مفترق طرق:

أردوغان والأكراد.. أسباب ومعوقات التسوية

18 March 2015


تقف مسيرة تسوية الأزمة الكردية التي راح ضحيتها ما يقرب من 40 ألف قتيل منذ تجدد الصدام في عام 1984 على المحك، رغم إعلان المعتقل عبدالله أوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني، بدء المرحلة الثانية من المفاوضات مع حكومة العدالة والتنمية في يونيو 2013، وإعلانه التخلي عن العمل المسلح وانسحاب مقاتليه من الأراضي التركية.

وفي الوقت الذي يأمل فيه أوجلان فك أسره وبلوغ هدفه، بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أردوغان ممارسة ضغوطات على الحكومة لتمرير الإصلاحات اللازمة لزيادة حقوق الأكراد، أملاً في ضمان الصوت الكردي في الانتخابات البرلمانية المقرر لها مايو المقبل لمصلحة العدالة والتنمية التي يقود أردوغان بنفسه حملات الدعاية لها.

غير أن ثمة ثقة وهوة عميقة بين تطلعات كل منهما كشفتها مناخات التظاهرات الكردية، رداً على تواطؤ الحكومة التركية في نجدة أبناء عمومتهم في عين العرب "كوباني"، ودعمها تنظيم "داعش" بليل أو من وراء ستار كما ذكر المتظاهرون الأكراد.

والأرجح أن هذا المشهد فتح الباب واسعاً أمام تساؤل رئيسي حول مستقبل خطة السلام مع الأكراد، لاسيما بعد قمع الشرطة التركية تظاهرات كردية جنوب شرق البلاد للتنديد برفض حكومة أحمد داود أوغلو السماح للأكراد بتقديم مساعدات لمقاتلي عين العرب "كوباني".

وأصبح مشهد تسوية الأزمة الكردية أكثر قتامة مع إعادة الإجراءات الاستثنائية والقمعية مثل فرض حظر التجوال وإنزال الجيش لأول مرة منذ سنوات إلى ديار بكر حيث الأغلبية الكردية، هذا علاوة على تجاهل المتظاهرين الأكراد والجناح العسكري لـ "حزب العمال الكردستاني" دعوات أوجلان إلى التهدئة وإلقاء السلاح وإفساح المجال للحوار بين قياداتهم السياسية وبين الحكومة.

تفاقم وضعية الأكراد

لم تكن المواجهات المتقطعة التي تدور رحاها اليوم بين الدولة التركية والأقلية الكردية المقدر عددها ما بين 12 إلى 15 مليون من أصل 76 مليون نسمة، هي الأولى من نوعها، إذ تعود الأزمة إلى زمن بعيد.

وعلى الرغم من أن الأكراد لم يكونوا على عداء مباشر مع الدولة العثمانية، بل تحالفوا معها في حروبها ضد الأرمن والإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، ولكنهم قاموا بثورة في عام 1880 عندما اتجهت دولة الخلافة إلى تسوية قضية الأرمن على حساب الأكراد.

ووصل الاحتقان إلى الذروة بين الدولة التركية والأكراد بعد سقوط دولة الخلافة في عام 1923 ووصول أتاتورك إلى سدة السلطة، إذ تحولت مطالب الأكراد التي تنكر لها أتاتورك إلى ثورة بقيادة الشيخ سعيد الكردي عام 1925- 1926، ولكن تم إخمادها بالقوة، خصوصاً بعد أن كفُر الأخير أتاتورك لإلغائه الخلافة الإسلامية لمصلحة تغريب الدولة العثمانية.

وتكررت الثورة الكردية في أعوام 1927، و1930 و1937 بعد أن بدأ تطبيق ما عرف بخطة "إصلاح الشرق"، أي المناطق التي يشكل فيها الأكراد أغلبية عددية، وتركزت الخطة على حظر استخدام اللغة الكردية في المؤسسات العامة وإلغاء الاحتفالات الكردية.

ودخلت المسألة الكردية طوراً جديداً في عام 1998 باعتقال عبدالله أوجلان في 16 فبراير 1999 وتقديمه للمحاكمة. وظلت علاقة الشك والمراوحة قائمة بين الحكومات التركية والأكراد حتى جاءت حكومة العدالة والتنمية التي تبنت سياسة أكثر انفتاحاً تجاه الأكراد من خلال مراجعة بعض الأفكار وتغيير مفردات اللغة السياسية، وفي عام 2009 طرحت حكومة أردوغان مبادرة الانفتاح الديمقراطي حيال الأكراد.

وفي عام 2012 بدأت حكومة العدالة والتنمية محادثات مع أوجلان، وعلى إثر ذلك أعلن حزب  العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب التركية والأمريكية وأيضاً الاتحاد الأوروبي، وقف إطلاق النار وبدء الانسحاب من الأراضي التركية والعودة إلى قواعده في شمال العراق.

غير أن منحنى العلاقة أخذ في التراجع في عام 2013، احتجاجاً على بناء جدار على الحدود مع سوريا في مدينة نصيبين جنوب شرق البلاد، الأمر الذي  وصفه الأكراد بأنه خطوة تهدف لمنع المجتمعات الكردية من تعزيز الروابط فيما بينها عبر الحدود.

ورغم سلسة إصلاحات تبنتها تركيا في عام 2013 باتجاه تعزيز حقوق الأكراد في استخدام لغتهم وحق إطلاق أسماء كردية على قراهم ومدنهم، فإن انعكاساتها على تسوية الأزمة بقيت محدودة لعدة اعتبارات أبرزها أزمة الثقة بين الطرفين، والتباطؤ في تنفيذ تعهدات حكومية سابقة، وهو الأمر الذي شكل عنصراً مهماً في تغذية الشكوك لدى الأقلية الكردية، والتي تصاعدت لدرجة لم تعد معها فكرة الوعود البراقة أو الاحتشاد الداخلي قادرة على معالجتها.

دوافع تسوية الأزمة الكردية

ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء تصاعد رغبة أردوغان في إنجاز تسوية مع الأكراد، أولها ضمان الصوت الكردي في المعركة الانتخابية التي يراهن عليها أردوغان في إعادة هيكلة النظام السياسي وتحويله إلى رئاسي أو شبه رئاسي لضمان الإمساك بمفاصل الدولة وأعصابها الحساسة. وكان رئيس جهاز الاستخبارات التركية "هاكان فيدان" عرض على أوجلان خريطة حل تشمل تحسين ظروف سجنه وإلقاء السلاح مقابل تسوية سياسية دستورية.

وثاني هذه الدوافع رغبة أردوغان في اللحاق بالقطار الأوروبي، إذ ما زالت الأزمة الكردية تمثل حجر عثرة أمام  قبول عضوية تركيا، وكانت بروكسل قد انتقدت أنقرة لسياستها تجاه الأكراد في أكثر من مناسبة.

ويرتبط الدافع الثالث بمخاوف أنقرة من الانفتاح الأمريكي الأوروبي على أكراد سوريا، وهو الأمر الذي مهد بطبيعة الحال للتواصل مع أكراد تركيا. فقد كشفت أزمة عين العرب "كوباني" عن تواصل من وراء الستار بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا)، ومسؤولين أمريكيين وأوروبيين، ناهيك عن تقديم دعم عسكري لوحدات حماية الشعب الكردي في كوباني.

ولم تكن اللقاءات التي عقدت بين أكراد سوريا والإدارة الأمريكية هي الأولي من نوعها، فقد سبقتها اجتماعات مع قادة في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لكن لم يُعلن عنها منعاً لإغضاب تركيا، بحسب ما ذكره "نواف خليل" الناطق باسم حزب الاتحاد الديمقراطي في أكتوبر الماضي.

وكانت جهود تركيا قد أحبطت في الشهور التي خلت في أن يكون هناك إنهاء تام لحزب العمال الكردستاني كتنظيم مسلح بسبب الدور الذي اتخذه الحزب في القتال في سوريا والعراق في مواجهة "داعش".

وترجع أسباب تقاعس تركيا عن مساعدة الأكراد السوريين في الدفاع عن كوباني إلى عوامل تاريخية وسياسية، حيث تنظر تركيا بنظرة تشكك إلى الأكراد الذين ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني، والذين يسعون لحكم ذاتي. ويأتي الموقف التركي الرافض لمساعدة الأكراد نتيجة الصراع والعداء الطويل بين الأتراك والأكراد، فضلا عن ولاء أكراد سوريا للرئيس الأسد الذي تطالب تركيا بإزاحته من الحكم.

أما الدافع الرابع فيعود إلى رغبة أردوغان في إعادة خارطة التوازنات الإقليمية بعد أن فقد حلفائه الإسلاميين في القاهرة وتونس، مقابل تصاعد النفوذ الإقليمي لطهران. ولذلك فإن التقارب التركي الكردي يعني في حقيقته إضافة كتلة سكانية ضخمة وبالغة الحيوية إلى تركيا التي تنخفض مناعتها الإقليمية لمصلحة إيران، ناهيك عن أن ولاء أكراد تركيا قد يجسر المسافة ويضمن علاقة أفضل مع أكراد سوريا والعراق أيضاً، وضمان موضع قدم لها في الداخل الإيراني عن طريق أكراد إيران.

معوقات تسوية الأزمة

لا تمنع هذه الدوافع السابقة أن ثمة معوقات ربما تحول دون إنجاز تسوية للأزمة الكردية، منها أن القوميون الأتراك والمعارضة ترى أوجلان مسؤولا عن مقتل عشرات الآلاف من الناس في المواجهات التي شنها على مدى 30 عاماً مع الجيش التركي، ولكن بالنسبة إلى كثير من الأكراد فإن الرجل البالغ من العمر 65 عاماً يمثل صراعهم المرير من أجل مزيد من الحقوق الثقافية والسياسية.

ويكمن ثاني المعوقات في أنه في الوقت الذي تنظر المؤسسة العسكرية لمنظمة حزب العمال الكردستاني على أنها كيان إرهابي"، وتسعى ضمناً إلى تقسيم البلاد، يراهن أردوغان على إنجاز مصالحة تاريخية تنهي ثلاثة عقود من الصراع مع الأقلية الكردية التي تمثل أكثر من 20% من مجموع السكان، علاوة على كون الورقة الكردية حجة تحول دون اللحاق بالقطار الأوروبي.

أما المعوق الثالث فيعود إلى اتساع الرتق بين أوجلان والجناح العسكري لمنظمة العمال الكردستاني التي يريد التصعيد مع الحكومة واستئناف العمل المسلح. فقد أظهرت وقائع الأحداث أن ثمة شكوك جدية في أن عبدالله أوجلان لم يعد قادراً على لجم المارد الكردي أو التحكم فيه، خصوصاً بعد تجاهل دعوته للتهدئة في الشارع والصبر حتى نفاذ الحوار مع الحكومة التركية.

من جانب آخر، فإن قيادات العمال الكردستاني ومنظومة المجتمع الديمقراطي وشباب الهيئات الشعبية الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا لم تعد تأتمر بأمر أوجلان، وهي على اتصال بطهران وواشنطن، وأن فتح الأبواب على اتساعها أمام "صالح مسلم" رئيس الاتحاد الديمقراطي الكردي لهو حلقة في هذا التحول، فضلا عن أن حزب العمال الكردستاني بات قوياً تنظيمياً بعد الإفراج عن نحو 2000 من عناصره المدنية في إطار الحل السلمي الذي بدأته الحكومة مع أوجلان قبل نحو عامين.

ويرتبط المعوق الرابع بغياب الثقة بين الطرفين، ففي الوقت الذي ترى فيه الحكومة التركية أن مسيرة التسوية ما زالت عند مرحلتها الأولى معتبرة أن 15% فقط من مسلحي حزب العمال الكردستاني غادروا الأراضي التركية إلى جبال قنديل، اعتبر حزب "الشعوب الديمقراطية" الكردي هذه التصريحات محاولة للتسويف والتهرب من الاستحقاقات المترتبة على الحكومة، والمتفق عليها مع أوجلان في سجنه.

ودخل المناخ مرحلة الشحن بعد اتهام حكومة العدالة والتنمية حزب "الشعوب الديمقراطية" بإفشاء ما يدور في المفاوضات لإحراج الحكومة أمام المعارضة، في الوقت الذي شن الأكراد هجوماً على الحكومة لعدم قدرتها على صياغة دستور يضمن تعزيز الحقوق الكردية.

أما المعوق الخامس فيعود إلى التشدد التركي إزاء منظمة حزب العمال الكردستاني، فما زالت أنقرة تراها كياناً إرهابياً، وكان أردوغان قد وصف المتظاهرين الأكراد الذين خرجواً دفاعاً عن "كوباني" باللصوص والمخربين، قائلاً "أن سياسة تركيا الخارجية لا يمكن أن يرسمها لصوص ومشاغبون".

القصد أن مسيرة التسوية السلمية بين الأكراد والدولة التركية على مفترق طرق، بالنظر إلى اختلال العلاقة بين أوجلان ورفاقه، وخروج المارد الكردي من قمقمه، والخروج عن طاعة سيده، في مقابل اتساع الرتق بين أردوغان والمؤسسة العسكرية بشأن تسوية الأزمة مع الأكراد، إضافة إلى الصورة الذهنية السلبية للأكراد في عقل المعارضة التركية.