اتجاه مضاد:

لماذا تعزز روسيا وجودها العسكري في القامشلي؟

14 November 2019


رغم تراجع حدة المواجهات العسكرية في سوريا، بعد أن تمكن النظام السوري، بمساعدة حلفائه، من توسيع نطاق سيطرته على مساحة أكبر من الأراضي السورية، ورغم الضربات القوية التي تعرض لها تنظيم "داعش"، خاصة بعد مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، في 27 أكتوبر الفائت، إلا أن روسيا تتجه إلى رفع مستوى وجودها العسكري في سوريا، وتحديداً في مدينة القامشلي بالشمال، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية، في 14 نوفمبر الجاري، أنها بدأت في إنشاء قاعدة هليكوبتر سوف تحميها بصواريخ سطح/ جو، وذلك بعد أن أشارت تقارير عديدة إلى أنها قد تبدأ في إجراء مباحثات مع الحكومة السورية لاستئجار مطار القامشلي لمدة 49 عاماً على غرار ما فعلت في السابق فيما يتعلق بقاعدتى حميميم وطرطوس.

أهداف عديدة:

​كان لافتاً أنه قبل الإعلان عن تلك الخطوة، التي سوف تثير تساؤلات عديدة لدى القوى الدولية والإقليمية المعنية بالتطورات السياسية والميدانية التي تجري على الساحة السورية، حرصت روسيا على الإشارة إلى أن الصراع العسكري تراجع بشكل كبير داخل سوريا، حيث قال الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في منتدى "فالداى للحوار الدولي" في 3 أكتوبر الفائت، أن "العمليات العسكرية واسعة النطاق انتهت داخل سوريا"، مشيراً إلى أهمية التركيز على البدء في العمل على الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة في سوريا.

​وقد دفعت تلك الإشارات اتجاهات عديدة إلى ترجيح أن روسيا ربما تسعى إلى تهيئة المجال أمام تقليص وجودها العسكري تدريجياً على الساحة السورية، حيث كان الدور الذي قامت به منذ سبتمبر 2015 حاسماً في تغيير توازنات القوى لصالح النظام السوري، الذي واجه تحديات غير هينة في الأعوام الأولى من الأزمة التي اندلعت في 2011. كما أنه كان سبباً رئيسياً في تصاعد حدة التوتر في علاقات روسيا مع الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجهت انتقادات متواصلة للدعم الروسي للنظام السوري على المستويين السياسي، من خلال استخدام حق الفيتو لمنع استصدار قرارات إدانة من مجلس الأمن ضد العمليات العسكرية التي يقوم بها، والعسكري عبر الانخراط في العمليات العسكرية بالتركيز على الضربات الجوية التي ساعدت القوات النظامية السورية والميليشيات الحليفة لها في توسيع نطاق سيطرتها على الأرض.

​لكن بدا من الخطوة الأخيرة أن موسكو تعمدت تبني الخيار المضاد، الذي لا ينحصر فقط في تكريس نفوذها العسكري من خلال استئجار قاعدتين في حميميم وطرطوس، وإنما يمتد إلى توسيع نطاق هذا الوجود ليشمل قواعد جديدة، على غرار القاعدة التي تستعد إلى تأسيسها في القامشلي.

ومن هنا، يمكن القول إن ثمة أهدافاً عديدة تسعى موسكو إلى تحقيقها من خلال توسيع نطاق حضورها العسكري داخل سوريا، يتمثل أبرزها في:

1- رسالة للحلفاء والخصوم: يبدو أن موسكو تحاول عبر تلك الخطوة الجديدة توجيه رسالة للقوى الحليفة والمناوئة لها في آن واحد بأنها لا تعتزم تقليص مستوى وجودها العسكري داخل سوريا خلال المرحلة القادمة، وهى الخطوة التي يبدو أن تلك القوى كانت تستعد لها بهدف ملء الفراغ الذي كان من الممكن أن ينتج عن ذلك، على غرار ما فعلت تركيا بعد قرار الولايات المتحدة الأمريكية بسحب قسم من قواتها من شمال سوريا، حيث شنت عمليتها العسكرية، في 9 أكتوبر الفائت، من أجل تأسيس المنطقة الآمنة بعمق 32 كيلو متر.

وبمعنى آخر، فإن تلك القوى كانت ترى أن المعطيات التي كان سيفرضها تراجع الحضور العسكري الروسي على الساحة السورية، يمكن استغلالها بما يعزز نفوذها ويساهم في تحويلها إلى رقم صعب لا يمكن تجاهله في عملية صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في مرحلة ما بعد تراجع حدة الصراع العسكري، وهو ما يبدو أنه كان محل متابعة ودراسة من جانب موسكو، التي اعتبرت أن ذلك لا يتوافق مع مصالحها.

وهنا، فإن رسالة موسكو لا تبدو موجهة لواشنطن أو أنقرة فحسب، وإنما إلى طهران أيضاً، باعتبار أن الأخيرة كانت قد بدأت في توجيه إشارات بأنها غير مطمئنة إلى الاستحقاقات التي يمكن أن يفرضها استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا.

2- الحذر من الترتيبات الأمنية: تتابع موسكو بدقة التحركات العسكرية الأمريكية في شمال سوريا، خاصة بعد أن بدأت واشنطن، في 13 نوفمبر الجاري، في نشر قواتها بشمال شرقى سوريا، بعد أن سحبت قسماً من قاعدة عسكرية قرب منطقة عين العرب "كوباني"، ونقلت قوات من العراق إلى تلك المنطقة. وقد بدا أن ثمة حرصاً من جانب موسكو على توجيه انتقادات لتلك التحركات، على نحو انعكس في تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، قبل ذلك بيوم واحد، والتي اتهم فيها واشنطن بـ"السعى إلى فصل مناطق في شرق الفرات عن سوريا وإقامة شبه دويلة عليها"، وهو ما لا يمكن فصله عن إصرارها على تكريس وجودها العسكري في سوريا خلال المرحلة القادمة.

3- الحفاظ على المكتسبات: ترى موسكو أن الأدوار السياسية والعسكرية التي قامت بها على الساحة السورية منذ عام 2015 تحديداً، ساهمت في تغيير توازنات القوى ومنع التنظيمات الإرهابية والمسلحة من توسيع نطاق نفوذها وسيطرتها على الأراضي السورية، على نحو لا يمكن معه، وفقاً للرؤية الروسية، التراجع عن المكتسبات التي تم تحقيقها خلال المرحلة الماضية.

هذه الرؤية تطرح دلالة مهمة مفادها أن موسكو تدرك أن توازنات القوى داخل سوريا تغيرت بشكل يتوافق مع حساباتها الاستراتيجية، لجهة دعم النظام السوري والحفاظ على بقاءه في السلطة، وعدم تكرار ما حدث في ليبيا على سبيل المثال. لكنها تدرك في الوقت نفسه أن هناك تكلفة لهذا الدور قد تكون مؤجلة، بشكل يفرض عليها، طبقاً لتلك الرؤية، تكريس وجودها العسكري داخل سوريا وعدم تحديد سقفه على الأقل في المديين القريب والمتوسط. وعلى سبيل المثال، فإن مصالح موسكو قد تكون هدفاً لبعض التنظيمات الإرهابية خلال المرحلة القادمة، بما يفرض ضرورة مراقبة ورصد تحركات تلك التنظيمات خاصة على الأراضي السورية، لاسيما في ظل وجود عناصر منحدرة من روسيا ودول آسيا الوسطى والقوقاز داخل تلك التنظيمات.

4- الضغط على الأكراد: ربما تشير الخطوة الأخيرة إلى رغبة موسكو في رفع مستوى ضغوطها على الميليشيا الكردية، وتحديداً "قوات سوريا الديمقراطية" للانخراط في ترتيبات أمنية جديدة مع النظام السوري، مع استغلال المعطيات الجديدة التي فرضتها العملية العسكرية التركية في الشمال السوري والتفاهمات التي توصلت إليها تركيا مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في هذا السياق.

إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن روسيا تحاول توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات السياسية والميدانية التي طرأت على الساحة السورية في الفترة الماضية، خاصة مع بداية عمل اللجنة الدستورية وتصاعد الاهتمام الدولي بالوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية في المرحلة القادمة.