نزاع الشرعية:

مسارات الأزمة المتصاعدة بين إثيوبيا وإقليم "التيجراي"

11 October 2020


في منتصف مايو 2020، تساءل موقع "أديس استاندرد" الأشهر عن الدوافع التي جعلت إقليم التيجراي، مهد الحضارة الإثيوبية، يلوح بخيار الانفصال. ما التطورات التي دفعت بعض النخب السياسية والناشطين من أبناء التيجراي إلى القول بأن أفضل حل للخروج من الأزمة الدستورية الخانقة ربما يتمثل في الخروج من تحت عباءة الرابطة الاتحادية؟.

على أن منحى التصعيد المتبادل بين الحكومة الفيدرالية بزعامة رئيس الوزراء "آبي أحمد" وحكومة إقليم التيجراي (شمال البلاد)، اتخذ بُعدًا خطيرًا يتمثل في محاولة كل طرف نزع الشرعية عن الآخر. فقد اتخذ مجلس الاتحاد (الذي يمثل الغرفة العليا في البرلمان الإثيوبي) عدة قرارات باتجاه فك الارتباط مع الإقليم المتمرد على مؤسسات الحكم الفيدرالي في البلاد. فأولًا أمر مجلس الاتحاد الحكومة الفيدرالية بوقف جميع التعاملات مع كل من المجلس التشريعي ومجلس الوزراء في إقليم التيجراي، بحجة أنهما نتاج "انتخابات إقليمية غير دستورية". وثانيًا علق التحويلات المالية الفيدرالية إلى المنطقة. وثالثًا قام بإيقاف التعامل مباشرة مع المؤسسات المحلية على المستويات الأساسية من أجل ضمان استمرار توفير الخدمات العامة الملحة لأبناء الإقليم. وقد اعتبرت النخبة الحاكمة في الإقليم هذه القرارات بأنها بمثابة إعلان حرب على التيجراي.

صراع النخب وإشكالية الحكم:

ترجع جذور الخلاف بين حزب "الازدهار" الحاكم بزعامة "آبي أحمد" والحركة الشعبية لتحرير التيجراي، إلى متغيرات التنافس السياسي والأيديولوجي. لقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي أساسية في بناء نظام فيدرالي عرقي أنشأ أقاليم شبه مستقلة على أسس عرقية ولغوية في مرحلة ما بعد ثورة عام 1991. قادت حركة التيجراي تحالفًا حاكمًا يتكون من أربعة أحزاب تحت مسمى الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، الذي احتفظ بالسلطة لمدة ربع قرن حتى عام 2019. وطوال هذه السنوات رسخت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي أقدامها في المؤسسات الاقتصادية والأمنية الاتحادية، بحيث باتت تشكل ما يمكن أن نسميه الدولة العميقة. بيد أن قمعها للحقوق المدنية وحق تقرير المصير دفع إلى اندلاع تظاهرات عنيفة أسهمت في الإطاحة بها من على سدة هرم السلطة الاتحادية. ومن جهة أخرى، تعرض النظام الفيدرالي العرقي الذي أسسته جبهة التيجراي لانتقادات حادة على أساس أنه يعزز الانقسام المجتمعي من خلال نقل السلطة إلى مناطق منظمة حسب العرق واللغة.

استمر الخلاف بين الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي والحكومة الفيدرالية التي يسيطر عليها تمامًا حزب الازدهار لأكثر من عامين بسبب تمسك التيجراي بضرورة استمرار الائتلاف الحاكم السابق. على أن ظهور جائحة "كوفيد-19" أدى إلى زيادة التعقيد والتوتر في عملية الانتقال الهشة بالفعل في إثيوبيا. في 10 يونيو 2020، قرر مجلس الاتحاد، وهو المجلس الأعلى في البرلمان المكلف بالتفسير الدستوري، الذي يهيمن عليه حزب الازدهار الحاكم برئاسة رئيس الوزراء "آبي أحمد"، تأجيل الانتخابات وتمديد ولاية الأجهزة الحكومية لحين السيطرة على الجائحة. بعد يومين فقط، أعلن مجلس إقليم التيجراي، وهو المجلس الإقليمي الوحيد الذي لا يسيطر عليه حزب الازدهار، أنه سوف يسير قدمًا في إجراء الانتخابات الإقليمية. 

معركة "نزع الشرعية":

ارتبطت أزمة الانتخابات الإثيوبية بإشكالية التفسير الدستوري وما سكت عنه المشرّع، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام صراع الرؤى والمصالح. ففي الوقت الذي قرر فيه البرلمان الإثيوبي تمديد فترة ولاية جميع المؤسسات الحكومية القومية والإقليمية لحين إجراء لانتخابات القادمة، قرر إقليم التيجراي أنه بعد يوم 5 أكتوبر 2020 (نهاية المدة القانونية للحكومات السابقة)، لا يتمتع البرلمان الاتحادي ومجلس الوزراء بأي سلطة قانونية، وأن الإعلانات والتوجيهات واللوائح الفيدرالية الصادرة بعد ذلك التاريخ لن تكون قابلة للتطبيق في تيجراي لأنها ببساطة والعدم سواء. وبالفعل قامت حكومة التيجراي بسحب ممثليها في البرلمان الإثيوبي.

حاولت أديس أبابا دون جدوى منع التصويت في انتخابات التيجراي الإقليمية. فقد أرسل رئيس مجلس الاتحاد "عادن فرح" رسالة تهديد ووعيد في 30 يونيو 2020 يحذر فيها من أن الحكومة الفيدرالية ستتخذ الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التدخل العسكري، من أجل تجنب الضرر الذي قد يلحق بالنظام الدستوري الذي ستحدثه الانتخابات غير الشرعية. وقد بين رئيس المجلس بعد ذلك أن الانتخابات لن يكون لها أثر قانوني. وبعد إجراء الانتخابات في إقليم التيجراي في 9 سبتمبر 2020، التي شارك فيها نحو 2.7 مليون مواطن، حاول رئيس الوزراء "آبي أحمد" التقليل من أهميتها بقوله إنها أشبه بتجمعات قروية. لكن قرار مجلس الاتحاد بإعمال حق التدخل الفيدرالي وتشكيل إدارة انتقالية في تيجراي يحمل معاني التصعيد والمواجهة. وعلى الرغم من أن الأسباب التي قدمها مجلس الاتحاد لتمديد فترات الحكومات الإقليمية مثيرة للجدل؛ فإن قرار تيجراي بتجاهل هذا القرار لم يكن له ما يبرره من الناحية الدستورية. لا تستطيع حكومة التيجراي أن تقرر من جانب واحد ما هو التفسير الصحيح للدستور.

مسارات الخروج من الأزمة:

يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات مستقبلية لتطور الأزمة الدستورية مع إقليم التيجراي في إثيوبيا:

1- مسار الحل التوافقي الفيدرالي: وهو الأكثر ترجيحًا، فمن الواضح أننا أمام حالة من الصراع على السلطة، ومحاولة كل طرف نزع الشرعية السياسية والقانونية عن الطرف الآخر. إن ما يحدث منذ أكثر من عامين لا يندرج تحت بند مقاومة مفهوم الدولة الفيدرالية القائمة على أساس عرقي. وعليه ينبغي أن يكون الدستور هو الإطار الحاكم لتسوية التوترات والصراعات داخل بنية الاتحاد. ومع ذلك فإنه في ظل الوضع السياسي غير المستقر الذي تعيشه إثيوبيا، ولا سيما منذ جائحة "كوفيد-19"، ينبغي دومًا إعلاء مبدأ الحلول السياسية التوافقية وليس مجرد التمسك الحرفي بالنصوص الدستورية التي قد يكون تفسيرها محل خلاف. لا شك أن الأمة الإثيوبية تعيش مرحلة استثنائية من التحول الديمقراطي المتعثر منذ مجيء "آبي أحمد" إلى السلطة عام 2018، وهي اليوم في أمسِّ الحاجة إلى إيجاد حلول إبداعية تساعد على الخروج الآمن من هذا المأزق الدستوري. يتطلب ذلك فهمًا مرنًا للمبادئ الدستورية، وإعلاء روح التضامن الفيدرالي.

بيد أن الحل التفاوضي لا تزال معالمه غير واضحة، حيث يتطلب الأمر استعداد كلا الجانبين للتفاوض والتخلي عن خطاب التصعيد والمواجهة. يمكن أن يتصاعد الخلاف حول الشرعية في الفترة المقبلة قبل إجراء الانتخابات العامة الإثيوبية القادمة في أواخر العام المقبل، وربما تحاول أديس أبابا استخدام قوتها الفيدرالية من أجل كبح جماح التيجراي. وفي المقابل، يمكن للغضب المتزايد في المنطقة أن يطلق العنان لخطاب الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. ولعل مكمن الخطورة الحقيقي بعيدًا عن الجدل الدستوري حول تأجيل الانتخابات، يتمثل في التنافس الإقليمي بين قوميتي الأمهرة والتيجراي الذي لا يزال يمثل تحديًا سياسيًّا كبيرًا. من الممكن حدوث تصعيد على نطاق أوسع، خاصة قبل الانتخابات، عندما يتنافس القوميون الأمهرة على السلطة، وتستمر الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في تحدي السلطة المركزية في الوقت الذي يلوح فيه المتشددون التيجراويون بورقة الانفصال. عندئذ يمكن أن تكون التداعيات خطيرة، حيث تُفتح خطوط صدع بعيدة عن حدود أمهرة - تيجراي، وربما تقوض تماسك الجيش الوطني الإثيوبي، وقد تشمل آثارها السلبية الإقليم الأوسع للقرن الإفريقي. ويفرض ذلك كله ضرورة تبني خيارات سياسية رشيدة تُعلي من مبدأ التضامن الفيدرالي، والحفاظ على وحدة الدولة الإثيوبية.

2- مسار التدخل العسكري والحرب الأهلية: طبقًا للإعلان رقم 359 لسنة 2003 الخاص بنظام تدخل الحكومة الاتحادية في الأقاليم، يجوز لمجلس الاتحاد‏، بمبادرة منه أو عندما يتلقى معلومات من مجلس النواب، أو من أي جهة أخرى، حول قيام أي إقليم بانتهاك ‏الدستور، إعطاء التوجيهات لمجلس الوزراء أو أي جهة حكومية أخرى بالتحقيق في الأمر، وتقديم تقرير ‏إليه من أجل اتخاذ القرارات اللازمة. وينص الإعلان المذكور أعلاه أنه يجوز لمجلس الاتحاد: (أ) إصدار ‏توجيهات إلى رئيس الوزراء لـنشر الشرطة الاتحادية أو قوات الدفاع الوطني أو كليهما حسب مدى خطورة ‏الأوضاع من أجل إيقاف الخطر. (ب) تقرير إنشاء إدارة مؤقتة تكون مسؤولة أمام الحكومة الاتحادية بعد ‏تعليق أعمال مجلس الإقليم وأعلى سلطة تنفيذية به.‏

وعلى أية حال فإنه بالرغم من أن الحكومة الفيدرالية لا تعترف بحكومة تيجراي، فإن قراءة مؤشرات الواقع ‏تشير إلى استعداد رئيس الوزراء "آبي أحمد" لقبول أن يكون للتيجراي ما يعتبره ‏حكومة "غير دستورية" لفترة ‏غير محددة. ومن الواضح أن التدخل العسكري من المحتمل أن يكون كارثيًّا، وبالتالي لا ينصح به بأي ‏حال ‏من الأحوال. أما قرار تعليق التعاملات الفيدرالية مع حكومة الإقليم، والاستعاضة عنها بالتعامل المباشر مع ‏السلطات المحلية، فإنه مجرد حبر على ورق، لأن الحكومة الإقليمية ‏ستحاول منع تطبيقه. كما أنه من غير ‏المرجح أن تكون السلطات المحلية على استعداد للتعامل المباشر مع الحكومة الفيدرالية، متجاوزة قيادتها في ‏حكومة إقليم التيجراي. أما قرار مجلس الاتحاد بتعليق دعم الميزانية الفيدرالية لإقليم تيجراي، فهو ضد روح ‏الفيدرالية ومبدأ التضامن الفيدرالي، وقد اعتبرته إدارة الإقليم بمثابة إعلان حرب. ويمكن اعتبار هذا القرار ‏الأكثر قسوة وتصعيدًا في سلسلة من الاستفزازات المتبادلة بين زعماء تيجراي والمسؤولين الفيدراليين، ‏ويعرض تيجراي لخطر خسارة ما يصل إلى 281 مليون دولار تتلقاها من دعم الميزانية الفيدرالية. ‏وعلى أية حال، تستطيع التيجراي وقف تسليم الضرائب التي تجمعها من الإقليم لصالح الحكومة الفيدرالية.‏

3- مسار الانفصال والتفكك: وهو يمثل السيناريو الكارثي الذي لا يمكن تحمل تبعاته داخليًّا وإقليميًّا. ولا شك أن تاريخ النزعات الانفصالية داخل الكيان الإثيوبي معروف، ولا سيما منذ ستينيات القرن الماضي، وقد نجحت إريتريا في إعلان استقلالها بعد استفتاء عام 1993، كما حاولت القومية الصومالية الانفصال والانضمام للصومال الكبير. بيد أن تمرد حركة "وياني" التيجراوية قد بدأ بشكل مبكر أواخر الأربعينيات ضد مركزية حكم الإمبراطور "هيلاسلاسي"، ثم أحيت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي إرث "وياني" الثاني في تمردها ضد حكم "مانجستو هيلامريام". وها هي "وياني" الثالثة تطالب اليوم بقيام دولة التيجراي المستقلة. 

وفي الواقع، فإن معظم الأحزاب الإقليمية في التيجراي، باستثناء حزب أرينا تيجراي وحركة تيجراي الديمقراطية، لا تنكر خيار الانفصال. أما الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي الحاكمة في الإقليم فقد احتفظت بخيار استقلال تيجراي كملاذ أخير من خلال إدخال المادة 39 في الدستور، والتي تقضي بحق القوميات الإثيوبية في تقرير مصيرها بما في ذلك الانفصال عن جسد الدولة الأم.

‎وقد نشطت تنظيمات المجتمع المدني العاملة في الإقليم، والتي تروج لحديث الانفصال عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ‎ومن ذلك المؤتمر الوطني لتيجراي الكبرى، وهو حزب لم يتم تسجيله بعد، وحركة أغازيان التي تهدف إلى فصل تيجراي عن إثيوبيا ولم شملها مع إريتريا. والحركة الأخيرة تطالب بأراضي أغازيا القديمة التي تسكنها كافة ‏الشعوب الناطقة بالتيجرانية. وينتشر أعضاؤها في تيجراي وخارجها، حيث ينشطون في إسرائيل وبين صفوف الإريتريين في بلاد المهجر.

وعلى أية حال فإن خيار الانفصال يعد بمثابة انتحار سياسي، وهو ترف لا تتحمله النخبة الحاكمة في الإقليم. ومن الناحية الموضوعية فقد ظلت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي تبسط يدها بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى على عموم البلاد طيلة ما يقرب من 27 عامًا على الرغم من أن نسبة التيجراي تقل عن 10% من إجمالي عدد سكان إثيوبيا. ولا يزال موقف الفصيل المهيمن في الجبهة الحاكمة في تيجراي هو العمل على حماية مصالح أبناء التيجراي في ظل مبدأ الفيدرالية العرقية. يعني ذلك أن النخبة الحاكمة في إقليم التيجراي لا تعتبر‎ ‎الانفصال وسيلة قابلة للتطبيق للتغلب على التحديات الحالية‎.‎ كما أن السياق الإقليمي والدولي لن يسمح بتكرار السيناريو اليوغوسلافي في منطقة القرن الإفريقي ذات الأهمية الجيوسياسية البالغة. واللافت للانتباه أيضًا هو وجود مسارات فرعية متناقضة داخل إقليم التيجراي نفسه. ومن ذلك -على سبيل المثال- ظهور بوادر تصدعات عنيفة في صفوف أبناء التيجراي على الرغم من أن الجماعات المؤيدة ‏للاستقلال قد شددت على الروابط المجتمعية القوية لأبناء تيجراي، إلا أن الاحتجاجات العامة يمكن أن تحدث في المناطق الريفية والحدودية التي تشعر بالتهميش والظلم نتيجة فساد الجبهة الحاكمة في الإقليم. ومن جهة أخرى، فإنه على الرغم من ‏التقارب بين رئيس الوزراء "آبي أحمد" والرئيس "أسياس أفورقي" فإن الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي لا تزال تحتفظ بعلاقة عدائية مع النخبة الحاكمة في إريتريا.

ختامًا، ينبغي النظر إلى الخلافات الحالية بين النخب السياسية الإثيوبية وطبيعة الأزمة الدستورية التي تمر بها البلاد على أنها "صراع على السلطة" وليس سببًا مبررًا للانفصال. ربما لا يزال لدى "آبي أحمد" فرصة لنزع فتيل الموقف. حتى في الوقت الذي ندد فيه بالتصويت الإقليمي في التيجراي الشهر الماضي، فقد وعد رئيس الوزراء بأنه لن تكون هناك إجراءات انتقامية شديدة، مثل التدخل العسكري أو خفض التمويل المادي. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان "آبي أحمد" الحائز على جائزة نوبل للسلام سيتخذ أي خطوات للوفاء بوعده وتحقيق السلام، أم سوف يتراجع عنه. ثمة حلول توافقية للتعامل مع أصل وجذور الأزمة. منذ أن تولى "آبي أحمد" منصبه، اشتكت نخبة التيجراي الحاكمة من استهدافهم بشكل غير عادل في محاكمات الفساد، وعزلهم من المناصب العليا، وتحويلهم إلى كبش فداء لصرف الأنظار عما تعانيه البلاد من مشكلات داخلية وخارجية.