استراتيجيات التوظيف:

كيف تصنع "اللغة" الأزمات وتشكل العقول؟

12 June 2022


أظهرت الأحداث والأزمات المتلاحقة، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في الغرب أو حتى على المستوى الدولي، أن ثمة اختلافات في الطريقة التي تعبر بها وسائل الإعلام عن الأحداث المتشابهة وفي خطابات السياسيين للتعليق على الحوادث ذاتها التي لا يفصل بينها شيء سوى أنها حدثت في إقليمين مختلفين. كما بدا ذلك في الحديث عن اللاجئين الأوكرانيين في مقابل الحديث عن اللاجئين من الشرق الأوسط أو أفريقيا. وقد انتشرت في الأيام السابقة موجة من السخرية حول تغطية جريدة نيويورك تايمز لمقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، حين استخدمت الجريدة كلمة "وفاة" في عنوان الخبر "وفاة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة عن عمر 51 عاماً" وكأن موتها جاء طبيعياً وليس بفعل فاعل، وهو على النقيض تماماً من تغطية الجريدة نفسها لمقتل صحفي أمريكي (يعمل لصالحها) قرب العاصمة كييف في ظروف تشبه كثيراً ظروف مقتل أبو عاقلة، ولكن كان عنوان الخبر هذه المرة "مقتل الصحفي الأمريكي برنت رينو في أوكرانيا". المنصة الإعلامية نفسها والواقعة نفسها تقريباً، ولكن كلمة واحدة كشفت تحيزات ونوايا صانعي الرسائل الإعلامية. في هذا الإطار تسلط المقالة الحالية الضوء على "اللغة" باعتبارها أداة أساسية لتشكيل عقول الرأي العام في أطر محددة، فضلاً عن كون اللغة عاملاً مهماً وتم توظيفها في كثير من الأزمات السياسية والأمنية، وهو العامل الذي نادراً ما يتم أخذه في الاعتبار في التحليل السياسي، خاصة في المنطقة العربية. 

اللغة والأزمات التاريخية 

للّغة بالغ الأثر على جوانب عديدة من حياتنا، ولا نبالغ إذا قلنا إنها قد تغيّر مصائر دول، فكلمة واحدة قد تؤلب شعوباً على شعوب، ففي حادثة تبدو طريفة الآن – لكنها كانت أبعد ما يكون عن الطرافة عند وقوعها – أخطأ عالم اللغة الكبير ستيفين سيمور في ترجمة كلمة الرئيس الأمريكي كارتر في وارسو عام 1977 والتي قال فيها إنه جاء إلى بولندا ليتعرف على وجهات نظر الشعب البولندي ورغباته. ولكن ما نقله المترجم بالبولندية هو أن الرئيس الأمريكي "يرغب في البولنديين جنسياً" ذلك لأن المترجم العتيد أخطأ في ترجمة كلمة “desire”  وهي ترجمة أثارت دهشة الشعب البولندي وغضبه حينها، ولكنها صارت مادة للتندر بينهم لاحقاً .

ولكن عواقب الكلمة لا تكون بهذه الطرافة في كل مرة، فكلمة واحدة – إذا ما أُسيء استخدامها أو ترجمتها – قد تشعل حروبا وتبيد شعوبا، مثلما حدث في اليابان التي قُصفت بقنابل نووية غيّرت ملامح التاريخ بسبب خطأ في ترجمة تعليق رئيس وزرائها كانتارو سوزوكي على رسالة شديدة اللهجة من دول الحلفاء تطالب اليابان بالاستسلام المشروط، وتهددها بدمار سريع وشامل في حالة إصدار اليابان أي رد فعل سلبي على هذه الرسالة. ولمّا لم تكن الحكومة اليابانية قد توصلت لقرار بشأن هذا التهديد، فلقد ردت على لسان رئيس وزرائها بخطاب افتُتح بكلمة mokusatsu وهي تعني "التزام الصمت"، ولكن هذه الكلمة في اليابانية لها معان أخرى مثل "التجاهل بازدراء" وهو المعنى الذي قررت وكالات الأنباء الدولية تداوله، فأثارت به غضب الولايات المتحدة التي سرعان ما أطلقت قنبلة هيروشيما ثم ناجازاكي اللتين أودتا بحياة ما يزيد على 200 ألف مواطن ، فكانت هذه الترجمة هي الأكثر مأساوية في العالم حسب وصف إحدى المجلات الأمريكية في عام 1986 .

وقبل الغزو الأمريكي للعراق، تمت ترجمة كلمة “failed” إلى "امتناع" في إحدى فقرات قرار مجلس الأمن رقم 1441 الخاص بنتائج تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الأسلحة بالعراق، والتي جاء فيها "ولا سـيما بامتناعـه عـن التعاون مع مفتشي الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعن إتمـام الأعمـال المطلوبـة"، ولا يخفى على القارئ أن كلمة “fail” في الإنجليزية تعني عدم النجاح في تحقيق أمر ما، مما يعني أنه ثمة مجهود بُذل، لكنه لم يأت بثماره، ولكن الكلمة تُرجمت في النسخة العربية بأسلوب يوحي بتعمّد العراق ألا يتعاون مع الوكالة. وذلك للتمهيد للرأي العام العربي الغزو الأمريكي للعراق بل وأنه مشروع نظراً لتعنت العراق. 

وإذا كانت النماذج السابقة تعكس مدى خطورة الاستهانة باللغة والتكلفة الباهظة للأخطاء اللغوية التي تحدث سهواً أو عن غير عمد، إلا أن التلاعب العمدي باللغة لتوصيل رسائل محددة بطرق ضمنية وغير مباشرة هو ما يحدث يومياً، فكثير من المحتوى الإعلامي، والخطابات السياسية وغيرها تتضمن تكتيكات لغوية للتأثير على الشعوب بالطريقة التي يريدها صانع الخطاب.  حتى أن هذه التكتيكات تعلمتها واستخدمتها الجماعات المتطرفة في خطابها، وهو ما ظهر في مقولة مليكة العرود، واحدة من أشهر الأرامل السوداء: "إن إطلاق القنابل ليس دورياً، فهذه فكرة سخيفة. لكن سلاحي هو الكتابة.. التعبير عن أفكاري.. هذا هو جهادي؛ فبالكلمات، يفعل المرء الكثير".

التلاعب بالكلمات .. والعقول أيضاً

التلاعب بالكلمات هو ما تستهدفه الكثير من المنصات الإعلامية للتأثير على الوعي الجمعي للشعوب لخدمة أجندات خاصة تتبعها تلك المنصات وتروج لها، عملاً بنظرية "التأطير" التي تحدث عنها علماء اللغويات السياسية. وهذه النظرية تشرح كيف أن الإطار اللغوي الذي تصاغ به الأفكار يغيّر من فهم القارئ/المستمع لها ويؤثر في آرائه بشأنها. ففي تجربة أُجريت في الولايات المتحدة ، سُئل مواطنون إن كانوا يوافقون على تنظيم جماعات معارضة لتجمعات حاشدة في الشوارع الأمريكية، وبدأت صيغة السؤال بعبارة "نظراً لأهمية حرية التعبير، هل توافق...؟" وكانت نسبة المؤيدين لهذه التجمعات 85% من المشاركين في الاستطلاع. في حين أن هذا النسبة انخفضت إلى النصف تقريباً (45%) عندما وُجّه لهم السؤال نفسه ولكن بصيغة أخرى، تبدأ بعبارة "نظراً لخطورة أعمال العنف التي قد تندلع، هل توافق على...؟"، وهو ما يبرهن على أن الإطار اللغوي الذي تُقدم فيه الفكرة يؤثر على اعتناق الجمهور أو رفضه لها.

وفيما يلي بعض الاستراتيجيات اللغوية التي استعرضها اللغويون للتأثير على آراء العامة فيما يخص قضايا بعينها، والتي تلجأ إليها بعض وسائل الإعلام حول العالم.

1. الذات والآخر

يرى عالم اللغة فان دايك أن من أهم أساليب التأثير الأيدولوجي هي تقسيم الناس إلى فئات وأحزاب، نحن ضد الآخر، ومن ثمّ إبراز إيجابيات الذات (نحن) وإخفاء سلبياتها من ناحية، وإبراز سلبيات الآخر وإخفاء إيجابياته من ناحية أخرى . وهذا هو الأسلوب الذي تتبعه غالبية المنصات الإعلامية، فإذا ركزنا على منصة روسيا اليوم (RT)  على سبيل المثال، والتي تمتلكها الدولة. نجد أنها تقسم العالم إلى روسيا وحلفائها (الذات) ، والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة (الآخر)، وتركز العناوين على انتصارات الطرف الأول ومواقفه المشرفة، وعن انهزامات الآخر ومواقفه المشينة، فنجد مقالات في النسخة العربية تحتفي بإفشال خطط الولايات المتحدة والناتو في بحر آزوف ، وبرد فعل السعودية الداعم لروسيا فيما يخص محاولات إخراجها من سوق النفط ، وبفتح مجال جديد للتعاون الاستراتيجي بين روسيا وإيران ، وبأهمية الإمدادات الروسية من الكهرباء للغرب وعجز الأخيرة من دونها ،  ونجد على الجانب الآخر في النسخة الإنجليزية مقالات تسلط الضوء على مواقف سلبية للولايات المتحدة، مثل مقال عن استغلال الحزب الديمقراطي الأمريكي لحادث إطلاق النار بمدرسة تكساس ، وآخر عن احتمال مقاطعة دول أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة ، وعن تراجع الولايات المتحدة عن التزامها بعدم التدخل العسكري في القضايا الدولية وعجز بايدن عن التحكم في انفعالاته وتصريحاته عندما يتعلق الأمر بالصين ، وكيف يعكس نقص ألبان الأطفال عجزاً في النظام الاقتصادي الأمريكي ، وغيرها.  والأمر نفسه ينطبق على الإعلام الغربي والأمريكي بشكل عام، وهي المنصات الإعلامية الأكثر انتشاراً في العالم وبالتالي الأكثر تأثيراً. 

2. أنصاف الحقائق

من الخدع اللغوية الأخرى التي تحدث عنها فان دايك هي لجوء البعض لاستعراض قضية ما باستخدام ألفاظ عامة مبهمة وعرض جوانب معينة من الوقائع وتعمد إخفاء الجوانب الأخرى، وهو ما يتجلى في تغطية موقعي الجزيرة والعربية الإخباريين في 18 ديسمبر 2019 للقمة الإسلامية التي عُقدت في ماليزيا، والتي أشارت إليها الباحثة اللغوية دومينيكا كوساروفا. فإذا نظرت إلى تغطية الجزيرة، تجدها تركز على أن المؤتمر سيناقش خمس قضايا كبرى تهم العالم الإسلامي بحضور قادة أهم وأكبر الدول الإسلامية، في حين ركزت العربية على غياب أهم قادة الدول الإسلامية عن المؤتمر، وهو ما قد يجعل القارئ يتصور أن المنصتين تتحدثان عن مؤتمرين مختلفين! ولكن عند التدقيق في الخبرين، تجد أن الموقعين لم يكذبا في هذا الشأن، فهناك من القادة الكبار من حضر ومنهم من غاب، ولكن كلا الموقعين تعمد إخفاء جزء مهم من الحقيقة، ألا وهو عدد الحضور من القادة، وذلك لإعلاء شأن المؤتمر (في حالة الجزيرة) أو للتقليل من أهميته (في حالة العربية) .

3. الأسئلة البلاغية

الأسئلة البلاغية هي تلك التي يطرحها المرء دون أن ينتظر إجابة، فهو يعرف الإجابة مسبقاً ويريد للقارئ أو المستمع أن يستنتجها بنفسه، أي أن السائل يوجّه تفكير الآخرين إلى فكرة معينة بأسلوب غير مباشر، بحيث يظهر أن المتلقي هو من فكّر بهذه الفكرة من تلقاء نفسه من دون إملاء من السائل. وهذه الأسئلة هي من أكثر أساليب الإقناع شيوعا، وأشار إليها علماء اللغة كثيراً، لذا نجد أن صحيفة ذا جيروزالم بوست الإسرائيلية قد لجأت لهذا الأسلوب من أجل إثارة الشك في هوية قاتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، حين أبرزت الصحيفة في إحدى مقالاتها  إصرار الجانب الفلسطيني على عدم تسليم الرصاصات من موقع الحادث للسلطات الإسرائيلية، وطرحت تساؤلات مثل: "لِم يصرّون على الرفض؟ ما الذي يخفونه؟" في تلميح أقرب للتصريح أن الفلسطينيين قد تلاعبوا بأدلة الجريمة، ومن ثمّ فهم مسؤولون بشكل أو بآخر عن مقتل الإعلامية الفلسطينية.

4. الإعادة والتكرار

يرى العديد من اللغويين أن تكرار كلمات أو عبارات بعينها في أي خطاب ما هو إلا محاولة من كاتبه/قائله لزرع فكرة معينة في عقل المتلقي، وهو ما اتفق عليه علماء النفس أيضاً، فهم يرون كذلك أن تكرار الفكرة يزيد من فرص تصديقها.  ولم تغب هذه الاستراتيجية عن الساسة عند كتابتهم لتصريحاتهم الإعلامية المهمة، فلقد رأينا محمد سعيد الصحاف – وزير الإعلام العراقي إبان الغزو الأمريكي على العراق – وهو يكرر كلمات مثل "العلوج" و"المرتزقة" ليعطي انطباعاً لمستمعيه أن قوات التحالف ما هي إلا جماعة من المسلحين يسهل سحقهم. ورأينا كذلك تكرار الرئيس المصري السابق محمد مرسي في آخر خطاب له للمصريين حين كرر كلمة "الشرعية" 59 مرة في خلال حوالي 45 دقيقة  ليؤكد حقه في الحكم مهما حدث. كما كرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب السؤال بصيغة "متى كانت آخر مرة..؟" ليبرز الاختلاف بين وضع الولايات المتحدة وقوتها قبل حكم أوباما وبعده، منتقداً سياسات إدارة أوباما على نحو غير مباشر.

5. الصور البلاغية

التعبيرات البلاغية باستخدام التشبيه والاستعارة وغيرهما من الصور الجمالية من أهم وسائل الإقناع، فهي تجسد الأفكار وبالتالي تيسر إيصالها للعقول والقلوب. وهذا الأسلوب يجيده الكثير من دعاة التطرف، على سبيل المثال، فهم يملكون من الأدوات اللغوية ما يمكّنهم من استقطاب المؤيدين والمتعاطفين، وهو ما لجأ إليه القائمين على مجلة "رومية" وهي من أهم الإصدارات الإعلامية لجماعة داعش الإرهابية – ولا يخفى على أحد أن الإعلام هو من أهم أسلحة داعش. ففي إحدى المقالات التي نُشرت باللغة الإنجليزية على ثلاثة أعداد (الحادي والثاني والثالث عشر) للإرهابي أبو مصعب الزرقاوي التي يوجّه فيها نصائح للمجاهدين وحملت العنوان نفسه، استعان الزرقاوي بالكثير من الصور البلاغية (حوالي 17 صورة)، بعضها يحمل الكثير من العنف والقساوة ليثير حماسة الجمهور ضد أعدائهم، مثل "الحق يصارع الباطل" و"الإسلام يشن حرباً على الكفر" و"المعتدون ينتزعون أراضينا، والذئاب.. بل الكلاب تجرؤوا علينا" و"كالغرباء تلفح وجوههم ريح الوحدة والعزلة" و"أقدامهم الحافية تدمي من لهب الصحارى التي أشعلتها العداوة" .  

في الخلاصة، اللغة سلاح قوي قد يحمي وقد يقتل، وكثير من الإعلاميين والسياسيين وصانعي الخطاب يدركون خطورة هذا السلاح وأهميته، فيعمدون إلى استغلاله للترويج لأيدولوجياتهم وتحقيق أهدافهم عن طريق الخدع اللغوية التي ذكرناها آنفاً، والتي لا تمثل سوى غيض من فيض.