خيارات مُربِكة:

لماذا تصاعدت المخاوف من "الفراغ" الحكومي في المنطقة العربية؟

29 October 2019


اتسع نطاق القلق من فراغ السلطة في عدد من الدول العربية، ومنها لبنان والعراق والجزائر وتونس (بعد وفاة السبسي)، وربما أجزاء من دول مثل (جنوب ليبيا) و(شمال شرق سوريا)، على مدار عام 2019، وخاصة في الربع الأخير منه، على نحو ما عكسته مجموعة من الأسباب تمثلت في تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية في دول الانقسامات الطائفية، والسير في دوامة المرحلة الانتقالية، واحتمال عودة التنظيمات الإرهابية إلى مناطق نفوذها الرئيسية، وزيادة تمدد الميلشيات المسلحة في أقاليم مناطقية، وتعقيد التوصل إلى تسوية للصراعات المسلحة الممتدة، وتعزيز شرعية الجماعات الخارجة عن القانون في الأطراف المهملة تنموياً.  

تأطير الفراغ:

ظهرت في المنطقة العربية، بعد تحولات الحراك الثوري في موجتيه الأولى (2011) والثانية (2019)، نماذج مختلفة لدول فاشلة وحكومات ضعيفة وهياكل متشرذمة ومجتمعات "منفلتة" وتحركات انفصالية ومناطق محررة وجماعات عصية، تعبر عن مؤشرات فراغ أمني وسياسي واقتصادي واجتماعي، نتيجة افتقاد السلطة المركزية أو القوة الشرعية للسيطرة على كل أراضي الدولة أو ضبط سلوكيات كل سكانها وتراجع أدوارها الاقتصادية والاجتماعية الخدمية لمواطنيها، أو انسحاب قوات عسكرية محسوبة على أطراف دولية دون ترتيبات مسبقة على نحو يدفع قوى أخرى لملء أو "تأطير" الفراغ مثل الميلشيات المسلحة والجيوش المناطقية والقوى العرقية والحركات الانفصالية والتجمعات القبلية والعصابات الإجرامية والقوى الإقليمية التدخلية.

إن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر المخاوف من الفراغ الحكومي في المنطقة العربية، يمكن تناولها على النحو التالي:

نقاط الاشتعال:

1- تفاقم الاحتجاجات الشعبية: على نحو ما عبرت عنه حالتا لبنان والعراق. فقد شهدت عدة مناطق في لبنان، منذ 17 أكتوبر الجاري، حراكاً شعبياً لم تعهده من قبل، يعبر عن مطالب سياسية واقتصادية. وقد وصلت التظاهرات إلى مناطق تعد معاقل رئيسية لحزب الله مع توجيه انتقادات له ولأمينه العام، حيث يشارك الحزب في الحكومة بثلاثة وزراء لكنه جزء من الأغلبية الحكومية التي تضم وزراء محسوبين على الرئيس ميشال عون وحركة أمل بقيادة نبيه بري رئيس البرلمان. فقد أطلق المتظاهرون، في يوم الجمعة 25 أكتوبر الجاري، شعارات مناهضة للسلطة مثل "الشعب يريد إسقاط النظام" و"كلن يعني كلن"، مطالبة برحيل الطبقة السياسية دون استثناء.

وهنا حذر الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، في كلمة متلفزة في 25 أكتوبر 2019، من أن الاحتجاجات التي تجتاح أنحاء لبنان قد تدفع نحو الفوضى والانهيار والحرب الأهلية، وهو ما يتعين على لبنان أن يبحث عن حلول وفي الوقت نفسه تجنب حدوث فراغ خطير في السلطة، أى إسقاط الرئيس أو استقالة الحكومة أو إجراء الانتخابات النيابية المبكرة. إذ قال نصرالله: "منفتحون على أى حل، أى نقاش، لكن لا على قاعدة الذهاب إلى أى شكل من أشكال الفراغ، لأن الفراغ سيكون قاتلاً". 

وأضاف: "أى حل يجب أن يقوم على قاعدة عدم الوقوع في الفراغ في مؤسسات الدولة، لأن هذا خطير جداً، الفراغ إذا حصل وكما البعض ينادي، سيؤدي في ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب والمأزوم.. في ظل التوترات السياسية في البلد والإقليم، إلى الفوضى وإلى الانهيار". كما سبق أن حذر رئيس البرلمان نبيه بري في تصريحات إعلامية مختلفة من دخول البلاد دوامة الفراغ قائلاً: "البلد لا يحتمل أن يبقى معلقاً ونخشى من الفراغ". فهناك تحدٍ كبير يتعلق بمستقبل الوضع داخل حتى في حال تقديم حكومة سعد الحريري استقالتها.

على جانب آخر، لازالت الاحتجاجات العراقية متصاعدة في عدة محافظات على مدى شهر كامل، ولا توجد مؤشرات توحي بانحسارها خلال الفترة المقبلة، وفي الوقت الذي رفع فيه المحتجون شعارات مطالبة بإسقاط النظام، توجه رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، في خطاب بث فجر يوم 4 أكتوبر الجاري للمحتجين، بقوله: "نحن اليوم أمام خيارى الدولة واللادولة"، وهو ما حمل تحذيراً من الفراغ الذي يمكن أن يحدث في إحدى الرئاسيات الثلاث أو مجملها أى رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان. ولاشك أن فراغ السلطة في العراق يمثل تحدياً كبيراً مع الأخذ في الاعتبار وضع بغداد كحليف دولي للولايات المتحدة وإيران اللتين تخوضان مواجهة حادة. 

متاهة الانتقال:

2- السير في دوامة المرحلة الانتقالية: والتي تفرض تحديات كثيرة ليست في الحسبان، وقد تصل إلى مدى زمني أطول، وتضغط على كل الأطراف، وتؤثر في هياكل الدولة، وهو ما ينطبق على الحالة الجزائرية بعد تخلي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم في إبريل 2019. فلاتزال قوى الحراك تتمسك برحيل كافة رموز نظام بوتفليقة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 ديسمبر 2019، وفقاً لما أعلنته السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، حيث يرى المحتجون أن إجراء الانتخابات في ظل وجود رموز للنظام القديم قد يؤدي إلى إعادة إنتاج نظام بوتفليقة، لاسيما مع وجود عدد من المرشحين المحسوبين على "الحقبة البوتفليقية" من ناحية وغياب مرشحي الأحزاب المعارضة ذات الوزن لدى الرأى العام والنخبة من ناحية أخرى. 

في حين لايزال رئيس الأركان أحمد قايد صالح يوجه اتهامات ضد كل من يرفض إجراء هذه الانتخابات في موعدها، حيث يصر على رؤيته الدستورية لإخراج البلاد من أزمتها السياسية الحالية منذ استقالة بوتفليقة وخوفاً من انزلاق البلاد في حالة من الفراغ الدستوري والمؤسسي، وهو ما عبرت عنه تصريحات عديدة له وأبرزها في 18 يونيو 2019، حيث أشار صالح إلى أن "من يدعي أن سلطة الشعب فوق سلطة الدستور يهدف إلى تجميد العمل بالدستور وإلغاء كافة مؤسسات الدولة، على الرغم من أنه لا يوجد تباعد أو تناقض بين ما ترمي إليه أحكام الدستور والمطالب الشعبية"، مضيفاً أن "الجزائر ليست لعبة حظ بين أيدي من هب ودب وليست لقمة سائغة لهواة المغامرات". 

نفوذ الإرهاب:

3- احتمال عودة التنظيمات الإرهابية: خاصة في ظل عدم سيطرة قوات الجيش النظامي السوري على غالبية المناطق بشمال شرق سوريا التي كانت تهيمن عليها ميلشيا "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية التي كانت مدعومة من الولايات المتحدة لمواجهة تنظيم "داعش". ومع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، أعطى ذلك ذريعة للقوات التركية لشن عملية "نبع السلام" بما يعزز رؤيتها الرامية إلى تأسيس منطقة آمنة بعمق أكثر من 30 كم بشكل يجعلها قادرة على درء التهديدات الأمنية من الأكراد التي تصنفهم أنقرة "جماعة إرهابية" من ناحية وإحداث تغيير في التركيبة الديموغرافية لقاطني تلك المنطقة بحيث يغلب عليهم العرب السنة والأكراد الموالون لها من ناحية ثانية وامتلاك أوراق ميدانية مؤثرة خلال صياغة الترتيبات المؤسسة للعملية السياسية والدستورية في سوريا من ناحية ثالثة.

وقد ساهمت هذه البيئة في منح نافذة فرصة لتنظيم "داعش" لمعاودة تهديداته مرة ثانية، سواء بتسريب مقاتليه إلى المناطق الزراعية المجاورة للمدن الكبرى أو الفرار إلى مناطق في شرق الفرات أو البقاء كخلايا نائمة في المناطق التي تركها. ويضاعف من ذلك وجود آبار للنفط شمال شرق سوريا يمكن أن تمثل مدخلاً لتمويل عناصر التنظيم، وهو ما يفسر تأكيد وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، في 21 اكتوبر الجاري، على إبقاء قوات أمريكية قرب هذه الآبار وخاصة "العمر" الذي يعد أكبر حقول النفط في سوريا مساحة وإنتاجاً.

جيوش موازية:

4- زيادة تمدد الميلشيات المسلحة: وهو ما يعبر عنه جلياً واقع منطقة جنوب ليبيا التي تراجع الاهتمام بها في ظل التنازع على السلطة ذات الرأسين: حكومة طرابلس الداعمة لفايز السراج والمجلس الرئاسي من جهة وحكومة طبرق المدعومة من مجلس النواب وقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من جهة ثانية، على نحو أدى إلى تهميش مدن الجنوب وحرمانها من التنمية مثلما كان الوضع سائداً خلال حكم الرئيس السابق معمر القذافي. 

ومن ثم، يعاني الليبيون المقيمون في تلك المنطقة من تواصل غياب السلطات المركزية ونقص السيولة النقدية وغياب الخدمات الأساسية وتردي البنية التحتية وغياب الخدمات الصحية، إذ تتجه إلى الفوضى لاسيما مع تفشي جماعات التهريب وازدياد الهجرة الإفريقية غير النظامية وتنامي نفوذ الميلشيات المسلحة وإعادة تموضع الجماعات المتطرفة بهدف السيطرة على هذه المناطق المتاخمة للساحل والصحراء، والتي تعد أحد الملاذات الآمنة لهذه الجماعات وتلك التنظيمات الإرهابية.

خلافات مركبة: 

5- تعقيد التوصل إلى تسوية للصراعات المسلحة: إذ أن تعدد مراكز السلطة في عدة بؤر صراعية بالمنطقة العربية يعرقل حل أو تسوية أو حتى تهدئة تلك الصراعات، وهو ما تشير إليه تعقيدات الأزمة السورية بعد التوغل التركي "الثالث" في سوريا لاسيما بعد تحذير وزارة الدفاع الروسية من "الفراغ الأمني" في شمال شرقى سوريا، والخلاف بين طهران وأنقرة بشأن إقامة قواعد عسكرية تركية شرق الفرات. وتنعكس كل تلك الخلافات بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة على الساحة السورية، فيما يطلق عليه "القوى الضامنة" أى روسيا وإيران وتركيا.

شرعية اللاشرعية:

6- تعزيز شرعية الجماعات الخارجة عن القانون: وذلك في المناطق المهملة تنموياً، وهو ما يشير إلى إخفاق العديد من الحكومات العربية في أداء أدوارها التنموية، سواء على صعيد النمو الاقتصادي أو العدل الاجتماعي، وتكون المحصلة غياب شرعية الإنجاز والأداء، وبالتالي تحضر "شرعية اللاشرعية"، وهو ما يؤدي إلى صعود تأثير الجماعات الأولية التي أصبحت أقوى من الدولة ذاتها، وفقاً لتصور قطاعات ليست بالقليلة من المجتمع لأنها تلبي احتياجاتها، وهو ما تعاني منه بعض المناطق الجنوبية داخل تونس بعد عام 2011، والتي تعد أحد الملفات الرئيسية على أجندة الرئيس قيس سعيّد لاسيما أنه "رجل قانون".

سيادة متعددة:

خلاصة القول، فقدت الحكومات المركزية في عدد من الدول العربية السيطرة على قطاع واسع من التفاعلات السياسية داخل الدولة، وتعددت مراكز القوة الداخلية بصورة غير مسبوقة، أو ما يعرف بالسيادة المتعددة، وهو ما يتوازى مع محورية تأثير الأطراف الخارجية على مفاصل الدول، على نحو يشير إليه الدور الإيراني في كل من لبنان والعراق، التي خرجت قطاعات واسعة من المحتجين للاعتراض على "توحشه".