رؤية مغايرة:

الاتجاهات الخمسة لمستقبل السياسة الخارجية الأمريكية

28 September 2020


عرض: سارة عبدالعزيز - باحثة في العلوم السياسية

في خضمّ استعدادات الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020، صدرت العديد من المؤلفات التي تناولت إما تقييمًا لسياسات الرئيس "دونالد ترامب" والكشف عن حجم الأخطاء التي يرتكبها وشخصنة السياسة الخارجية في عهده، أو شهادات كبار المسؤولين حول فترات خدمتهم بالإدارة الحالية. ومن بين أهم الكتب التي صدرت خلال الفترة الأخيرة، كتاب "روبرت زوليك" الرئيس السابق للبنك الدولي، الذي جاء بعنوان "أمريكا في العالم: تاريخ الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية".

يستعرض "زوليك" في كتابه أهم محطات السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك من واقع خبراته وحياته المهنية كنائب لوزير الخارجية والممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة، وصولًا لتوليه منصب رئيس البنك الدولي. وهو حاليًّا خبير في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد.

رؤية مختلفة

إن الطرح الذي يقدمه "زوليك" يختلف عن معظم الأطروحات التي سادت خلال الفترة الأخيرة، حيث عمدت معظم الإصدارات التي خرجت في عهد "ترامب"، ولعل آخرها كتاب مستشار الأمن القومي السابق "جون بولتون" والذي أثار اهتمامًا لدى الرأي العام أكثر من غيره، حيث سعى إلى إبراز الوجه السيئ للسياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة "ترامب"، وتبيان أوجه الضعف التي تعتريها. أما كتاب "زوليك" فإنه يركز بشكل كبير على إنجازات الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية.

ولعلّ من أبرز الملاحظات التي يمكن الخروج بها من الاطلاع على صفحات الكتاب، أنه على الرغم من أن "زوليك" قد شغل سلسلة من المناصب العليا في مجال السياسة الخارجية خلال فترتي الرئيس السابق "جورج دبليو بوش"، وكان مرشحًا رئيسيًّا لتولي منصب وزير الخارجية في حال فاز المرشح الجمهوري "ميت رومني" في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، كما أنه كان من بين الجمهوريين الذين وقّعوا على خطاب عدم ترشيح "ترامب" للرئاسة في عام 2016؛ إلا أنه لم يحاول إظهار انطباعاته الشخصية ومواقفه، بل وشعوره تجاه منافسيه في الوظائف العليا عبر صفحات الكتاب. 

وحقيقة الأمر، فإن الهدف من الكتاب قد يتجاوز مجرد السرد التاريخي لأهم الأحداث التي شهدتها السياسة الخارجية الأمريكية، وإنما إعادة التأكيد على دور الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم، وأنها تقدم تجربة استثنائية ومستمرة، سواء في الداخل أو في مجال العلاقات الدولية. ومن ثم، يمثل الكتاب محاولة للخروج من إصرار العديد من الكتاب في الفترة الأخيرة على رؤية العالم كمكان مظلم، بينما يرى "زوليك" أن القيادة هي اتخاذ الخيارات المظلمة لتحقيق النتائج الإيجابية، ومن ثم الانتصار للبراجماتية التي تأخذ في الاعتبار القيم الأمريكية.

وقد قدم "زوليك" من خلال الكتاب خارطة طريق للصعوبات التي سيتعين على مفكري السياسة الخارجية بشكل عام، لا على الجمهوريين فقط، اجتيازها ليصعدوا على رأس الدبلوماسية الأمريكية الناجحة.

وفي حين يتضمن اسم الكتاب الإشارة إلى تاريخ الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن محتواه لا يتضمن سردًا تاريخيًا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هو عبارة عن مجموعة من المقالات القصيرة المروية ببراعة، والتي استخلص منها "زوليك" خمسة اتجاهات أساسية ظهرت من واقع احتكاك السياسة الخارجية الأمريكية مع العالم، وتتمثل تلك الاتجاهات فيما يلي: أهمية ومركزية قارة أمريكا الشمالية، العلاقة بين الاقتصاد والأمن من خلال الأدوار الخاصة التي تلعبها التجارة والعلاقات عبر الوطنية والتكنولوجيا في تحديد وبلورة العلاقات بين الدول، إدراك أهمية وقيمة التحالفات وطرق تنظيم الروابط بين الدول، الحاجة إلى الدعم الشعبي لمواقف السياسة الخارجية وخاصة من خلال الكونجرس، الاعتقاد بأن السياسة الأمريكية يجب أن تخدم غرضًا أكبر يتمثل في القيم الأمريكية بما يؤكد على أهمية القيادة البراجماتية للولايات المتحدة الأمريكية.

وبشكل عام، تؤطّر هذه الاتجاهات أهم ملامح السياسة الخارجية الأمريكية كمراجعة ختامية لرئاسات ما بعد الحرب الباردة، والتي يتوقع "زوليك" أن تكون بمثابة اتجاهات إرشادية للمستقبل.

المراحل الدبلوماسية الأمريكية

استعرض "زوليك" في مقدمة كتابه كيف تشكلت الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية على يد كل من "بن فرانكلين" و"ألكسندر هاملتون" باعتباره مهندس القوة الأمريكية، وكذلك "لينكولن" و"روزفلت"، ومراحل التطور التي مرت بها الدبلوماسية الأمريكية، وإسهامات كل منهم في إضفاء رؤيته وأسلوبه على مسار الدبلوماسية الأمريكية.

ثم انتقل "زوليك" إلى محاولة تحديد ملامح النظام الأمريكي خلال فترة الحرب الباردة، حيث استعرض حالة الجدل التي سادت خلال تلك الفترة من خلال المساهمات المركزية لأربعة سياسيين مخضرمين، ولكنهم أضحوا أقل شهرة الآن، وهم: "تشارلز إيفانز هيوز" صاحب أطروحة تدشين السيطرة الناجحة على الأسلحة، و"إليهو روت" المنتصر للقانون الدولي، و"كورديل هال" الداعم للانفتاح التجاري، و"فانيفار بوش" الداعم لمركزية العلم والتكنولوجيا في وضع التوقعات العالمية للولايات المتحدة الأمريكية. وفي حين أن هذه الموضوعات لا تحظى بشعبية لدى الرئيس "ترامب" وفريقه للشؤون الدولية؛ فقد قدم "زوليك" الكثير من الانتقادات لأطروحات هؤلاء السياسيين، إلا أنه لم يتناول كيف خضعت تلك الأطروحات للاستقطاب الشديد مؤخرًا، وكيف يمكن استعادة الحماس الأمريكي لمثل تلك الأفكار والأطروحات التي تم تقديمها، لا سيما داخل الحزب الجمهوري الذي شهد تبلور حياته المهنية.

ونتيجة لطول الفترة الزمنية التي يغطيها الكتاب، فقد اضطر "زوليك" إلى إحداث قدر من الانتقائية في اختيار الفترات والأحداث التي ينصب تركيزه عليها. فنجد أنه يتأخر في استعراض محاولات وزير الخارجية الأمريكي السابق "جون هاي" للحفاظ على سيادة الصين، حيث كان مسؤولًا عن التفاوض على سياسة الباب المفتوح مع القوى الدولية، والتي أبقت الصين مفتوحة للتجارة مع جميع البلدان على قدم المساواة. لكنه على جانب آخر، تخطى الحرب الأمريكية-الإسبانية، وما تلاها من أحداث حرصت الولايات المتحدة الأمريكية خلالها على انتهاك سيادة كل من الفلبين وبورتوريكو، حيث رفضت الأولى معاهدة باريس التي أنهت الحرب الأمريكية-الإسبانية، وأقرت باستحواذ الولايات المتحدة الأمريكية على الفلبين من إسبانيا.

وفي حين قدم "زوليك" معالجة مكثفة لمبدأ مونرو الذي أعلنه الرئيس الأمريكي "جيمس مونرو" كمناورة للتلاعب بالقوة الأوروبية، إلا أنه لم يسهب في تحليل الإجراءات الأمريكية لمحاصرة الشيوعية في أمريكا اللاتينية خلال فترة القرن العشرين. كما أنه يعتبر دخول "وودرو ويلسون" في الحرب العالمية الأولى دخولًا مطولًا. وفي المقابل اعتمد "روزفلت" أسلوب الدبلوماسية المعقدة والحسابات الواقعية، وأحيانًا غير النزيهة خلال مواجهات الحرب العالمية الثانية. إلا أن الأمر المثير للانتباه، بالنظر إلى تركيز "زوليك" الاقتصادي، أنه لم يركز بشكل كبير على الدبلوماسية الأمريكية والجهود المكثفة التي دشنت مؤسسات بريتون وودز.

الدبلوماسية الأمريكية في العصر الحديث

انصبّ تركيز "زوليك" في تناول التاريخ الأمريكي المعاصر على فترة "جورج بوش الأب"، ومن ثم فإن جوهر الكتاب قد انتهى في عام 1990، حيث لم تحظَ رئاسات كلٍّ من: بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش الابن، وأوباما، ولا حتى ترامب؛ باهتمام كبير من جانب الكاتب. أما عن "بوش الأب" فقد وصفه الكاتب بقائد التحالفات، والذي أبدى استعداده وبذل الجهود للدفع نحو إعادة توحيد ألمانيا. ومن ثم، اختار "بوش" دعم رغبات حليفه الألماني في مقابل رغبات شريكه السوفيتي الجديد "ميخائيل جورباتشوف".

ونتيجة لوضع "زوليك" كسياسي أمريكي بارز شغل منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، ونائب وزير الخارجية، وكان رئيسًا للبنك الدولي، وكذلك مستشارًا عالميًا رئيسيًا في بنك جولدمان ساكس، وصوتًا رئيسيًا ضمن صفوف الحزب الجمهوري في محاولة "رومني" للوصول للبيت الأبيض في عام 2012؛ فقد كان شاهدًا رئيسيًا في مقاعد الصف الأول على كواليس دوائر صنع القرار في أحداث 11 سبتمبر والخيارات الدبلوماسية التي تلت ذلك من غزو العراق وأفغانستان وإقرار سياسة مكافحة الإرهاب. وبناءً عليه، فقد قدم في كتابه ملخصًا حكيمًا ومقارنة نقدية بين السياسة التي اتبعها الرؤساء في تلك الفترة ومستشاريهم في فيتنام وبين السياسة التي اتبعها "جورج بوش الابن" بعد أحداث 11 سبتمبر. 

وقد رأى "زوليك" أن أعمق تقليد للدبلوماسية الأمريكية هو الحرص الدائم على تعزيز ونشر المبادئ والقيم الأمريكية، فقد سعى كل من "كلينتون" و"جورج دبليو بوش" و"أوباما"، كل على طريقته الخاصة، إلى تسليط الضوء على القيم الأمريكية من خلال بعض الممارسات الدبلوماسية التي أبرزت تلك القيم الرنانة وإدماجها في أهداف السياسة الخارجية، مع الحرص على الحفاظ على درجة معقولة من الواقعية تجاه الآخرين. ومن ثم، قدم "زوليك" حجة قوية مفادها أن استحضار تاريخ الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن يساعد في الاستعداد لمستقبل أفضل من خلال إعادة ضبط توجهات السياسة الخارجية الأمريكية على أسس براجماتية وأخلاقية في الوقت ذاته.

اتجاهات الدبلوماسية الأمريكية

لقد أدت الخبرة الدبلوماسية الأمريكية إلى تراكم مجموعة من الاتجاهات الأساسية التي استخلصها "زوليك"، واعتبر أنه من الممكن الاستفادة منها في تشكيل الاتجاهات المستقبلية، ويمكن استعراضها على النحو التالي:

أولًا- ركزت الولايات المتحدة الأمريكية على أمريكا الشمالية، باعتبارها قارة موطنها، ونجحت بالفعل في السيطرة على قارتها ومن ثم ضمان أمنها وتعزيز قوة اقتصادها. وكامتداد لتلك السياسة، يهتم الأمريكيون اليوم مرة أخرى وأكثر من أي وقت مضى بحدودهم وأمنهم وتدفقات الأشخاص عبر الحدود وعمليات التبادل التجاري والمعلومات والبيئة. ففي القرن الحادي والعشرين، ستكون أمريكا الشمالية قاعدة القوة التي ستنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية للوصول إلى العالم الخارجي، خاصة عبر المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ.

ثانيًا- عملت العلاقات التجارية والتكنولوجية الأمريكية العابرة للحدود الوطنية كمحدد مهم للعلاقات السياسية وحتى الأمنية للبلاد -هذا فضلًا عن روابطها الاقتصادية- مع بقية دول العالم. فمنذ تأسيس الولايات المتحدة، تم الربط بين الحريات الاقتصادية وتلك السياسية، وتبني فكرة أن يعمل القطاع الخاص كوكيل للتجارة لحساب واشنطن. ومن ثمّ، أصبح التجار الأمريكيون ممارسين لنوع جديد من الأممية عبر الوطنية. وبمرور الوقت، أنشأت الولايات المتحدة نموذجًا للتقدم العلمي التكنولوجي، مدعومًا بتمويل فيدرالي، حيث اعتمد على الجامعات والقطاع الخاص في البلاد في الإسهام في تحقيق التقدم الاقتصادي؛ كما أسهمت ريادة الأعمال الأمريكية جنبًا إلى جنب مع المعاملات التجارية العابرة للحدود الوطنية. ومن ثم، ستوفر روابط التجارة والتكنولوجيا والتمويل الأمريكية أسسًا داعمة للشراكات المستقبلية بين الولايات المتحدة ودول العالم.

ثالثًا- عكست الدبلوماسية الأمريكية تغيير المواقف الأمريكية تجاه التحالفات وطرق تنظيم العلاقات مع الدول. فخلال الـ150 عامًا الأولى، استجاب الأمريكيون لتحذيرات واشنطن وجيفرسون بشأن التحالفات مع القوى الأوروبية. وبحثًا عن بدائل، جرب الأمريكيون مجموعة من الطرق الأخرى للحفاظ على الاستقلال الوطني ضمن أنظمة دولية آمنة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، استجابت الولايات المتحدة للمخاوف من انهيار النظام الدولي والهيمنة السوفيتية من خلال بناء شبكة تحالفات أمريكية قوية مع العديد من الدول الأخرى. وقد أرست شبكة التحالفات الأمريكية نوعًا جديدًا من نظام الأمن السياسي، مما وفر إطارًا عامًا للمنافع السياسية والاقتصادية المتبادلة.

وبعد الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بتكييف شبكة تحالفاتها الموسعة لتناسب النظام الدولي الجديد. واليوم، يتساءل الرئيس "ترامب" وآخرون عن تكاليف وفائدة التحالفات الأمريكية، حيث إنه من المحتمل أن تعيد واشنطن تقييم نطاق شبكة تحالفاتها والالتزامات والمسؤوليات المشتركة، فقد يفكر الأمريكيون في بدائل عامة أو أشكال أخرى مكملة لتلك التحالفات من أجل التعاون والمنافسة مع الدول الأخرى. 

رابعًا- أهمية الدعم الشعبي للسياسة الخارجية، فيجب على القائمين على الدبلوماسية الأمريكية أن يدركوا جيدًا كيف يمكن قيادة مسائل السياسة الخارجية والحصول على ذلك الدعم الشعبي. فقادة الدبلوماسية الأمريكية الناجحون في حاجة إلى العمل والتوافق مع العوامل السياسية الداخلية والجهات الحاكمة مثل الكونجرس، بما يسهم في تسهيل اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الأمريكية ودعمها على نحو سليم.

خامسًا- عكست الدبلوماسية الأمريكية الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تجربة استثنائية ومستمرة، سواء في الداخل أو في مجال العلاقات الدولية. ومن ثم، يجب ترسيخ النموذج الأمريكي وتعميمه لنشر القيم الأمريكية.

وختامًا، يمكن القول إن الكتاب يقدم إسهامًا مرموقًا وتغطية محكمة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترات الأولى من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وحتى فترة "جورج بوش الأب"، ومن ثم فهي تفتقر إلى التغطية الشاملة للفترة الحالية والتي شهدت الكثير من التغيرات الجوهرية، إلا أن الكاتب خرج بمجموعة من الاتجاهات الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية والتي يمكن البناء عليها من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة لصياغة سياستها الخارجية على أسس سليمة وفعالة.

المصدر:

Robert Zoellick, America in the World: A History of U.S. Diplomacy and Foreign Policy, (New York, Twelve: Hachette Book Group, 2020).