تحديات الصفقة:

هل يتحقق السلام بإقليم التيجراي بعد اتفاق بريتوريا؟

05 November 2022


بعد ما يقرب من عامين كاملين من الصراع الدموي بالغ العنف، تم التوقيع في بريتوريا بدولة جنوب أفريقيا، في الثاني من نوفمبر 2022 على اتفاق وقف الأعمال العدائية بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التيجراي. وطبقاً لبعض التقديرات فقد بلغت الوفيات المباشرة وغير المباشرة مئات الآلاف، وربما نصف مليون نسمة، بالإضافة إلى تدمير الممتلكات ومشروعات البنية الأساسية. وعلى عكس الهدنة أحادية الجانب التي أعلنها رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في مارس 2022، فإن اتفاقية سلام بريتوريا مكتوبة وتتضمن آلية للمراقبة والإشراف والتحقق. ومن المقرر أن يعين الاتحاد الأفريقي عشرة خبراء أفارقة، بالإضافة لأطراف الصراع لإنشاء آلية مشتركة. وقد يستخدم الاتحاد الأفريقي أيضاً الأقمار الصناعية. وعلى الرغم من الضغوط الحثيثة التي بذلتها الولايات المتحدة فإن إثيوبيا تعطي الفضل الأكبر للاتحاد الأفريقي من خلال التأكيد على شعار "حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية". وإذا كان فريق الخبراء صغيراً جداً، ومن الصعوبة بمكان أن يتمكن من مراقبة التنفيذ في جميع أنحاء إقليم التيجراي، فإن بمقدور أطراف الاتفاق زيادة عدد فريق المراقبة بعد ذلك.

وساطة وضغوطات

إذا قبلنا بفكرة أن الحرب هي حل لإنهاء الصراع داخل الدول، فهي بالتأكيد ليست الأفضل. ففي حالة أيرلندا الشمالية، أظهرت عسكرة المقاطعة وحظر التجول مدى عقم سياسات الأمننة (أي إضفاء الطابع الأمني على الصراع)، حيث زادت الحرب الأمور سوءاً وكان كلما ارتفع عدد القتلى أو الاعتقالات التي قام بها الجيش البريطاني، زاد العنف المترتب على الهجمات. 

ويمكن إبداء الملاحظة نفسها بالنسبة للصراع الدائر في إقليم كازامانس (السنغال). فمنذ البداية، في عام 1982، كانت منطقة كازامانس تحت إدارة حاكم عسكري قام بتضييق الخناق على الانفصاليين حتى في أمور حياتهم المعتادة، وكانوا يردوا في المقابل بقتل المدنيين في القرى، أو نصب الفخاخ المميتة للجيش السنغالي. وتشير هذه الأمثلة إلى أنه يجب تفضيل الوساطة والتفاوض لتحقيق سلام دائم في النزاعات الداخلية.

وعليه كان خيار الطرفين في صراع التيغراي هو التفاوض والتوصل إلى تسوية سلمية. قامت الولايات المتحدة بالجهد الأكبر في مرحلة ما قبل المفاوضات، حيث أجريت مباحثات سرية في كل من جيبوتي وسيشل. ولعل ذلك ما مهد الطريق لمرحلة الوساطة التي قادها الممثل الأعلى للاتحاد الأفريقي الخاص بالقرن الأفريقي الرئيس النيجيري السابق، أولوسيغون أوباسانجو، والرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، والنائبة السابقة لرئيس جنوب أفريقيا فومزيل ملامبو-نغوكا. كما شاركت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بصفة مراقبين. على أن الولايات المتحدة قامت بدور حاسم في ممارسة الضغط على الحكومة الإثيوبية ووفرت الدعم الأمني واللوجستي لوفد التيغراي المشارك في مفاوضات بريتوريا.

كان من المفترض أن تستمر المفاوضات في جنوب أفريقيا خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر 2022، ولكن تم تمديدها حتى يوم الأربعاء الثاني من نوفمبر الجاري، حيث تم التوقيع على اتفاق وقف الأعمال العدائية. ووفقاً للمادة الأولى من الاتفاق، فإن أهداف هذه الاتفاقية هي: 1-  الوصول إلى وقف فوري ودائم للأعمال العدائية بهدف إسكات المدافع وخلق بيئة مواتية وإرساء أسس السلام المستدام. 2-  استعادة النظام الدستوري المعطل بسبب النزاع في منطقة تيغراي. 3 -  نبذ العنف كوسيلة لحل الخلافات السياسية. 4-  ضمان الأمن للجميع. 5-  ضمان تسوية دائمة للنزاع. 6-  توفير إطار عمل لمعالجة المسائل الناشئة عن الصراع. 7-  توفير إطار لضمان المساءلة عن الأمور الناشئة عن النزاع. 8-  تعزيز المصالحة وإعادة تأهيل الروابط الاجتماعية. 9-  تسهيل الانتعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار. 10 - الالتزام بمعالجة الخلافات السياسية الأساسية. 11- توفير إطار للرصد والتحقق من تنفيذ الاتفاقية.


مكاسب الطرفين:

من المكاسب الرئيسية للحكومة الفيدرالية أنها ستتولى إدارة إقليم التيجراي، بما في ذلك جميع المنشآت الفيدرالية، وستدخل قوات الجيش الفيدرالي إلى مكيلي (عاصمة إقليم التيجراي) بشكل سلمي. وسوف تجرى انتخابات المجلس الإقليمي وسيتم تمثيل شعب التيجراي في البرلمان الاتحادي. فتنص المادة 7 فقرة ج من الاتفاق على: "تحترم الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي التفويض الدستوري للحكومة الفيدرالية بنشر قوة الدفاع الوطني الإثيوبية بالإضافة إلى القوات الأمنية وجهات انفاذ القانون لممارسة مسؤولياتهم طبقاً للدستور والقوانين ذات الصلة". 

كما نص الاتفاق في مادته السادسة على الاعتراف بوجود جيش وطني واحد لجمهورية إثيوبيا الفيدرالية. واتفق الطرفان على تصميم وتنفيذ برنامج وطني لنزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج لمقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بالتوافق مع الدستور الإثيوبي. علاوة على ذلك، تلتزم الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بنزع السلاح الكامل في غضون 30 يوماً، بدءاً بالأسلحة الثقيلة ثم يتبعها الأسلحة الخفيفة، كجزء من عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وسيكون هذا سريعاً جداً، نظراً للحجم الهائل لقوات دفاع التيجراي (ربما يقدر العدد الإجمالي بحوالي 200 ألف).  

من جهة أخرى يمكن للجبهة الشعبية لتحرير التيغراي التي انسحبت من المدن الكبرى تحت وطأة تقدم التحالف الإثيوبي الأمهري الأريتيري الترشح للانتخابات، حيث سترفع الحكومة تصنيفها لها كمنظمة إرهابية. ومن المفترض أيضاً أن تكون جزءاً من "الإدارة الإقليمية المؤقتة الشاملة" في التيجراي انطلاقاً من مبدأ الحوار بين الطرفين. حيث تنص المادة 7 فقرة 2 على: "سوف يتعين على الحكومة الإثيوبية تيسير رفع تصنيف الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي كمنظمة إرهابية من قبل مجلس نواب الشعب". أضف إلى ذلك يمكن للجبهة الشعبية لتحرير التيغراي أن تشير إلى الالتزامات الفيدرالية لاستعادة الخدمات الأساسية ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق. ولا يخفى أنه بعد أكثر من شهرين من عدم وصول المساعدات الإنسانية، وأكثر من عام على الخدمات المعطلة، من المفترض أن يؤدي ذلك إلى إغاثة السكان المدنيين. 

بشكل عام، نحن أمام اتفاق موجز ولكنه موضوعي يعكس المكاسب القتالية الأخيرة للجيش الإثيوبي والقوات المتحالفة معه في التيجراي. ولم يكن من المحتمل تحقيق تلك التنازلات من جانب التيجراي في بداية العام الحالي.

الدور الأريتري

على الرغم من مشاركة القوات الأريتيرية في القتال ضد قوات دفاع التيغراي فإنه لم تتم دعوة الحكومة الأريترية لمفاوضات جنوب أفريقيا. ومن الواضح أنه على الرغم من عدم ذكرها في وثيقة الاتفاق، فإن الحكومة الفيدرالية الإثيوبية سوف تتحمل المسؤولية عن انسحاب قوات الدفاع الأريترية. فتنص المادة 3 فقرة 2 على اعتبار "استخدام الوكلاء لزعزعة استقرار الطرف الآخر أو التواطؤ مع أي قوة خارجية معادية لأي من الطرفين انتهاكاً لاتفاق وقف الأعمال العدائية". ومن المفترض أن ينطبق هذا أيضاً على القوات الإقليمية، لا سيما من الأمهرة، وعلى جيش تحرير أورومو.  ومن جانب آخر تلتزم قوات الدفاع الإثيوبية بحماية الحدود الدولية لإثيوبيا، ومنع أي "توغل أجنبي" وتلتزم "بضمان عدم حدوث أي استفزاز أو توغل من أي جانب من جانبي الحدود". (المادة 8 فقرة 2) ولعل ذلك أمر وثيق الصلة بشكل خاص بالحدود مع أريتريا. ويبدو أن ثمة تعهداً من قبل جبهة تحرير التيجراي باحترام اتفاقية ترسيم الحدود مع أريتريا، وهو الأمر الذي يجعل أسياس أفورقي، رئيس دولة أريتريا، يشعر بأنه خرج منتصراً من تدخله في صراع التيجراي. لقد كان أفورقي يهدف إلى إضعاف جبهة التيغراي بحيث لا تشكل تهديداً له في المستقبل. وعلى أية حال سوف تخضع جميع القضايا الأساسية الأخرى لمزيد من الحوار السياسي بين الطرفين، والذي سيبدأ بعد أسبوع واحد من رفع تصنيف الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي كمنظمة إرهابية. كما سوف تتم تسوية قضية الأراضي المتنازع عليها وفقاً للدستور الإثيوبي.  

تحديات الاتفاق 

ومع ذلك، هناك العديد من المجالات التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الاتفاق في المدى القريب. كان من الممكن أن تساعد قوة حفظ السلام الدولية في الإشراف على نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، وانسحاب الأريتريين، واستعادة الخدمات، ومراقبة تنفيذ الاتفاق، فالفريق الصغير من الخبراء الأفارقة لن يكون كافياً لهذه المهمة.  كما أن الاتحاد الأفريقي لا يمتلك القدرات الفنية واللوجستية للقيام بهذا العمل منفرداً. 

من جهة أخرى ينص الاتفاق (المادة 10 فقرة 3) على ضمان المساءلة والوصول إلى الحقيقة في قضية ضحايا الحرب والجرائم المرتكبة. وهل يقبل رئيس الوزراء أبي أحمد مفهوم المحاسبة ناهيك عن قادة التيجراي والمتورطين كافة في هذه الحرب العبثية؟. وأخيراً في إطار احترام القيم والمبادئ الدستورية بحسبانها المرجع لهذا الاتفاق، هل يمكن تفعيل المادة 39 من الدستور من أجل إجراء استفتاء للانفصال في التيجراي كما طالبت بذلك الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي؟

على أية حال فإن الاتفاق بشكله الحالي يمثل انتصاراً كبيراً للاتحاد الأفريقي. لقد أدى توسيع فريق الوساطة، بما في ذلك الولايات المتحدة وفريق هيئة الإيغاد بصفة مراقب وجنوب أفريقيا كبلد مضيف، إلى ترسيخ مصداقية العملية السلمية. كما   يمكن أن تمثل هذه الاتفاقية نقطة تحول فاصلة في تاريخ إثيوبيا، من خلال إنهاء حرب التيجراي الدموية بطريقة تفاوضية، وليس من خلال الانتصار في ساحة المعارك كما تعكسها الخبرة التاريخية. ينبغي أن يكون هذا المثال الإثيوبي فرصة للباحثين والدارسين حول التفاوض والوساطة في النزاعات الداخلية لاستكشاف مسار الوساطة المبكرة ومبادرات الدبلوماسية الوقائية. إن الحكومات الأفريقية غالباً ما تتجاهل الأزمة الناشئة حتى تتحول إلى نزاع مسلح. في بعض الحالات، لا تكمن المشكلة في تجاهل بوادر الصراع فحسب، بل أيضاً في الرد بقوة عن طريق القمع العنيف الذي يؤدي إلى نزاع مسلح.