التحديات الأربعة:

ما الذي يعوق اتفاق جوبا للسلام في السودان؟

03 June 2021


وفقًا لتقرير مجلس الأمن الدولي في مايو 2021، فقد أحرز السودان تقدمًا ملحوظًا في انتقاله الديمقراطي منذ توقيع اتفاق جوبا للسلام في 3 أكتوبر 2020. اتضح ذلك من تأكيد الحكومة الانتقالية على ضرورة معالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتنفيذ اتفاق جوبا للسلام، واستئناف المفاوضات مع الأطراف غير الموقِّعة على اتفاق السلام، وإصلاح قطاع الأمن وحماية المدنيين. ومع ذلك، توجد تحديات سياسية وأمنية وإنسانية واقتصادية كبيرة. لم يتم بعد تنفيذ العديد من جوانب الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام، بما في ذلك ترتيبات التسريح ونزع سلاح المقاتلين وإعادة دمجهم، وكذلك تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي، مع تمثيل نسائي بنسبة 40% على الأقل.

ولا يزال الوضع الأمني في أجزاء من دارفور محفوفًا بالمخاطر، مع تصاعد حدة العنف الطائفي وانتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان والنزوح على نطاق واسع. وقد أسفرت الاشتباكات الطائفية في الجنينة، غرب دارفور، في يناير 2021، عن مقتل 250 شخصًا وتشريد أكثر من 100 ألف آخرين، وفقًا لتقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وفي أوائل أبريل الماضي، وقعت اشتباكات عنيفة مرة أخرى في الجنينة، مما أسفر عن مقتل أكثر من 80 شخصًا. وبحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، نزح ما يقرب من 40 ألف شخص نتيجة لذلك. ولعل ذلك هو الذي دفع رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية بالسودان "يونيتامس" إلى مطالبة الأمم المتحدة بدعم حكومة السودان في الوفاء بمسؤوليتها في حماية المدنيين، وفي معالجة الأسباب الأساسية لاندلاع هذا العنف المستمر. 

ما الذي حدث خطأ في السودان؟ وما هي تحديات صنع السلام في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع؟ سوف يحاول هذا المقال النظر في نصوص وبنود اتفاق جوبا لسلام السودان، وبيان أهم تحديات التنفيذ ولا سيما الترتيبات الأمنية وقضايا التسريح ونزع السلاح والإدماج.

التحدي الأول.. اتفاق واحد أم اتفاقات متعددة؟

تبدو صياغة ومضمون اتفاق جوبا لسلام السودان بالغة الصعوبة والتعقيد، ويغلب عليها طابع الغموض في كثير من الأحيان. فبموجب الاتفاق، تم إعادة تعيين الفترة الانتقالية للحكم المدني العسكري المشترك في السودان، ومدتها 39 شهرًا، لتبدأ من تاريخ التوقيع. كما تم تعديل ترتيب تقاسم السلطة بين قوى الحرية والتغيير ومجلس السيادة الانتقالي ليشمل ممثلين من المتمردين الموقّعين. وقد حصلت هذه المجموعات بالفعل على ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، وخمسة وزراء في الحكومة الانتقالية بما في ذلك وزارة المالية التي أُسندت للسيد خليل إبراهيم، وسوف تحصل على ربع المقاعد في الهيئة التشريعية الانتقالية التي لم يتم إنشاؤها بعد.

على المستوى الإقليمي، يتضمن الاتفاق خمسة مسارات (الحكم المركزي ودارفور والشمال والشرق ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان)، وهو ما يغطي أجزاء مختلفة من السودان. ولكل منها ترتيبات متفاوتة قليلًا مع المتمردين الموقعين الذين يحق لهم الحصول على 10-40٪ من المقاعد في السلطات الإقليمية. كما نصت الاتفاقية على أن يتم تمثيل المرأة على جميع مستويات السلطة بنسبة لا تقل عن 40٪. وهذا أمر غير معهود في تقاليد الممارسة السياسية للسودان بعد الاستقلال.

في دارفور، التي شهدت بعضًا من أفظع انتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات السودانية، أنشأ الاتفاق لجنة للحقيقة والمصالحة وتمكين آليات العدالة التقليدية. وكجزء من العملية، أكد الموقّعون من جديد على استعدادهم للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال. وفي الوقت نفسه، ستكون الحكومة ملزمة بدفع 750 مليون دولار سنويًا لمدة 10 سنوات لإقليم دارفور. وينص الاتفاق أيضًا على تشكيل قوة حفظ أمن جديدة في دارفور في غضون 90 يومًا يكون قوامها 12 ألف فرد (6 آلاف من القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة والمخابرات العامة، و6 آلاف من الجماعات المسلحة). ويستخدم الاتفاق صياغة غير مألوفة في تحديد مهام هذه القوة. فينص على أن من مهامها "القيام بالمسؤولية الدستورية والأخلاقية والسياسية لحكومة السودان في حماية المدنيين". ولا يخفى أن استخدام كلمة "الأخلاقية" بشكل خاص هنا أمر يكتنفه الغموض والالتباس بما يجعله يخضع لتأويلات عديدة. في كلٍّ من دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، ستكون هناك أيضًا جهود لتسريح المقاتلين المتمردين المسلحين وإعادة دمجهم بشكل تدريجي، وهذا لم يتم حتى الآن.

التحدي الثاني.. مشكلة التمويل:

على الرغم من الدعم الدولي لعملية سلام السودان والمتمثل في تأييد العديد من المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ومجموعة الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج)، لاتفاقية جوبا، فإن تحقيق السلام والاستقرار المستدام لا يزال صعب المنال. إذ يتطلب دعم الاتفاقية بالكامل، قيام الشركاء الدوليين ببذل المزيد من الجهد والمال. أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها السودان هو دفع تكاليف تنفيذ اتفاق السلام. ولا يزال الاقتصاد الوطني يعاني من تشوهات هيكلية، وبينما تعهد المانحون بدفع تكاليف الاتفاقية، فلن يكون هذا كافيًا إذا كان الاقتصاد أضعف من أن يخلق وظائف جديدة ويحسن مستويات المعيشة. يحتاج السودان إلى استثمارات محلية وأجنبية واسعة النطاق، فضلًا عن القدرة على الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وهو أمرٌ تم تجاوزه حاليًا بعد رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية. ويبقى السؤال المطروح بخصوص صفقة سلام جوبا هو: من سيتكفل بدفع مئات الملايين من الدولارات اللازمة سنويًا لتنفيذها؟. لقد تم استنزاف خزائن الحكومة بسبب الاقتصاد المتدهور، وعدم كفاية المساعدات من قبل المانحين الدوليين.

على أن مؤتمر باريس لدعم السودان الذي عُقد في مايو الماضي برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يمثل فرصة مناسبة لعودة التمويل الدولي الرخيص الذي تشتد الحاجة إليه في السودان. وقد وافقت الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي على سداد متأخرات السودان المستحقة للمؤسسة، لتزيل عقبة أخيرة أمام حصولها على تخفيف أوسع للديون الخارجية بما لا يقل عن 50 مليار دولار. كما بذلت فرنسا جهودًا أوسع لتخفيف عبء الديون من خلال تأييدها الإلغاء الكامل لمبلغ 5 مليارات دولار مستحقة على السودان.

التحدي الثالث.. جبهة رفض سلام جوبا:

صحيح أن اتفاق جوبا لسلام السودان يمثل لحظة أمل فارقة في مسيرة طويلة من الصراع في السودان، لكنه يواجه تحدي رفض التوقيع عليه من بعض جماعات التمرد حتى الآن. رفضت الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو التوقيع، وتمسكت بضرورة علمانية الدولة، وإعطاء جنوب كردفان والنيل الأزرق حق تقرير المصير. لكن الحركة عادت وقبلت بمبدأ التفاوض من جديد مع الحكومة الانتقالية. الجماعة المسلحة الثانية التي رفضت الصفقة حتى الآن هي حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور. رفضت هذه المجموعة العملية برمتها ودعت بدلًا من ذلك إلى عقد مؤتمر وطني جامع. وتمتلك هذه الحركة قوة على الأرض في دارفور، وتسيطر على بعض مناطق جبل مرة. وقد اشتبكت مع الجيش السوداني في أكثر من مناسبة. كما يعارض اتفاق السلام بعض الحركات المسلحة الأقل قوة، وكذلك بعض منظمات المجتمع المدني.

فعلى سبيل المثال، يجادل تجمع المهنيين والحزب الشيوعي السوداني بأن الاتفاق سيحول ميزان القوى السياسية بشكل أكبر نحو الجيش وبعيدًا عن المدنيين. ومن جهةٍ أخرى، واجه اتفاق السلام في بعض أجزاء السودان الأخرى أيضًا مقاومة من قبل الجماعات التي تتوقع الخسارة مثلما حدث مع الجماعات التي كانت طرفًا في اتفاق سلام شرق السودان لعام 2006 والذين يشعرون بأنهم مستبعدون من الاتفاق الجديد. وطبقًا لبنود اتفاقية جوبا للسلام، عادت الجماعات المتمردة إلى إقليم دارفور، الذي أضحى يعج بالفعل بالمليشيات والجماعات شبه العسكرية والقوات الحكومية. وفي ظل مخاطر تزايد عسكرة المجتمع تتزايد المخاوف من أن عودة النازحين إلى ديارهم ربما تُفضي إلى صراعات مجتمعية بين الأهالي والقادمين الجدد.

التحدي الرابع.. نزع السلاح والتسريح:

لعل الجزء المتعلق بالترتيبات الأمنية، ولا سيما نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، يمثل الجانب الأصعب العصيّ على التنفيذ في اتفاق سلام جوبا. وربما يتعين على مخططي البرامج والمسؤولين عن التنفيذ ضرورة تحدي المقاربات السائدة حاليًا، من خلال التشخيص السليم لبيئة "ما بعد الصراع" في السودان، جنبًا إلى جنب مع التنفيذ المرن والاستباقي، والرصد والتقييم؛ وكلها أمور ضرورية لتحقيق نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج "الناجح". لقد ظهرت مؤلفات كثيرة على مدى العقدين الماضيين لوصف الدروس المستفادة، وأفضل الممارسات في نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وقد قام البنك الدولي بجهدٍ كبيرٍ في أعقاب عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج "الناجحة" في إفريقيا وأمريكا الوسطى. وبحلول أواخر التسعينيات، أنشأت إدارة عمليات حفظ السلام وحدة أفضل الممارسات، وبدأت مع معاهد التدريب والبحث في جميع أنحاء العالم في إعداد كتيبات عن نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. وبالفعل أقرّ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإدارة عمليات حفظ السلام مجموعة من المبادئ التوجيهية، ومعايير نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج المتكاملة، لضمان تحسين التنسيق والاتساق بين وكالات الأمم المتحدة. وعلى الرغم من الاعتراف بأهمية السياق المحلي في الكتابات المبكرة حول هذا الموضوع، فقد تبنى برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج نهجًا تقليديًا على أرض الواقع. بحيث إنه أضحى بمثابة مقياس واحد يتم تطبيقه على جميع الحالات.

التحدي الأكبر الذي تعكسه الخبرة السودانية هو أن الجماعات المسلحة الموقِّعة على اتفاق السلام تعمد إلى تضخيم عدد أفرادها، والسعي نحو تجنيد المزيد من الأفراد في صفوفها، وذلك لتحقيق أهداف ثلاثة؛ أولًا: المطالبة بحصة أكبر من المناصب داخل الأجهزة الأمنية، والتي يرون أنها حق مشروع لهم بعد أن كانت تهيمن عليها تقليديًا النخب النهرية (من الشمال والوسط). وقد نص اتفاق أكتوبر للسلام على استيعاب الجماعات المسلحة، إما في أجهزة المؤسسة العسكرية (الشرطة والمخابرات العامة والقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية)، أو نزع سلاحها وتسريحها وإعادة دمجها في الحياة المدنية. ثانيًا: كلما زاد عدد مقاتلي الجماعات المسلحة زادت مكاسبهم النقدية والمادية التي سوف يحصلون عليها عن طريق المشاركة في عملية التسريح والدمج. ثالثًا وأخيرًا: يُعد التجنيد وسيلة للجماعات المسلحة للتأكد من أن لديها مخزونًا احتياطيًّا دائمًا في متناول اليد إذا انهار الانتقال السلمي في السودان.

ونتيجة لذلك، قد ينشأ عددٌ من المخاطر من عمليات التسريح والإدماج. من حيث الكلفة المالية، إذا تضخّمت الأجهزة الأمنية بعد استيعاب المزيد من المقاتلين السابقين، فإن الخزانة الوطنية لن تستطيع مواجهة ضغوط الإنفاق على الخدمات العامة الأخرى. وربما يُساهم عدم تقديم هذه الخدمات في إثارة حالة من الاضطراب العام، وهو الأمر الذي يعرض الانتقال الديمقراطي للخطر. بالإضافة إلى ذلك، كلما أصبحت الأجهزة الأمنية أكبر عددًا وأكثر قوة، كان من الصعب على الحكومة المدنية إجراء إصلاحات في القطاع الأمني بشكل يكبح جماح مصالح أفرادها التجارية، والتي تشمل السيطرة على العديد من الشركات التي تديرها الدولة والتي تحقق أرباحًا حتى لكبار الضباط، فضلًا عن أنها تستأثر بنصيب كبير من الموارد العامة.

ولعل من أبرز المخاطر الكبرى المرتبطة بتزايد حجم الجماعات المسلحة وعسكرة المجتمعات المحلية والمدن الكبرى، أنه في حالة تأخر أو فشل برامج التسريح، فقد يفقد قادة التمرد السابقون سيطرتهم على قواتهم المتضخمة من حيث العدد والعتاد، وهو ما يشكل تهديدًا محتملًا في المستقبل إذا انهار الاتفاق. ربما يكون التهديد حادًا بشكل خاص في دارفور كما رأينا في الأحداث الدامية التي وقعت خلال هذا العام، بسبب انتهاء تفويض العملية المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في دارفور (يوناميد)، مما يعني عدم وجود آلية رئيسية لمنع وردع العنف. ويُمثل تأخر تشكيل قوة أمن دارفور المشتركة التي نص عليها اتفاق السلام حافزًا آخر لتكريس هذه التهديدات المحتملة في الإقليم المضطرب.

ختاماً على الرغم من وجود خطوات في طريق بناء السلام جديرة بالثناء ويجب تشجيعها، فإن السودان يشكل بيئة معقدة بشكل هائل مع وجود عشرات الفصائل والمليشيات المسلحة التي تدفع باتجاه عسكرة المجتمع. التحدي الأكبر يتمثل في تمويل السلام. علينا أن نتذكر أنه إذا كانت الحرب مكلفة، فإن للسلام أيضًا كلفته ومتطلباته. بلغة الاقتصاد، يجب توفير موارد كبيرة لمعالجة قضايا التعويضات وإعادة التوطين والتسريح وإعادة الإدماج، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الأساسية وفقًا لنصوص اتفاق جوبا للسلام. على أن توفير الموارد اللازمة يمثل تحديًا لن تتمكن الحكومة الانتقالية من التعامل معه بمفردها. ولعل ذلك هو المغزى من وراء تشكيل بعثة أممية بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة لمعالجة هذه القضايا.

ومع ذلك، فإن جهود الشركاء الدوليين لن تكون كافية لوضع الاقتصاد الوطني على مسار التنمية المستدامة. يجب أن تكون هذه الجهود الدولية والإقليمية مصحوبة بوجود مؤسسات فعالة ذات مستويات عالية من القدرات البشرية والتكنولوجية. ولا يخفى أن ثلاثين عامًا من حكم الإخوان المسلمين وسياسات الأسلمة والتمكين، قد شكّلت في نهاية المطاف مؤسسات عفا عليها الزمن في السودان تعاني من عدم الكفاءة، ناهيك عن انتشار الفساد والمحسوبية. وعليه فإن رؤى صنع السلام في السودان بحاجة إلى أن يكون الإصلاح المؤسسي متزامنًا لأوجه الإصلاح الأخرى، سواء في المجال السياسي والأمني أو الاقتصادي.