أكثر من الطاقة.. ماذا تعني جولة "شولتس" الخليجية؟

26 September 2022


لاقت الجولة التي قام بها المستشار الألماني، أولاف شولتس، في ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات وقطر) يومي السبت والأحد 24 و25 سبتمبر 2022، اهتماماً كبيراً من المراقبين. وهي زيارة جديرة حقاً بذلك الاهتمام، حيث إنها تعكس ثقل ألمانيا الاقتصادي العالمي ودورها السياسي في الاتحاد الأوروبي وما تمثله من حلقة وصل للغاز الروسي إلى أوروبا، فضلاً عن توقيتها المُهم في ظل حاجة أوروبا لمصادر الطاقة الخليجية.

توقيت الزيارة:

جاءت زيارة المستشار الألماني لثلاث من دول الخليج في توقيت حساس ودقيق، حيث يشهد العالم تطورات متلاحقة وساخنة في عدة نقاط للتوتر وأزمات راهنة. وأولى هذه النقاط وأهمها بالطبع، الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث قام شولتس بجولته الخليجية بعد أيام قليلة من مكالمة هاتفية طويلة له مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومما يوضح مدى أهمية الجولة وارتباطها بهذه المحادثة الهاتفية، أنها كانت أول محادثة بين شولتس وبوتين منذ ثلاثة أشهر. ومن المُهم في هذا السياق الإشارة بإيجاز إلى خلاصة ما جرى بينهما خلال المحادثة، خصوصاً فيما يتعلق بأزمة الطاقة، حيث حمّل الرئيس بوتين الدول الأوروبية المسؤولية عن أزمة الطاقة في أوروبا والعالم، معتبراً أن نقص إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر خط "السيل الشمالي-1" ناجم عن العقوبات الغربية ضد موسكو. 

وبشكل عام، يمكن القول إن محادثات شولتس الهاتفية مع بوتين لم تسفر عن جديد، إذ لم يحدث اختراق في أي من الملفات التي ناقشاها، الأمر الذي يعني ضمنياً أن جولة شولتس الخليجية هي في حقيقتها مهمة خاصة لإنقاذ لألمانيا وأوروبا من نقص الغاز في الشتاء المقبل، بعد أن بدت بوابة الإمداد الروسية مغلقة، ولو إلى حين. 

لكن يجب تذكر أن جولة شولتس لم تكن لأغراض الطاقة فقط، فبالرجوع إلى مستجدات السياسة الألمانية، خاصةً على الساحة الأوروبية، نجدها تلتقي مع تعاظم الدور الخليجي في السياقين الإقليمي والعالمي، وبالتالي هناك تقاطع منطقي بين تطلعات وتقديرات الطرفين لمصالحهما وكيفية تحقيقها. ويُشار هنا إلى أن حجم التبادل التجاري بين ألمانيا ودول الخليج العربية، بلغ في عام 2021 حوالي 19 مليار دولار، وهو رقم مرشح للزيادة بحكم ارتفاع طلبيات ألمانيا من الغاز والنفط الخليجي. وبينما تسعى دول الخليج إلى تنويع مصادر الدخل القومي وتوسيع القاعدة الإنتاجية غير النفطية، فإن لألمانيا ميزات نسبية عالية خصوصاً في مجال الصناعات المتوسطة والثقيلة. 

أهداف عديدة:

"الغاز البديل" هو الشعار السياسي الذي حملته زيارة شولتس، وفي الحقيقة هو الشعار الذي تجتمع عليه تفسيرات المهتمين بمجريات الأحداث في الحرب الأوكرانية، نظراً لأهمية الغاز بالنسبة لأوروبا وما يمثله من قلق على صانعي القرار فيها. فأجواء أوروبا كلها مشحونة بتهديدات أزمة غاز قادمة فيها مع حلول فصل الشتاء. وحيث إن جولة شولتس لم تشمل كل دول الخليج، واقتصرت على الدول التي لديها إمكانات سد نقص الطاقة في أوروبا وأيضاً القدرة السياسية على التأثير في الساحة الدولية، وبما قد يغير مسار الحرب الروسية – الأوكرانية؛ فإن كل هذا يعني بالضرورة تداعيات واحتمالات ودلالات سياسية شديدة الأهمية. 

فلا أحد يستطيع أن يجزم بالنتائج التي يمكن أن يخرج بها شولتس من هذه الجولة الخليجية، خاصةً في مسألة سد فراغ الطاقة الذي أحدثته روسيا عقاباً للدول الأوروبية على وقوفها مع أوكرانيا. لكن الأرجح أن دول الخليج لن تخرج عن مواقفها السابقة والتزامها بأمرين اثنين، الأول هو الوقوف على "الحياد الإيجابي" وعدم الميل إلى أي طرف في هذا النزاع ضد آخر، بهدف الاحتفاظ بموقع القادر على المساعدة في الوصول إلى حل سلمي للأزمة. والأمر الثاني هو الالتزام بالحصص المقررة ضمن اتفاق "أوبك+"؛ وذلك لتجنب أي عدم استقرار في أسعار الطاقة بالأسواق العالمية. 

وعلى الرغم من أهمية ومحورية هذا الجانب "الطاقوي"، حيث تستورد أوروبا 40% من احتياجاتها الغازية، فإن هناك هدفين آخرين، الأول هو قلق ألمانيا من انكماش اقتصادها خلال الفترة المقبلة، بعدما سجل نموها تراجعاً هذه السنة. لذا كانت أغلبية الوفد المرافق للمستشار الألماني من الاقتصاديين. وبالتالي فالمسألة ليست فقط البحث عن بديل للغاز الروسي، وإنما أيضاً خدمة الاقتصاد وبصفة خاصة الاستثمار في ألمانيا. ولدى الألمان قناعة كبيرة بأن إقبال الاستثمارات العربية على ألمانيا سوف يُنشط اقتصادها ويقلل من احتمالات الانكماش المتزايدة حالياً.

والهدف الآخر المُحتمل، هو طلب وساطة خليجية والتدخل من أجل دفع الرئيس بوتين إلى وقف الحرب الأوكرانية. ويوجد أكثر من مبرر لهذا الاحتمال، ومن ذلك الوساطة السعودية التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لدى روسيا وأوكرانيا لتبادل الأسرى، وهم ينتمون إلى خمس دول في العالم. فهذه الخطوة توفر أرضية تمهيدية لإيجاد صيغة تنقذ العالم من تلويح بوتين بالحرب النووية، والذي لجأ إليه في خطابه يوم 21 سبتمبر 2022، وفقاً لما يراه حقاً شرعياً في حماية سيادة روسيا. 

ومن هنا فإن جولة المستشار الألماني قد تمثل أيضاً محاولة لاستباق الزيارة المرتقبة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتي كان الرئيس جو بايدن قد دعا سموه للقيام بها أثناء قمة جدة في يوليو الماضي، حيث قد تتم هذه الزيارة قبل نهاية العام الحالي، مع العمل على تضمين أجندة تلك الزيارة موضوع إيقاف الحرب، وذلك بعد أن أثرت على الاقتصاد الأوروبي، إلى حد دفع بعض الدول الأوروبية إلى العودة لاستخدام الفحم كبديل للغاز.

دلالات مُهمة:

لعل من أبرز الدلالات التي حملتها زيارة شولتس لكل من السعودية والإمارات وقطر، ما يلي:  

1- دول الخليج باتت جاذبة للعديد من دول العالم، ليس فقط من أجل سد فراغات سياسية كما هي محاولة الغرب في الوقوف بجانبه في الأزمة مع روسيا، ولكن أيضاً في حلحلة أزمة الطاقة الدولية. فهذه الزيارة تعتبر الثالثة لمسؤول غربي كبير، وكان الأول رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، في مارس الماضي، ثم الرئيس الأمريكي بايدن في يوليو الماضي، حيث زار السعودية وقابل قادة الخليج والعرب؛ وذلك في دلالة واضحة على صعود مكانة دول هذه المنطقة وفاعليتها في النظام الدولي. وها هو اليوم يقوم المستشار الألماني بجولة إلى ثلاث دول خليجية. 

2- تثبت هذه الجولة، مع غيرها من المواقف والمؤشرات، خطأ تقديرات سابقة لمفكرين غربيين بشأن إمكانية الاستغناء عن النفط الخليجي واستبعاد دول الخليج من موازين أمن الطاقة العالمي. فقد كانت بعض الطروحات السياسية تروج لبدء الاستغناء عن النفط الخليجي، واكتفاء الغرب بمصادر بديلة. ولكن زيارة شولتس، وعلى غرار زيارات المسؤولين الغربيين الآخرين، تطرح تساؤلات حول حقيقة التقديرات التي دائماً ما تعرب عن انزعاجها من المواقف الخليجية، بل وكثيراً ما كان الغرب يحاول ابتزاز دول الخليج وينتقد سلوكياتها، بهدف الحفاظ على استقرار وضمان توريد الطاقة إليها.

3- ارتباطاً مع النقطة السابقة، تشير جولة شولتس الخليجية بوضوح إلى تحرك ألمانيا عملياً باتجاه تنويع مصادرها من الطاقة الأحفورية. وهذا ما أعلنه المستشار الألماني صراحة بقوله، وهو في ضيافة دولة الإمارات، إن الاعتماد على مورد واحد والارتهان لقراراته "لن يتكرر مرة أخرى"، وهذا طبعاً في إشارة ضمنية إلى روسيا. ويتضح هذا أكثر من الاتفاق الذي أُبرم بين ألمانيا ودولة الإمارات، خلال هذه الزيارة يوم 25 سبتمبر 2022، على توريد شحنات من الغاز المُسال ووقود الديزل إلى ألمانيا. ثم في مساء اليوم نفسه من الدوحة بالاتفاق على تعجيل الاتفاق مع قطر على كميات الغاز الذي يمكن أن تحصل عليها ألمانيا خلال الفترة المقبلة، وكانت المفاوضات قد تعثرت مؤخراً بين الجانبين لخلافات فنية ومالية حول التسعير والكميات وتوقيتات التوريد. 

4- الدلالة الأهم أن هذا الاهتمام الدولي بدول الخليج، لم يكن ليحدث لولا أن هذه الدول تتبنى منذ فترة "سياسة برجماتية"، تبتعد من خلالها عن فكرة التحالفات الأيديولوجية، وتركز فقط على المصالح السياسية والاقتصادية. وربما دولة الإمارات أكثر وضوحاً في هذه النقطة من خلال استراتيجيتها للخمسين عاماً القادمة، والتي دشنتها مع بداية العام الحالي. 

وغلب على أداء الدبلوماسية الخليجية في الصراع الجيوسياسي الدولي بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، ترتيب أولويات الاستقرار والأمن الدوليين، وعدم الميل لأي طرف فيها. وبالمنطق نفسه، فإن موقف دول الخليج من تقلبات السياسة الأمريكية في المنطقة وآخرها مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني، لم يكن بالمرة عدائياً، ولم تتخذ دول الخليج أي مواقف عملية مُعادية لهذا التوجه الأمريكي بالرغم من أنه ضد مصالحها وأمنها واحتمالات تأثرها منه. 

لذلك من المُهم الأخذ في الاعتبار "التوقيت السياسي" الذي يمر به العالم، وتوسعة زاوية النظر إلى جولة شولتس لتتجاوز النطاق المباشر الضيق لتداعيات الحرب الأوكرانية. وهذا ما يتطلب بدوره استيعاب كثير من المتغيرات الدولية والإقليمية، وإدراك طبيعة التطور الذي طرأ على سياسات وأدوار دول الخليج، والذي انعكس بدوره في تزايد أهميتها وتعاظم حضورها وتأثيرها في تحقيق الاستقرار بالعالم، في مجالي أمن الطاقة والأمن الاستراتيجي. وليست جولة المستشار الألماني إلا تأكيداً لهذا الوضع، وإشارة واضحة إلى كل الدول بضرورة أن تُحسن قراءات التوازنات الجديدة، خصوصاً وضعية دول الخليج التي تقدم نفسها للرأي العام العالمي بأنها صاحبة نموذج تنموي تركز فيه على البعد الاقتصادي لتحفيز الآخرين على الاستقرار والأمن. 

في المُجمل، فإن دلالات وتداعيات الجولة الخليجية للمستشار الألماني تتجاوز أهدافها الخاصة بأزمة الطاقة والحاجة الأوروبية إلى الغاز الخليجي، إذ تشير من ناحية إلى فتح آفاق واسعة أمام التعاون الاقتصادي بين الجانبين، في ظل مُضي دول الخليج قُدماً وبقوة نحو الاقتصاد غير النفطي. وتعني بوضوح، من ناحية أخرى، أن تموضع دول الخليج على خريطة العالم وتقديرها من جانب الدول الأوروبية بصفة خاصة، سيكون في المستقبل مختلفاً كثيراً عما كان عليه قبل الأزمة الروسية - الأوكرانية.