انفصال محتمل!

أبعاد تعليق حركات الأزواد التزاماتها باتفاق السلام في مالي

29 December 2022


أعلنت تنسيقية حركات الأزواد وغالبية المجموعات المسلحة بشمال مالي، في 22 ديسمبر 2022، تعليق مشاركتها في المراقبة وآليات تنفيذ "اتفاق الجزائر" للسلام في عام 2015، وسط اتهامات للمجلس العسكري الحاكم في باماكو بعدم الالتزام ببنود الاتفاق، مشترطةً عقد اجتماع دولي على أرض محايدة لبحث مستقبل اتفاق السلام، وهو ما أثار تخوفات من تفاقم الأوضاع الأمنية في شمال مالي.

تصعيد جديد:

شهد شمال مالي خلال الأيام الأخيرة تصعيداً جديداً من قبل تحالف الحركات المسلحة بشمال البلاد، والذي يسمى بـ"الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية"، ما أثار تخوفات من احتمالية انهيار اتفاق الجزائر، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تعليق الالتزام باتفاق الجزائر: علّقت "تنسيقية حركات الأزواد" وغالبية الحركات المسلحة في شمال مالي، في 22 ديسمبر الجاري، تعليق التزاماتها باتفاقية الجزائر، حيث اتهمت المجلس العسكري الحاكم في باماكو بالافتقار للإرادة السياسية المطلوبة لتنفيذ البنود المنصوص عليها في الاتفاق.

وتتشكل "تنسيقية حركات الأزواد" من تحالف للطوارق والقوميين العرب بشمال مالي. وكان الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية، وقع في عام 2015، على اتفاق سلام بالجزائر، مع الحكومة المالية وبقية المجموعات الموالية لها، وذلك بعد محاولة الحركات المتمردة بإقليم الأزواد الانفصال عن مالي في عام 2012. 

ونص الاتفاق على عدة نقاط رئيسة، أبرزها احترام التنوع الإثني في مالي، والعمل على استعادة السلام من خلال منح الحكم الذاتي لإقليم الأزواد، وادماج المجموعات المسلحة في الجيش المالي، بيد أن باماكو لم تلتزم بتطبيق بنود الاتفاق.

2- دعوة لوساطة دولية: ربطت تنسيقية الأزواد والحركات المسلحة تعليق التزاماتها باتفاق 2015 لحين عقد اجتماع دولي في مكان محايد، مع ضرورة انخراط الفواعل الدولية والإقليمية للقيام بدور الوساطة لإعادة بحث مستقبل الاتفاق. كما تم توجيه دعوة للمنظمات الدولية للتدخل وتقديم المساعدات الانسانية للسكان في شمال مالي، في ظل تفاقم الأوضاع وتصاعد العمليات الإرهابية، والتي تمخض عنها مئات القتلى من المدنيين.

3- تفاقم الأوضاع الأمنية: عزت تقديرات إعادة الزخم لملف المصالحة واتفاق السلام في مالي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية في إقليم أزواد، حيث تدهورت الأوضاع الأمنية في أعقاب نهاية عملية برخان والانسحاب الفرنسي الكامل من البلاد. 

وانعكس ذلك في الزيادة الملحوظة في معدلات القتل للمدنيين، والدمار الكامل لبعض القرى في جاو وميناكا وتمبكتو، وهو ما دفع حركات الأزواد للتصعيد ضد الحكومة، خاصةً بعدما وجهت اتهاماً للقوات الحكومية وعناصر فاجنر الروسية بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في الإقليم.

دلالات مهمة:

عكس التصعيد الأخير لحركات الأزواد ضد المجلس العسكري الحاكم في مالي جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- تهديد اتفاق السلام الهش: شكل اتفاق الجزائر عام 2015 الإطار الرئيسي لتحقيق الاستقرار في شمال البلاد، بيد أن البيان الأخير الصادر عن التنسيقية والمجموعات المسلحة الأخرى أثار تخوفات عدة بشأن مستقبل هذا الاتفاق.

وعلى الرغم من عدم تنفيذ غالبية بنود اتفاق السلام منذ البداية، بيد أن استمرارية الاتفاق كانت تضمن نسبياً درجة من الاستقرار خلال السنوات الماضية، خاصة بعد القضاء على تمرد الطوارق الساعين للحصول على الاستقلال أو على الأقل الحكم الذاتي، فضلاً عن اعتبار هذا الاتفاق بمنزلة الركيزة التي يمكن البناء عليها في أي توافقات لاحقة.

2- عودة الزخم لملف المصالحة: شهدت الأشهر الأخيرة عودة الزخم بشأن تنفيذ اتفاق الجزائر للسلام، حيث أجرت الوساطة الدولية بقيادة الجزائر عدة مباحثات في الفترة الاخيرة، لعل أبرزها اجتماع وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، ونظيره المالي، عبد الله ديوب، مطلع سبتمبر الماضي، وذلك على هامش اجتماعات الدورة الـ18 من اللجنة الاستراتيجية الثنائية الجزائرية – المالية.

وفي هذا السياق، طالبت تقارير غربية، خلال الآونة الأخيرة، بضرورة تنفيذ اتفاق السلام لعام 2015، للحيلولة دون تفاقم الأوضاع في شمال مالي. كما عقد قائد قوات البعثة الأممية في مالي "مينوسما"، كيس ماتيسين، لقاءً مع رئيس تنسيقية حركات الأزواد، العباس أغ انتالا، في 16 ديسمبر 2022، لبحث مستقبل اتفاق السلام لعام 2015. ودعا مجلس الأمن الدولي إلى الحفاظ على اتفاق الجزائر، وتنفيذ بنوده من دون تأخير.

3- أولوية مكافحة الإرهاب لباماكو: ألمح المجلس العسكري الحاكم في مالي إلى أن أولويته الحالية تتمثل في محاربة المنظمات الإرهابية المنتشرة في شمال البلاد، لاسيما تنظيمي داعش والقاعدة، وذلك لتبرير عدم التزامه باتفاق الجزائر، فيما أشارت تقديرات أخرى إلى أن هناك عناصر من النخبة الحاكمة الحالية في مالي رافضة لفكرة توسيع الحكم الذاتي لإقليم الأزواد.

وعمدت حركات الأزواد خلال الفترة الأخيرة إلى محاولة توحيد صفوفها وتجاوز الخلافات البينية لمواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة، كما ربما تستهدف هذه الحركات من ذلك الضغط على المجلس العسكري في باماكو لتنفيذ اتفاق السلام والحصول على مزيد من المكتسبات، لا سيما فيما يتعلق بالحصول على الحكم الذاتي. 

4- تراجع نفوذ الحكومة المركزية: عكست تحركات حركات الأزواد تراجع سيطرة الحكومة المركزية على معظم مناطق شمال مالي، وبالتالي باتت الحركات المسلحة الموجودة هناك تحظى بنفوذ أقوى في مواجهة الحكومة المركزية، وهو ما أكدته مصادر صحفية فرنسية. وألمحت هذه التقارير نفسها إلى أن باماكو أفسحت المجال أمام عناصر فاجنر الروسية للتغلغل بدرجة أكبر في شمال البلاد، لكنها لم تتمكن، حتى الآن، من تحقيق تقدم حقيقي على الأرض أو فرض سيطرتها على المنطقة.

انعكاسات محتملة:

هناك عدة انعكاسات محتملة يمكن أن تتمخض عن التصعيد الراهن الذي تشهده شمال مالي في الوقت الراهن، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- انهيار محتمل لاتفاق الجزائر: أثارت تقارير تخوفات متزايدة من إمكانية انهيار اتفاق الجزائر، وذلك في إطار التقدم البطيء في تنفيذ بنوده منذ توقيعه قبل نحو ثماني سنوات، لاسيما فيما يتعلق باللامركزية وعملية نزع السلاح وإدماج المجموعات المسلحة.

وربما يتسق هذا الطرح مع انتقادات حركات الأزواد للبيان الأخير الصادر عن الوساطة الدولية، في 15 ديسمبر الجاري، في أعقاب الاجتماع الطارئ الذي عقده أعضاء الوساطة الدولة في مالي عبر الفيديو، والذي دعا أطراف الصراع كافة إلى تجنب اتخاذ أي خطوات تصعيدية يمكن أن تقوض جهود بناء الثقة، حيث اعتبرت الحركات المسلحة أنه بيان ضعيف لا يلبي تطلعات الأزواد.

2- إعادة طرح سيناريو الانفصال: عادت بعض التقديرات تطرح فكرة انفصال إقليم أزواد كأحد السيناريوهات المطروحة في ظل التطورات الأخيرة في مالي، والتصعيد الذي تتبناه حالياً حركات الأزواد ضد المجلس العسكري الحاكم في مالي. وفي هذا السياق، لوحت هذه الحركات خلال الأيام الأخيرة إلى نيتها الاستمرار في اتخاذ مزيد من الخطوات التصعيدية، بما في ذلك الإعلان عن استقلال إقليم أزواد من جانب واحد.

في المقابل، اعتبرت تقديرات أخرى أن خطاب حركات الأزواد التصعيدي لا يعكس نية حقيقة من قبل الأخيرة لإعادة المواجهات المسلحة مع باماكو، نظراً لارتفاع تكلفة أي صراع مسلح، ولكنها ربما تستهدف تدخل الشركاء الدوليين للضغط على المجلس العسكري في مالي لتنفيذ بنود اتفاق السلام. 

ولا يعني ما سبق استبعاد احتمالية حدوث مواجهات مسلحة بين الحكومة المركزية في باماكو وحركات الأزواد والمجموعات المسلحة في شمال مالي تماماً، خاصةً مع إدراك الأخيرة أن فرنسا لن تتدخل هذه المرة لدعم الحكومة المالية والحيلولة دون انفصال إقليم الأزواد، وإن كانت حركات الأزواد سوف تواجه تحديات أمنية غير هينة من جانب تنظيمي داعش والقاعدة.

3- تحركات جزائرية محتملة: في إطار القلق الجزائري من تدهور الأوضاع الأمنية على تخوم حدودها الجنوبية، ربما تسعى الجزائر خلال الفترة المقبلة للعمل على استعادة الهدوء، عبر الدعوة لاستئناف الحوار بين الحكومة المالية وحركات الأزواد والمجموعات المسلحة، من أجل إعادة إحياء اتفاق السلام، وتجديد الالتزامات المبنثقة عنه، وتحديد آليات واضحة لتنفيذها، على غرار اتفاق "تمنغست" لعام 1992، والذي كان قد وضع حداً لتحركات الازواد آنذاك وتم نزع سلاحها.

وربما يدفع التصعيد الراهن من قبل حركات الأزواد لانخراط الجزائر بدرجة أكبر لمحاولة تجنب انهيار اتفاق السلام، خاصةً مع تلويح هذه الحركات بضرورة قيام الجزائر بمزيد من الجهود، كونها مسؤولة عن قيادة الوساطة الدولية المرتبطة بأزمة إقليم الأزواد، وإلا سيتم اتخاذ خيارات أخرى، بما في ذلك البحث عن وسيط محايد آخر، ورفض الوساطة الجزائرية.

وفي الختام، يعكس المشهد الراهن في شمال مالي حالةً من السيولة الأمنية التي تجعل كافة السيناريوهات مطروحة، بما في ذلك سيناريو الانفصال، خاصةً في ظل التغييرات الإقليمية والدولية المرتبط بالملف المالي، مقارنة بالوضعية التي كان عليها المشهد في عام 2012، كما لا يمكن استبعاد تكرار محاولة الانقلابات العسكرية في البلاد، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، والتحديات المتزايدة التي أضحت تهدد وحدة الدولة المالية.