التوازن الحرج:

الاعتبارات الحاكمة لموقف الهند من الأزمة الأوكرانية

09 April 2022


امتد التدخل العسكري الروسي لأوكرانيا لأكثر من شهر الآن، حيث ضربت القوات الروسية العديد من المدن الأوكرانية. وفي ظل هذه الأحداث، أدانت عدة دول مختلفة هذه الأعمال، وصوتت في الأمم المتحدة من أجل الوقف الفوري لأعمال روسيا العدائية، بينما امتنعت الهند عن التصويت عدة مرات. وقد فسر البعض هذا الموقف بأنه دعم ظاهري من الهند لموسكو، على الرغم من إدانة الهند للتدخل الروسي بطرق غير مباشرة؛ ما أثار تساؤلات حول الاعتبارات الحاكمة لموقف الهند من الحرب الروسية - الأوكرانية، ومدى صحة الانطباعات عن دعم الهند للجانب الروسي.  

عدم الانحياز:

على مدى تاريخ الهند الحديث، اتبعت سياستها الخارجية المنهج الذي رسمه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، حيث رفض نهرو أن يتم استدراج دولته إلى إحدى كتلتي الحرب الباردة: الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي. وهذا الإصرار على البقاء بعيداً عن الطرفين قد سهّل تشكيل كتلة عدم الانحياز، والتي ضمت العديد من الدول مثل مصر ويوغوسلافيا .

ومع ذلك، كان لا بد من التخفيف من هذه المثالية إلى حد ما نظراً لحداثة عهد دولة الهند خلال حقبة الحرب الباردة، فلقد كانت بنيتها التحتية الحيوية، مثل العلاقات الدفاعية والتجارية، لا تزال قيد التطوير. علاوة على ذلك، كانت الهند في أوائل السبعينيات عرضة للتهديد جراء تزايد توطد العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما سهلته باكستان، مما أدى إلى تعزيز العلاقات بالكامل. ولقد دفعت هذه الأسباب –إلى جانب العديد من العوامل الأخرى – الهند إلى توقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي لضمان الحماية السوفييتية لها في حالة قيام الصين أو باكستان بالتدخل العسكري فيها .

وعلى الرغم من سقوط هذه المعاهدة في التسعينيات نتيجة لتفكك الاتحاد السوفييتي، وقّعت الهند معاهدة أخرى مع روسيا (ولكن من دون وجود الضمان الأمني هذه المرة). ولقد أدت كل هذه العوامل إلى إقامة الهند علاقات تجارية ودفاعية مهمة مع روسيا، لدرجة أنه في مرحلة ما، استوردت الهند ما يزيد على 70٪ من احتياجاتها من الإمدادات الدفاعية من روسيا .

وفي الوقت نفسه، بذلت الهند جهوداً كبيرة لتنويع سياستها الخارجية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فأقامت علاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها، مثل دول الخليج وإسرائيل والعديد من الدول الأخرى في جنوب شرق آسيا. وبمرور الوقت، نجحت الهند في تحقيق التوازن بين علاقاتها مع روسيا وبين علاقاتها المتنامية مع الولايات المتحدة . ولكن هذا التوازن بين الدول صار على المحك الآن، بسبب الأزمة الأوكرانية.

اعتبارات برجماتية:

هناك عدة أسباب وراء ما فعلته روسيا في أوكرانيا. ومن دون الخوض في تفاصيل الأمر، يكفي الإشارة إلى الحدود المشتركة بين أوكرانيا وروسيا وأن رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي يهيمن عليها الغرب إلى حد كبير، كانت من أهم الخطوط الحمراء التي دفعت روسيا لاتخاذ مثل هذه الخطوة الجذرية. ونظراً لهذا الجانب من ديناميكية الحرب، مارست الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الضغوط على دول مختلفة لدفعها لاتخاذ موقف ضد روسيا . وعلى الرغم من تصويت الدول بأغلبية ساحقة ضد أفعال موسكو في الأمم المتحدة، رفضت الهند التصويت ضدها.

وهناك عدة اعتبارات وراء الموقف الهندي تتمثل في: أولها، أن العلاقات الطويلة بين الهند وروسيا (والاتحاد السوفييتي آنذاك) – التي ذكرناها من قبل – أدت إلى توطيد الصداقة والاحترام المتبادل بين الطرفين. ثانياً، على الرغم من تراجع واردات الهند الدفاعية من روسيا بسبب محاولة الهند لتنويع مواردها، فإن وارداتها من روسيا لا تزال تقترب من 50٪ من إجمالي واردات الهند الدفاعية، مما يجعل موسكو عنصراً بالغ الأهمية في الحسابات الأمنية بالهند . 

ثالثاً، أن كم الواردات الدفاعية ليس الأمر الأهم، بل إن نوعية الأسلحة هو الأهم الذي يصنع فارقاً، فالهند تستورد صواريخ أرض-جو من طراز S-400 من روسيا، وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة للهند للدفاع عن نفسها ضد أي هجمات من الصين أو باكستان. لذا، قررت الهند المضي قدماً في شراء هذه الأسلحة على الرغم من تهديدات الولايات المتحدة بفرض عقوبات (لم تُنفذ) ضد روسيا . 

رابعاً، كان إجلاء أكثر من 20 ألف طالب هندي علقوا في أوكرانيا هو العامل الملح الذي صعّب من معارضة الهند لروسيا، كما زادت وفاة طالب هندي في مدينة خاركيف من الضغوط على الهند، التي اضطرت إلى التفاوض مع كل من روسيا وأوكرانيا لضمان توفير ممر آمن لمواطنيها .

خامساً، اتخاذ الهند موقفاً داعما للغرب وإعلان معارضتها موسكو سيحتم عليها التعامل مع التهديد المتمثل في ميل روسيا نحو باكستان رداً على موقفها. وهو الموقف الذي لا ترغب فيه الهند حيث ستضطر إلى مواجهة باكستان والصين (الموالية بالفعل لروسيا) . علاوة على ذلك، كانت موسكو دائماً مؤيدة لموقف الهند بشأن كشمير، وهي حقيقة لا يمكن للهند تجاهلها نظراً لأن روسيا تمتلك حق النقض في الأمم المتحدة .

وأخيراً، هناك أيضاً حافز اقتصادي يحكم الهند، فمع ارتفاع أسعار النفط على الصعيد الدولي، من المرجح أن تقع الهند تحت ضغوط محلية بسبب وصول أسعار الوقود إلى مستويات لم تشهدها الهند من قبل، خاصة مع توقعات استمرار ارتفاع الأسعار . لذا، قد يخفف شراء الهند النفط من روسيا عن مواطنيها، الذين عانوا أشد المعاناة تحت وطأة التضخم.

احتواء الغرب:

ولكن يبدو أن موقف الهند قد أثار حفيظة بعض الشخصيات السياسية البارزة في جميع أنحاء الغرب، فعلى سبيل المثال، وصف الرئيس الأمريكي بايدن مؤخراً موقف الهند من أوكرانيا بأنه مرتعش ، كما طالب المسؤولون البريطانيون الهند باتخاذ موقف أشد صرامة ضد روسيا .

ولا يعني هذا أن الهند لم تعارض التدخل العسكري في أوكرانيا على الإطلاق، ففي العديد من الخطب، أوضحت الهند أهمية وحدة أراضي الدول وسيادتها، بل وقدمت كذلك مساعدات طبية وإنسانية كبيرة لأوكرانيا . بيد أن الغرب لم يرحب في حياد الهند، وازداد استياؤه من موقفها كما يتضح من التصريحات المذكورة أعلاه.

ولقد أدركت الهند هذه المشاعر، فعقدت عدة اجتماعات رفيعة المستوى، منها اجتماعات مع رئيس الوزراء مودي ووزير الخارجية سوبرامانيام جاياشانكار . ولقد وصف شاشي ثارور، السياسي الهندي المعارض، موقف الهند بشأن هذه القضية بأنه تطور قليلاً بمرور الوقت. وبعد حل القضية الأكثر إلحاحاً، ألا وهي إجلاء الطلاب الهنود، من المحتمل أن تعدّل الهند موقفها (ولو قليلاً) بشأن قضية أوكرانيا .

علاوة على ذلك، لا تستطيع الهند أيضاً إقصاء القوى الغربية التي أقامت معها علاقات قوية على مدى العقدين الماضيين. أضف إلى ذلك ضم الهند للمجموعة الرباعية، وهي مجموعة تتكون من الهند والولايات المتحدة واليابان وأستراليا، بهدف موازنة نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، وهو عامل آخر مهم يجب وضعه في الاعتبار .

حياد على المحك:

كما أوضح خبراء الأمن، فإن موقف الهند من أوكرانيا يعتمد على عوامل متعددة تدفعها لموازنة مصالحها الخاصة في كل من الكتلة الروسية والكتلة الغربية. وتلعب ديناميكيات التجارة والاقتصاد والدفاع دوراً بالغ الأهمية في تعزيز وضع الهند في المنطقة. ولقد حاولت الهند أيضاً التأكيد على أنها لن تصبح أداة في يد القوى الغربية في المنطقة، خاصة وأنها تحاول رسم مسار لها لتصبح قوة عظمى .

وعلى الرغم من تفهم الدول الغربية في البداية موقف الهند، فإنها بدأت تعبر عن استيائها من حياد الهند. وعلى الرغم من قدرة الهند على التعامل مع هذه المشاعر حتى الآن، إلا أن الاختبار الحقيقي لموقفها وحيادها سيكون إذا تصاعد العنف الروسي وتفاقمت الأزمة وأدت إلى المزيد من التداعيات الأمنية. وسيكون من المثير للاهتمام حينها متابعة طريقة تعامل الهند مع الضغوط الممارسة عليها. 

وفي النهاية، تظل الهند في المنظور الغربي قوة يمكنها مواجهة النفوذ الصيني في جنوب آسيا، وسوقاً كبيرة قادرة على تحقيق منافع اقتصادية هائلة، ما يمنح الهند تمتلك قوة تفاوضية وقدرة على البقاء على الحياد. ولكن إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ هذا ما ستظهره لنا الأيام القادمة. أما الآن، تأمل الهند في تهدئة الأزمة، واستقرار الأجواء العالمية خوفاً من اتخاذ أي طرف رد فعل متطرف يدخل العالم في مرحلة لا تحمد عقباها.