطاع الطاقة والقطاعين المالي والتكنولوجي، حتى أصبحت روسيا الدولة الأكثر عُرضة للعقوبات في العالم في غضون 10 أيام فقط من قيام الحرب. وكان من أبرز تلك العقوبات تقويض قدرة موسكو على الوصول إلى احتياطاتها الأجنبية من العملات لاسيما الدولار الأمريكي، وتجميد أصول العديد من رجال الأعمال والأثرياء الروس، إلى جانب استبعاد بعض المصارف الروسية من نظام "سويفت" العالمي، وتحديد سقف لبيع النفط الروسي، وانسحاب كبريات الشركات الأجنبية من السوق الروسية، وغيرها من العقوبات التي تستهدف إجبار موسكو على إنهاء حربها ضد كييف. 
وفي هذا السياق، حاولت روسيا التخفيف من حدة تلك العقوبات، إما عن طريق الرد عليها وفرض عقوبات مماثلة، أو عن طريق تقليص انكشافها على الدولار، لتحصين اقتصادها من آثار العقوبات الغربية والتحايل عليها، ولإثبات أنها ما تزال تمتلك الأدوات التي تُمكنها من مواجهة الدول الغربية.
 

 3-توسيع موسكو قاعدة شركائها الاستراتيجيين: تسعى روسيا، بخطوة إدراج عملات جديدة لدى بنكها المركزي، إلىتحقيق هدف طويل الأمد، وهو توسيع نطاق تحالفاتها الاستراتيجية واستقطاب المزيد من الاقتصادات عن طريق منحها فرصة أكبر لتقليل اعتمادها على الدولار، فضلاً عن دفعها لاتخاذ خطوة مماثلة تتمثل في إدراج الروبل الروسي في سلة تداول العملات الأجنبية، مما قد يصب في صالح تعزيز هدف تدويل الروبل الذي تطمح إليه موسكو، خصوصاً في ظل إبداء عشرات الدول اهتمامها مؤخراً بالانضمام إلى مجموعة الاقتصادات الناشئة "بريكس"، التي تضم في عضويتها كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا.
ارتدادات مُحتملة:
يبدو من الصعب التكهن الآن بتداعيات القرار الروسي بضم عملات جديدة إلى نشرة أسعار الصرف الروبل، لاسيما في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية المتسارعة، إلا أن موسكو تطمح لتحقيق بعض النتائج في المديين المتوسط والطويل، وهي كالتالي:
1- تيسير المعاملات الاقتصادية الخارجية: تتزامن تحركات البنك المركزي الروسي مع المحادثات التي يجريها مع نظرائه من الدول الأخرى لوضع آليات لإتمام التسويات الاقتصادية المتبادلة بالاعتماد على العملات المحلية، مع عدم اقتصار تلك المعاملات على التبادلات التجارية فقط، بل قد تمتد أيضاً إلى التعاون الاستثماري وتعاملات السائحين الروس في الخارج، فضلاً عن احتمالية اقتراض هذه الدول بالروبل بدلاً من الدولار.
وتحاول القيادة الروسية تأكيد إمكانية التعويل على العملات المحلية في المعاملات الاقتصادية والمالية مع الدول الأخرى. وبخلاف الدول الآسيوية، توجهت موسكو للقارة الإفريقية أيضاً من أجل إعادة ترتيب آلية للتعاون الثنائي في ظل العقوبات الغربية، عبر اللجوء لاستخدام العملات الوطنية وتقليص حجم التجارة المقومة بالدولار الأمريكي واليورو بشكل تدريجي.
2- توسيع نطاق نظام "مير" للدفع الإلكتروني: لا يُمكن فصل إدراج سعر الصرف الرسمي لتسع عملات جديدة عن تعهدات البنك المركزي الروسي بمواصلة جهوده الهادفة لزيادة عدد الدول التي تسمح للمواطنين الروس بسداد مدفوعات خارجية عبر بطاقات "مير" المصرفية "MIR"، وذلك عقب إيقاف الشركتين الأمريكيتين "فيزا" و"ماستر كارد" عملياتهما في روسيا عبر تعطيل بطاقاتهما الصادرة في موسكو عن العمل في الخارج. 
وكنتيجة لتلك الجهود، أبدت العديد من الدول اهتمامها بتوسيع نطاق نظام "مير" داخل أراضيها خلال عام 2022، بيد أن هذا الاهتمام قد قُوبل بعائق أساسي يتمثل في تحذير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية من أن المؤسسات المالية غير الأمريكية التي تدخل في اتفاقيات مع مشغل شبكة الدفع الروسي من شأنها أن تخاطر بدعم جهود موسكو للتهرب من العقوبات الأمريكية مما قد يعرضها إلى عقوبات ثانوية، على نحو أجبر كلاً من أرمينيا وتركيا وكازاخستان وطاجيكستان وفيتنام وأوزبكستان على التوقف عن قبول بطاقات الدفع الروسي وتعليق سحب الأموال لحامليها.
فرص وتحديات:
تحمل خطوة البنك المركزي الروسي فرصاً وبعض التحديات الأخرى لكل من موسكو والاقتصادات المُنخرطة في التعامل معها بالعملات المحلية، والتي يُمكن استعراضها على النحو الآتي:
1- دعم الاقتصادات المُناظرة: يُمثل إضافة عملات جديدة في نظام تداول البنك المركزي الروسي نافذة للدول صاحبة العملات من أجل تقليل الضغط على الدولار الأمريكي وتقليل حاجاتها الماسة إليه، بما سينعكس إيجابياً على أسعار صرف عملاتها، كما أنه سيسهم في توفير السلع الاستراتيجية التي تصدرها روسيا مثل السلع الغذائية الأساسية ومنتجات الطاقة، فضلاً عن تسهيل حركة السياحة بين موسكو وتلك الدول، وزيادة حركة التجارة البينية المقومة بالعملات المحلية وضمان تدفقها بسلالة بعيداً عن نظيرتها المهيمنة على حركة التجارة العالمية كاليورو والدولار، الذي يهيمن على نحو 88% من حركة التجارة، وفقاً لبنك التسويات الدولي "Bank for International Settlements".
2- حجم المكاسب المنتظرة: كما ذكرنا، تدفع خطوة البنك المركزي الروسي الأخيرة نحو تشجيع التجارة الثنائية بين موسكو والدول الأخرى وتحفيز حركة السياحة الروسية الخارجية، مما يسمح بتخفيف الضغوط على السيولة الدولارية لاسيما في أوقات الأزمات الاقتصادية. ولكن بشكل عام، فإن مقدار استفادة هذه الدول من التعامل مع روسيا بالعملات غير الدولارية، سيتوقف على عوامل ذاتية أخرى، مثل أساسيات الاقتصاد الكلي لتلك الدول (الموازين التجارية والمالية)، واستقرار أنظمة الصرف وغيرها من العوامل، فضلا ًعن مدى استقرار عملة الروبل نفسها. 
3- تحديد آلية واضحة: يرتهن تحقق المنافع سالفة الذكر على أرض الواقع بصدور آلية واضحة من البنوك المركزية الأخرى بشأن كيفية اللجوء لاستخدام العملات المحلية في عملية التبادل التجاري الثنائي؛ نظراً لأن تلك الخطوة تقتضي القيام بالعديد من الترتيبات البنكية المعقدة، والربط بين أنظمة الدفع المختلفة، خاصة في ظل مخاوف التعرض لعقوبات أمريكية ثانوية في حال الموافقة على الانضمام لنظام تبادل الرسائل بين البنوك "SPFS"، بديلاً لنظام "سويفت" العالمي، أو استخدام نظام الدفع الإلكتروني "MIR".
خلاصة القول إنه يُمكن قراءة التحركات الروسية الأخيرة في سياق خطوات روسيا الحثيثة التي تتخذها منذ سنوات للتصدي للهيمنة الدولارية، وتدويل الروبل، مع أداء دور مؤثر في نظام عالمي متعدد العملات، وهي خطوات قد تجلت عقب اندلاع الحرب الأوكرانية التي سلطت الضوء على هشاشة النظام الاقتصادي العالمي الحالي، وأكدت أهمية تنويع سلة عملات البنوك المركزية المختلفة من أجل تعزيز الصلابة في مواجهة الصدمات الخارجية المتلاحقة.