سياسة توفيقية:

كيف تتجاوز إدارة بايدن جدالات المثاليين والواقعيين؟

08 March 2021


عرض: د. رنا أبوعمرة - دكتوراه في العلوم السياسية - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة

لا يزال الجدل المعرفي المحتدم منذ عقود، غير محسوم بشأن قدرة العلاقات الدولية كعلم على مواكبة الواقع المعاصر الذي يتسم بقدر كبير من السيولة والتجدد بشكل يتجاوز أطروحات العلم والأطر النظرية الحاكمة له وأنساقه المعرفية والفكرية؛ بل تعمق الشقاق بين المتجادلين في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المحدِّدات الفكرية من أبرز محددات السياسة الخارجية للقوى العظمى وحتى للفاعلين ما دون الدولة مؤخرًا مع تولي إدارة شعبوية يمينية لمعقل الفكر الغربي للتنظير في حقل العلوم السياسية، بحيث أصبح الحديث عن عجز نظريات العلاقات الدولية ومنطلقاتها الفكرية عن تقديم تفسيرات أو رسم مسارات للسياسات الخارجية محل نقاش مستمر بين المفكرين والأكاديميين والمتابعين لحقل العلاقات الدولية. وتزداد خطورة هذا النقاش بالنظر إلى دور الأفكار العامة التي تحملها التيارات النظرية الكبرى في تحديد معايير الإدارات السياسية المتعاقبة بشأن اختيار سياسة خارجية دون غيرها.

يطرح "جدعون روز"، محرر مجلة "الشؤون الخارجية"، في مقال تحت عنوان "السياسة الخارجية للبراجماتيين: كيف يمكن لبايدن التعلم من التاريخ في الوقت الحقيقي"، بعدد مارس/إبريل من مجلة "الشؤون الخارجية"، هذا الجدل الفكري على الساحة مع تولي إدارة "بايدن" الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية في وقت يتصارع فيه النسقان المعرفيان (الواقعي والمثالي) ويواجهان إشكاليات وجودية، بحيث يرد المقال على مزاعم كل مدرسة ويفندها، محاولًا الوصول إلى إجابة توفيقية للخروج من الأزمة.

نصيحة لإدارة "بايدن"

يوجه المقال نصيحة براجماتية مصبوغة بالفكر والتنظير للإدارة الأمريكية مفادها أن على إدارة "بايدن" الاستفادة من رؤى النسقين المعرفيين دون تجاهل أحدهما، فكلٌّ منهما يرى جزءًا من الحقيقة بجانب ما لديه من رصيد من الإخفاقات، مع ضرورة تضمين الإدارة لرؤى المنظرين بجانب السياسيين من خلال إتاحة الفرص لتقديم نصائح عملية قابلة للتطبيق، والاختيار ما بين النظريتين وفقًا لمقتضى الواقع المستجد.

من هذا المنطلق، ثمة ضرورة لرد الاعتبار للصدق المعرفي للولايات المتحدة بدلًا من الانجراف وراء الأيديولوجيات، مشيرًا إلى أنه وإن لم يحقق هذا النهج مكاسب آنية إلا أنه سيطور قدرة السياسة الخارجية على المدى الطويل على تخليصها من الأوراق التي لا تحظى بأهمية حقيقية على الأرض، وهو غاية التراكم المعرفي بما يسمح بالتطور ويكسر حلقة الجمود.

إطار مقارن

يتبنّى كاتب المقال إطارًا مقارنًا لتفنيد مزاعم التيارين الفكريين الرئيسيين الواقعي والمثالي من أجل تدعيم نصيحته الموجهة للإدارة الأمريكية؛ حيث يشير إلى أنه في حين يرى أنصار المدرسة الواقعية (سواء كانوا رؤساء مثل "دونالد ترامب"، أو دولًا أو شعوبًا أو فاعلين دون الدول أو مؤسسات) أن القوة التقليدية وما يعنيه ذلك من التنافس على السلطة هو مركز العلاقات الدولية الذي يجب أن تدور حوله السياسات الخارجية للدول وبالأخص القوى الكبرى؛ فإن المقال يرد على ذلك بأن طبيعة التحديات المعاصرة (مثل الجائحة التي تسببت في خسائر اقتصادية تفوق الحروب العسكرية، وتداعيات تغير المناخ) كلها تحديات لن تجدي معها القوة التقليدية نفعًا، وأصبحت قدرة الدول على مواجهتها هي التي تحدد شكل القوة النسبية للدول.

في هذا السياق، يشير كاتب المقال إلى منطلقات العالم السياسي "دانيال دريزنر" من حيث غياب الإجماع حول معنى مفهوم "القوة"، مؤيدًا ذلك بالإشارة إلى أن الواقع أظهر أن القوة المؤثرة تأتي في أشكال متعددة، وأن قياس فرق القوة بين الولايات المتحدة المتراجعة والصين الصاعدة معقد جدًا بشكل يتجاوز تبسيطه في صورة صراع قوة عسكرية اقتصادية وصولًا إلى قياس درجة التماسك الوطني والأداء المؤسسي وإن كان لا يمكن إنكار الصواب على التيار الواقعي الذي يرى أن الصراع بين بكين وواشنطن هو معضلة أمنية كلاسيكية.

في حين ظلّ المثاليون متفائلين ويرون أن التاريخ يمضي قدمًا في مسار خطي متصاعد، بحيث أدى ذلك إلى الاهتمام بقضايا مستجدة، واتباع سياسات خارجية مختلفة؛ إلا أنها لم تؤدِّ إلى تحقيق الغايات بل وتوقف المسار التصاعدي، فلم تترسخ الديمقراطيات كما زعموا، بل بالعكس أصبحت تواجه أزمة بنيوية على مستوى العالم الغربي نظريًا وموضوعيًا وإجرائيًا، كما رأوا أن مآل السلطوية في الصين الفشل، ولكنها صعدت صعودًا سريعًا ونجحت بشكل يفوق التوقعات. وكذلك بشّروا بالعالمية ولكنها جنحت إلى مزيدٍ من القومية والانعزالية. وقد شكك كل ذلك في مصداقية المسار التصاعدي للرؤية المثالية التي تبناها الديمقراطيون.

من هذه المقارنة توصل الكاتب إلى أن كلا التيارين الفكريين السائدين في الولايات المتحدة شاب نسقهما المعرفي خلل في التطبيق، ولم يستطيعا إنجاز تراكم معرفي مبني على استنتاجات متصلة على مدار العقود. ويَعزو الكاتب عجز هذه التيارات عن تقديم رؤى متماسكة إلى فقدانهم القدرة على تحديد ما يهم الحياة السياسية بشكل منهجي أكبر، من حيث تحديد وحدة التحليل الأساسية مثلما قامت المدارس النظرية غير المنتمية لحقل العلاقات الدولية مثل الدراسات النسوية وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الشبكات، وهذا السبب وراء قدرتهم على تجاوز مستجدات الواقع التي عرقلت تطور النسق المعرفي للعلاقات الدولية الكلاسيكي السائد في الولايات المتحدة ما بين ليبراليين مثاليين وواقعيين، الأمر الذي جعل هذه النظريات المستحدثة ترى أصول المشكلة وتدرسها من العمق دون الدخول في معركة الاتهامات المتبادلة المبنية على الميل الفطري للأفراد للمنطلقات العقائدية على حساب التنظير، فأتاح ذلك لهم النظر للفاعلين السياسيين والاهتمام بتفسير سلوكهم بناء على الهوية والخصوصية الثقافية واحتواء المستجدات المتتالية، وكان هذا مناسبًا لعالم تُمثل فيه سياسات الهوية أساس السلوك، بحيث أصبح من الممكن لأعداد صغيرة من البشر إحداث ضرر كبير، ناهيك عن عالم يتفاعل فيه هؤلاء بشكل متزايد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. 

نموذج معرفي مأزوم

انطلاقًا من عجز التيارات الرئيسية الفكرية للعلاقات الدولية السائدة في الولايات المتحدة على تعزيز الحيادية وتمكين فرضيات العقل والمنطق أمام المنطلقات العقائدية، يأتي الرئيس "بايدن" من نموذج معرفي مأزوم ومهزوم ليقود قوة عظمى تسعى لاسترجاع مكانتها بعد فترة انعزالية انطلقت من نموذج معرفي آخر مهزوم ومأزوم أيضًا وإن كان بدرجة أقل.

وفي هذا السياق، يتعرض المقال لأزمة معرفية أخرى تواجه حقل العلاقات الدولية تخصم من رصيد التيارين الواقعي والمثالي وهي العجز عن الوصول لإطار نظري أكبر للسياسة الخارجية في عالم يتسم بالتفاعل والتعقيد والاضطراب والفوضوية والمرونة، بحيث أصبحت الحاجة ملحة لوجود خطة عملية لها طابع مستدام ومتسقة على المدى الطويل عوضًا عن إهدار الوقت في البحث عن الاستراتيجيات الكبرى، بحيث ينصح المقال إدارة "بايدن" بأن تنطلق من المستويات الأقل من تقارير العمل الميداني والمتخصصين بالإدارات عوضًا عن أن تتحرك السياسة الخارجية من رئيس في واشنطن "يدعي أنه يعتقد أنه يعرف أين سيتجه التاريخ" على حد وصف المقال، ويتصرف على أساس هذه الرؤية المسبقة، وذلك باعتماد نهج نظري مستجد لهذه الخطط التي تعتمد على تطوير القدرة على التنبؤ الصحيح بعقل منفتح وتفكير مرن؛ بحيث يتم تطوير نماذج عنقودية من الأسئلة التي تعطي مؤشرات مبكرة حول المستقبل المحتمل مما يسمح لصانعي السياسات بوضع سيناريوهات أكثر فطنة في أسرع وقت. وستتيح هذه النماذج للمحللين تقسيم المستقبل واحتمالاته إلى سلسلة من العلامات المتتالية الواضحة القابلة للملاحظة على المدى القصير والمتوسط بما يعزز من القدرة على التخطيط والتنبؤ دون الجنوح إلى متاهة التعصب للمنطلقات العقائدية.

وهنا يحدد الكاتب علاقة السياسة الخارجية بالتنظير الفكري في المرحلة المقبلة، بحيث يرى أن المنظرين ليسوا صانعي خرائط للطريق، بل مهمتهم هي مساعدة الفاعلين السياسيين على تقليل الخسائر وتحقيق المصالح، وأن المهارة تكمن في استفادة هؤلاء الفاعلين من الخريطتين المتاحتين (المثالية والواقعية) وتنقيحهما ودمجهما قدر الإمكان، وهو ما يتوافق مع دعاة الاستماع للحكمة الاستقرائية والتجريبية لصانعي القرار، ويدلل على نجاح قدرة هذا المنحى النظري في إحداث تغيير أن الولايات المتحدة استطاعت عبر السنوات الماضية تفادي خسائر بسبب الشد والجذب بين الإدارة ومنتقديها مما كبح جماح تجاوزات النشاط الأمريكي قدر الإمكان، بل إن الكاتب يشير إلى أن الولايات المتحدة إن استطاعت تحقيق نجاحات عبر الإدارات المتعاقبة فإن ذلك يرجع إلى أنها نجحت في اعتماد نظريات متعددة وليس لأنها لم تعمل بدون نظرية، وهو ما يوفر أرضية لاستمرار هذا النهج ولكن بشكل أكثر إحكامًا. وعليه، يصبح على إدارة "بايدن" أن تبدأ عملية تحديث فكري بدلًا من أن تتمسك بسابقتها، وأن تسرع من هذه العملية وتتيح لها مساحة داخل الإدارة، مع الحفاظ على استمرارية التحديث بما يتواكب والمستجدات المتوالية.

وختامًا، يُشير الكاتب إلى أن الآثار الفكرية والنظرية لأحداث الكونجرس في ٦ يناير تجاوزت آثارها الفعلية من حيث إقحام نظرية المؤامرة المحمّلة بالتوجهات المسبقة في قلب الأطر التحليلية للظواهر السياسية من قبل رئيس رأى أنه تمت الإطاحة به من خلال التلاعب في الاقتراع. ويرى أن هذا الحدث يعكس مآلات الترويج للأكاذيب الكبرى التي يطلقها الشعبويون، بما يرسخ الشقاق الفكري بين المثاليين والواقعيين، وينذر بضرورة التحرك لوقف هذا الانحدار.

وتنبع أهمية ما يقدمه الكاتب من مراجعة فكرية للتيارين الفكريين السائدين في الولايات المتحدة في توقيت طرحه. وهذه المراجعة تهدف إلى المساهمة النظرية في إخراج السياسة الخارجية الأمريكية من أزمتها بناءً على بُعد معرفي وفكري وتنظيري في دولة تُعد فيها مراكز الفكر أحد أهم محركات السياسة الخارجية، ورغم ذلك لم تستطع إنقاذها من أزمتها خلال السنوات الماضية، بل اتهمها البعض بأنها أحد أسباب تعميق الأزمة الفكرية بجنوحها عن الحيادية وخدمة تيارات فكرية مصلحية وقتية على حساب الإنتاج المعرفي الحقيقي.

المصدر: 

Gideon Rose, Foreign Policy for Pragmatists: How Biden Can Learn from History in Real Time, Foreign Affairs, March/April 2021.