" المنصات الرقمية":

كيف غيرت أفريقيا قواعد اللعبة في السينما العالمية؟

18 July 2022


ما زالت القارة الأفريقية محاطة بمجموعة من الصور الذهنية الثابتة التي لا تتغير بالدرجة الكافية حتى بعد نماذج التقدم التي شهدتها بعض الدول ونهوضها على عدة مستويات، فالانطباعات يغلب عليها صور عدم الاستقرار والفقر، ليس فقط على المستوى المادي، بل والإبداعي أيضاً، فلم يلتفت كثيرون إلى أهمية صناعة السينما الأفريقية وحجم مساهمتها في اقتصادات بعض الدول. 

ففي واقع الأمر وعلى مدار عقود ثلاثة كان هناك إنتاج أفريقي سينمائي يحمل الصوت والطابع اللذين يعبران عن الواقع الأفريقى حتى لو لم يلتفت له العالم بالقدر الكافي. ووفقاً للاتحاد الأفريقي لصانعي الأفلام FEPACI، فإن صناعة السينما حالياً تضخ ما يقدر بحوالي خمسة بلايين دولار من الناتج المحلي الإجمالي GDP سنوياً في أفريقيا والرقم مرشح لأن يصل إلى 200 بليون دولار إذا ما تم تعظيم استغلال الإمكانيات المتاحة لتلك الصناعة على مستوى القارة. 

 يفسر البعض عدم الاهتمام العالمي الكافي بالسينما الأفريقية، في إطار التمحور الغربي حول الذات وعدم الاهتمام بتسليط الضوء على الثقافات المختلفة الأخرى، أو الصمت العالمي إزاء التاريخ والثقافة الأفريقية عموماً. ومن ناحية أخرى أيضاً لم يكن هناك مجال للانفتاح على الأفلام من ثقافات مختلفة، حيث لم تسمح آليات الإنتاج والتوزيع التي حكمت الصناعة عالمياً لعقود بذلك، وهو ما سنتناوله لاحقاً.

السيطرة الغربية

وصلت صناعة السينما إلى بعض الدول الأفريقية فور اختراعها في فرنسا عام 1895، والتي كانت تستعمر العديد من دول القارة، وقد هيمنت فرنسا على صناعة السينما بالمنطقة وكانت الصورة السينمائية التي تعرضها تعضد الرؤية الغربية للقارة التى اصطلح على تسميتها بالقارة السمراء، كمكان بري خارج التاريخ. 

ومنذ الستينيات من القرن الماضي، بدأت تتشكل صناعة سينمائية أفريقية أكثر استقلالاً، وبدأ المخرجون الأفارقة أمثال عثمان سيمبين وجبريل ديوب مامبيتي ومفيدة تلالي وغيرهم، في تقديم أفلام تحمل صورة وطرحاً مغايرين لقارتهم. إلا أن التأثير الغربي على صناعة الأفلام الأفريقية، ظل حاضراً حتى في مرحلة ما بعد الاستعمار وبروز حركات التحرر وحصول البلدان الأفريقية على استقلالها. 

وظلت الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية والتي تربطها بفرنسا علاقات وثيقة، تتمتع بوضع مميز نسبياً سمح لها بإنتاج أفلام عالية الجودة بفضل الإنتاج المشترك مع فرنسا إلى جانب دول أوروبية أخرى، وقد تم تسليط الضوء عليها عالمياً. ونجحت تلك الأفلام في الوصول لأهم المهرجانات السينمائية الدولية، مثل كان وفينسيا وبرلين، وبرزت أسماء لصانعي سينما أفريقيين مثل محمد الأخضر حمينا، ويوسف شاهين، وإدريسا ويدراوغو، ومحمد صالح هارون، ومؤخراً ماتي ديوب التي شاركت في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، كأول امرأة أفريقية ينافس فيلمها على السعفة الذهبية عام  2019 وحصلت على الجائزة الكبرى. 

وعلى الرغم من ذلك الإنجاز، ظل التمثيل الأفريقى العالمي يحسب لأصحابه –الذين عاش بعضهم في الغرب- أكثر مما يحسب لصناعة السينما الأفريقية ذاتها. وغالباً ما كانت أفلامهم تحصل على دعم غربي كان له دور أساسي في وصول تلك الأفلام لتلك المكانة. على الجانب الآخر، كانت هناك صناعة سينما محلية تحقق نجاحات إقليمية داخل القارة الأفريقية، ترضي ذوق الجمهور المحلي، ولكن لا يسلط عليها الضوء دولياً. 

ظل الاهتمام بالسينما الأفريقية عموماً محصوراً في كونها أفلام دخيلة وظل انتشارها محدوداً على مستوى العرض الجماهيري عالمياً. يفسر البعض ذلك بالاعتقاد السائد لدى القائمين على الصناعة في الغرب، بمحدودية الإقبال الجماهيري على الأفلام الأفريقية. لكن الوضع بدأ في التغير في السنوات الأخيرة لا سيما مع الانفتاح الملحوظ على الأفلام من ثقافات مختلفة بالإضافة لزيادة الإنتاج وارتفاع جودة الأفلام وقد بدا ذلك متمثلاً في تقديم 12 فيلماً من القارة لترشيحات الأوسكار عام 2021 وهو الرقم الأكبر للقارة منذ نشأة جائزة الأوسكار، وصل للقائمة النهائية من هذه الأفلام ال12 فيلم واحد تونسي "الرجل الذي باع ظهره" إخراج كوثر بن هنية. قد تراجع هذا الرقم هذا العام ليصل إلى عشرة أفلام مرشحة من عشرة بلدان أفريقية ولم يصل أي منها للقائمة النهائية. 

مؤخراً، جاء عصر المنصات بتغير جوهري في قواعد اللعبة التقليدية في الإنتاج والتوزيع مما انعكس على السينما الأفريقية ومدى انتشارها بشكل ملحوظ.

انتشار السينما الأفريقية

أتت المنصات الرقمية بنموذج إنتاجي واقتصادي يختلف تماماً عن النموذج الإنتاجي التقليدي الذي كان يعتمد بالأساس على إيرادات دور العرض وبالتالي تلبية ما يلائم رغبات الجمهور الغربي المحلي بالأساس. وهو ما ساهم بشكل محوري في محدودية حضور السينما الأفريقية في الغرب. أما نموذج المنصات، فيعتمد على التوسع في أسواق مختلفة وتلبية حاجة جمهورها المتنوع حول العالم، حيث تحتاج لهذا الجمهور لزيادة عدد مشتركيها. وفي الوقت نفسه تعرض محتوى من ثقافات مختلفة للمواطن الغربي، مما يخلق مساحة لم تكن موجودة من الأصل قبل عصر المنصات.

في هذا السياق، تعد السوق الأفريقية محط أنظار ومجال تنافس للمنصات المختلفة لتوسيع عدد الاشتراكات بها. فقد بلغ عدد الاشتراكات في منصة نتفلكس من أفريقيا حوالي 9.3 مليون مشترك والرقم مرشح إلى أن يصل لـ13 مليوناً بحلول 2025. وبالتالي تتنافس تلك المنصات على إرضاء جمهورها عبر تقديم محتوى دارمي -من أفلام ومسلسلات- يعبر عنه ويمثل ثقافته من جهة  وعبر عرض هذا المحتوى الذي يمثله إلى العالم من جهة أخرى. فنجد، على سبيل المثال، نتفلكس تنتج محتوى درامياً في عدة بلدان في أفريقيا مثل السنغال، وغانا، وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وغيرها، بالإضافة لعرض أفلام من المنطقة على نسخة المنصة العالمية وليس فقط لجمهور المنطقة. 

وقد نجحت بعض تلك الأفلام بالفعل في جذب جمهور عالمي خارج حدود القارة. وهو ما أكده رئيس المحتوى الأفريقي لنتفلكس، حيث قال: " التجربة أثبتت أن أفلاماً تحمل قصصاً عظيمة يمكن أن تأتي من أي مكان، وأن تُحَب في أي مكان" . لا يقتصر الأمر على منصة نتفلكس فقط، وإنما نجد أيضاً "هولو" و"موبي" وغيرها من المنصات تحذو الحذو نفسه، وإن كان على مستوى يناسب إمكانياتها، حيث إن نتفلكس ما زالت تتمتع بتفوق ملحوظ في الإمكانيات مقارنة بتلك المنصات. 

كما أن الانتشار الواسع للتكنولوجيا الحديثة، وإتاحة تقنيات الديجيتال وصعود المنصات الرقمية أدى من ناحية لتغير كبير فى الصناعة على مستوى القارة ومن ناحية أخرى أثر على إمكانيات وفرص انتشارها وجذب الانتباه العالمي لما تقدمه من أفلام.

منافع اقتصادية

لا تقف انعكاسات الإنتاج السينمائي الأفريقي الغزير على الأبعاد الثقافية وتوسيع الوجود الأفريقي على الساحة الدولية فحسب، بل أن صناعة السينما في بعض الدول الأفريقية أصبحت شريكاً أساسياً في اقتصاداتها، وأبرز مثال على ذلك السينما النيجيرية التي تعرف باسم "نوليوود" تماشياً مع هوليوود وبوليوود. وإن كانت بعيدة تماماً في المقارنة بهما من ناحية ضخامة الميزانية ومدى الانتشار الدولي، فهي تقارن بهما من حيث غزارة الإنتاج، إذ إن متوسط إنتاجها سنوياً يصل ل2500 فيلم. 

هذه الأفلام منخفضة التكلفة وبلهجات محلية مختلفة، يتم تصويرها باستخدام تكنولوجيا الديجيتال وتعتمد على عائد البيع عبر موزعي السيديهات والفضائيات، كما وضعت نيجيريا خطة لتوزيع إنتاجها عبر الإنترنت وبذلك تكون قد خلقت نموذجاً اقتصادياً مستقلاً. وقد نجحت في التأثير في الاقتصاد المحلي النيجيري إلى حد بعيد، فقبل أزمة كوفيد، أي حتى مطلع 2020، كانت العمالة في قطاع السينما تقدر بحوالي مليون فرد، مما جعل هذا القطاع من أكثر القطاعات تشغيلاً في نيجيريا. ومؤخراً بدا هناك تطور ملحوظ في جودة ما تقدمه من أفلام خاصة مع انفتاح الشباب السينمائيين على التقنيات الحديثة وتلقيهم للتدريبات وحصول بعضهم على فرص للتعلم في أكاديميات عالمية.  وقد نجحت نوليوود في جذب الانتباه العالمى للمنصات، حيث أقبلت نتفلكس ليس فقط على عرض أفلام نيجيرية، بل على إنتاج أفلام ومسلسلات نيجيرية في إطار خططها للتوسع في أفريقيا، وهو أمر محوري في تغير قواعد اللعبة. 

لا يقتصر الأمر على نيجيريا فقط، وإن كانت الحالة الأبرز، فهناك حالات ملحوظة بدأت تهتم بهذا القطاع وترغب في تطويره والاعتماد عليه اقتصادياً. فنجد مثلاً أن لجنة السينما في كينيا قد أعلنت عن نية حكومتها في زيادة عائد قطاع السينما المقدر ب 192 مليون دولار إلى 912 مليون دولار بحلول 2025 في إطار رؤية الحكومة وخطتها العامة للتنمية حتى 2030. كما تعاونت المؤسسة المحلية للفيلم في جنوب أفريقيا مع نتفلكس لتقديم منح تقدر بحوالي 2 مليون دولار لإنتاج ستة أفلام منخفضة التكلفة.  

كل هذه الجهود وغيرها تعكس الرغبة في النهوض بصناعة السينما، بالرغم من التحديات التي تواجهها تلك الصناعة من حيث الضعف النسبي للبنية التحتية للصناعة عموما، ومدى القدرة على الاستثمار في هـذا القطاع، والقلة النسبية لعدد دور العرض، فوفقاً لإحصائية منظمة اليونسكو لعام 2021، في بلدان وسط أفريقيا التي يقدر عدد سكانها بحوالي 209 ملايين نسمة، هناك 24 دار عرض فقط. ويوجد في دول شرق أفريقيا البالغ عدد سكانها حوالي 494 مليون نسمة 249 دار عرض، أما بلدان شمال أفريقيا المقدر عدد سكانها بحوالي أكثر من 238 مليون نسمة، بها 285 دار عرض، بينما بلدان جنوب أفريقيا البالغ عدد سكانها حوالي 228 مليون نسمة، بها 803 دور عرض وأخيراً بلدان غرب أفريقيا التي يقطنها حوالي 501 مليون نسمة بها 292 دار عرض. كما نوه التقرير أيضاً بحجم الخسائر الناتجة عن القرصنة، في ثلثي البلدان الأفريقية يقدر بحوالي 50% من العائد الكلي، وفي الثلث الآخر من البلدان يقدر ب75%. وهو ما يشير إلى حجم الفرص المهدرة في هذا القطاع.

في الختام يمكن القول إن عصر المنصات قد غير تماماً قواعد اللعبة الراسخة لعقود. وقد سمحت المنصات بتسليط الضوء على السينما الأفريقية وتوسيع مدى انتشارها عالمياً على نطاق غير مسبوق حتى وإن كان المرجو أعلى بكثير. كما أدى هذا التغير لحتمية إعطاء الفرصة لصانعي الأفلام الأفارقة لأن يعرضوا سردياتهم وفقاً لمنظورهم وثقافتهم وليس وفقاً لنظرة الغرب أو صورته النمطية، حيث أصبح الهدف الآن جذب الجمهور المحلي الأفريقي، الذي سينصرف لو لم يجد ما يرضيه ويعبر عنه. وبذلك تكون المنصات، من ناحية قدمت فرصة لصانعي الأفلام الأفارقة، ومن ناحية أخرى، وسعت نطاق جمهورها، لاسيما في سوق واسع ومليء بالفرص، مثل السوق الأفريقية. هذا فضلاً عن الفوائد الاقتصادية المتصاعدة المترتبة على توسع هذه الصناعة، والتي تسعى دول أكثر للاستفادة منها وتعظيم منافعها.