عودة القومية:

ماذا سيحدث لألمانيا عندما تتفكك أوروبا؟

14 May 2019


عرض: باسم راشد - باحث في العلوم السياسية

تُمثل التطورات المتسارعة في أوروبا تحديات وجودية لتماسك القارة بمؤسساتها المختلفة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي. وتثير تخوفات سيطرة التيار القومي الشعبوي على مؤسسات الحكم في عددٍ من دولها، وتراجع القيم الديمقراطية في ظل دعم إدارة الرئيس "دونالد ترامب" للتيارات اليمينية الأوروبية؛ الكثير من التساؤلات حول مستقبل الدول الأوروبية القائدة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ومدى استمرار التزامها بالمبادئ التي أُسس عليها النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

في هذا الإطار، نشرت دورية "الشئون الخارجية Foreign Affairs" مقالًا للكاتب "روبرت كاجان" (الباحث بمعهد بروكينجز، وأبرز الكتاب الأمريكيين عن مستقبل النظام الدولي) بعنوان: "السؤال الألماني الجديد: ماذا سيحدث عندما تتفكك أوروبا؟"، يطرح فيه تساؤلات عما قد يحدث لألمانيا في حالة تفكك الاتحاد الأوروبي، وزيادة الانقسامات الأوروبية، وهل يمكن أن تعود إلى سابق عهدها القومي؟ أم ستظل متمسكة بالقيم الديمقراطية والهُوية الأوروبية الموحدة؟.

نظامٌ دوليٌّ مُوَاتٍ

يؤكد "كاجان" أن ألمانيا في نسختها الحالية التي تؤسس على قيم الديمقراطية، والمحبة للسلام، نشأت في ظل الظروف الخاصة للنظام الدولي الليبرالي الذي أُنشئ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. ويضيف أن قادة الدولة استطاعوا تطوير أنفسهم على مدى عقود في مرحلة ما بعد الحرب. ويشير الباحث إلى أربعة عناصر للنظام الدولي وفَّرت ظروفًا مواتية للألمان لإحداث هذا التطور.

يتمثل العنصر الأول في التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي، الذي وضع حدًّا للأسباب التي زعزعت الاستقرار في أوروبا وأنتجت ثلاثة حروب كبرى في سبعة عقود. ويُشير "كاجان" إلى أن واشنطن مكَّنت جميع الدول من الترحيب بانتعاش ألمانيا الغربية بعد الحرب وإعادة دمج الألمان بالكامل في الاقتصاد الأوروبي والعالمي. ويضيف أن الالتزام الأمريكي ألغى الحاجة إلى تكديس الأسلحة باهظة الثمن من جميع الأطراف، مما سمح لجميع القوى الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا الغربية، بالتركيز أكثر على تعزيز الرخاء والرفاهية الاجتماعية لمواطنيها، والتخلي عن الطموحات الجيوسياسية، مما أدى بدوره إلى تحقيق استقرار سياسي أكبر بكثير. 

ويرتبط العنصر الثاني بالاقتصاد الليبرالي الحر للتجارة الذي أنشأته الولايات المتحدة. ويذكر الباحث أن الاقتصاد الألماني اعتمد دائمًا بشكل كبير على الصادرات، بما مثَّل دافعًا للتوسع الخارجي، أما النظام الجديد فقد ساعد ألمانيا الغربية على الازدهار دون تهديد الآخرين، بل إن المعجزة الاقتصادية التي حققتها في الخمسينيات من القرن المنصرم جعلتها محركًا للنمو الاقتصادي العالمي، ومرساة للرخاء والاستقرار الديمقراطي في أوروبا.

ويضيف "كاجان" في مقاله أن الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية رحَّبت بالنجاح الاقتصادي لألمانيا الغربية حتى عندما جاء على حساب الصناعة الأمريكية. ويذكر في الفترة من عام 1950 إلى عام 1970، توسع الإنتاج الصناعي في أوروبا الغربية بمعدل 7,1% سنويًّا، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5,5% سنويًّا، وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4,4% سنويًّا، متجاوزًا النمو الأمريكي في الفترة نفسها. وبحلول منتصف الستينيات، كانت كل من ألمانيا الغربية واليابان قد تقدمت على واشنطن في عددٍ من الصناعات الرئيسية (السيارات، والصلب، والإلكترونيات الاستهلاكية). 

ويُشير "كاجان" إلى أن قبول الأمريكيين لهذه المنافسة ليس لأنهم كانوا غير أنانيين، لكن لأنهم اعتبروا الاقتصادات الأوروبية واليابانية السليمة أعمدة حيوية للعالم المستقر الذي سعوا إلى دعمه. ومن هذا المنطلق تم تأسيس كلٍّ من نظام التجارة الحرة العالمية، ومؤسسات مثل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، والجماعة الاقتصادية الأوروبية؛ لتحقيق ذلك الاستقرار المنشود. وبحلول ستينيات القرن الماضي كانت ألمانيا الغربية متجذرة بعمق في العالم الليبرالي، وتتمتع بأمن ورفاهية مجتمع منزوع السلاح، وأصبحت الغالبية العظمى من المواطنين ديمقراطيين في الروح وكذلك في الشكل، على عكس الوضع في ألمانيا الشرقية التي كانت خاضعة للاحتلال السوفيتي، حيث مهَّدت فيها النازية الطريق لشكل مختلف من الشمولية والاستبداد.

ويتعلق العنصر الثالث بتصاعد الديمقراطية في أوروبا، بما ساهم في ترسيخ ألمانيا في النظام الليبرالي. فعلى عكس فترة الثلاثينيات التي كانت فيها الديمقراطية الأوروبية مهددة بالانقراض، لم تسهم الديمقراطية الحديثة في تعزيز القوة والازدهار المتبادل فحسب، بل أنتجت شعورًا بالقيم الأوروبية والأطلسية المشتركة، وهو أمر لم يكن موجودًا قبل عام 1945. ويرى "كاجان" أن هذا الشعور ازدهر بعد سقوط حائط برلين عام 1989، وتأسيس الاتحاد الأوروبي عام 1993، حيث ساهم انتشار الديمقراطية في أوروبا، وتعزيز التكامل الاقتصادي، في خلق هُوية أوروبية جديدة التزمت بها ألمانيا وتخلت عن جزء من استقلاليتها للاندماج فيها.

ويرتبط العنصر الرابع بقدرة المؤسسات عبر الوطنية، مثل حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو) والاتحاد الأوروبي، على قمع المشاعر والطموحات القومية داخل ألمانيا، بما منع عودة الممارسات والأفكار القديمة إلى الدولة مرة أخرى. ويضيف "كاجان" أن برلين قد ساهمت في تعزيز هذه الرؤية الأوروبية المشتركة غير القومية، مما أدى إلى تعزيز الثقة المتبادلة بين دول القارة.

ويذكر "كاجان" في مقاله أن تلك العناصر الأربعة مكَّنت ألمانيا من الهروب من ماضيها العدواني في أوروبا، وساعدتها على الإسهام في تعزيز السلام، والاستقرار، والديمقراطية، داخل القارة الأوروبية.

حدود الالتزام

يثير "كاجان" إشكالية ترتبط بحدود التزام ألمانيا بهذا الشكل الجديد، في وقت يطرح فيه الكثيرون تساؤلات عدة من قبيل: كم من الوقت ستبقى ألمانيا تُنكر طموحات الجيوسياسية التوسعية، ومصالحها "الأنانية" الطبيعية، وفخرها القومي المعتاد؟. ويؤكد أن السؤال نفسه أُثير في اليابان منذ سنوات، وهي القوة الأخرى التي تعرضت للهزيمة في الحرب العالمية الثانية ثم عادت مرة أخرى في إطار النظام الدولي الليبرالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. لكن الباحث يؤكد أن الكثير من اليابانيين قد سئموا من الاعتذار عن ماضيهم، وتعبوا من قمع فخرهم القومي، ومن إخضاع استقلالهم في السياسة الخارجية. ويضيف أن الشيء الوحيد الذي يوقف ذلك هو اعتمادها الاستراتيجي المتواصل على واشنطن لمساعدتها في مواجهة تحدي الصين الصاعدة.

أما الألمان، وفقًا لكاجان، فوجدوا أنفسهم في موقف معاكس؛ إذ ظلوا واعين لماضيهم، ويحذرون من إحياء أي تلميح عن القومية، وفي الوقت ذاته، على عكس اليابان، لم تكن ألمانيا بحاجة إلى حماية الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، إذ لم يكن التزامها بحلف الناتو في السنوات الأخيرة مسألة ضرورة استراتيجية، بل إنه نبع من رغبتها المستمرة في البقاء راسخة داخل أوروبا، لذا سعت إلى طمأنة جيرانها ومواطنيها بأنهم لن يعودوا إلى ماضيهم.

لكن على مر التاريخ، لم يكن هناك مفر من العودة إلى المسألة الألمانية، وقد كانت أزمة منطقة اليورو في عام 2009 فاصلة في ذلك الأمر، حيث سمحت الهيمنة الاقتصادية لبرلين بفرض سياساتها المفضلة لمكافحة الديون على بقية أوروبا، مما جعلها هدفًا لغضب اليونانيين والإيطاليين وغيرهم. كما كان الألمان غاضبين أيضًا ومستائين من اضطرارهم لتمويل الآخرين. ففي خارج الدولة، كان هناك حديث عن "جبهة مشتركة" معادية لألمانيا، وداخلها كان هناك شعور بالضحية، وتم إحياء المخاوف القديمة من التطويق من قبل "الاقتصادات الضعيفة".

وفي المرحلة الحالية تغيرت الأمور مرة أخرى، كما يشير الكاتب، وأصبحت العناصر الأربعة للنظام الدولي تتراجع بشكل تدريجي؛ فالقومية آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء أوروبا، والديمقراطية تتراجع في بعض أجزاء القارة، وتتعرض لضغوط في كل مكان، ونظام التجارة الحرة الدولية يتعرض للهجوم، وعلى رأسه الولايات المتحدة، والضمان الأمني الأمريكي أصبح موضع شك من قبل الرئيس الأمريكي "ترامب" نفسه، وهو ما يثير تخوفات من أن تؤدي هذه الظروف المتغيرة إلى تغيير في سلوك الأوروبيين، بمن فيهم الألمان.

العودة للقومية

يشير "كاجان" إلى أنه حان الوقت للتفكير فيما قد يحدث عندما ينهار النظام الدولي. بالنسبة لألمانيا، من الشرق دخلت حكومات التشيك، والمجر، وبولندا، وسلوفاكيا، مراحل متفاوتة من الاستبداد. ومن الجنوب إيطاليا تحكمها حركات قومية شعبوية لا تلتزم بالليبرالية ولا حتى تدين بالولاء للانضباط الاقتصادي لمنطقة اليورو. ومن الغرب توجد فرنسا التي تواجه اضطربات كبيرة، وعلى بعد خطوة واحدة من الانتصار القومي الشعبوي الذي سيضرب أوروبا كالزلزال، وسيدق المسمار الأخير في نعش الشراكة الفرنسية-الألمانية. بالإضافة إلى التداعيات السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد على استقرار أوروبا وعلى توازن القوى. 

ويؤكد الكاتب أنه في السنوات المقبلة، قد يجد الألمان أنفسهم يعيشون في أوروبا قومية، ومن ثم يثور تساؤل رئيسي مفاده: هل يمكن للألمان في ظل هذه الظروف أن يقاوموا العودة إلى القومية الخاصة بهم؟ خاصة في ظل ما يواجهه السياسيون الألمان من ضغوط للبحث عن مصالح دولتهم في أوروبا، لا سيما مع بحث الجميع عن مصالحهم الخاصة. ولهذا يرى "كاجان" أن الفرصة قد تكون مواتية لاحتمالية صعود حزب قومي يميني مثل البديل من أجل ألمانيا إلى السلطة في المرحلة القادمة.

من ناحية أخرى، ليس من المتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في نبذ القوة العسكرية كأداة للنفوذ الدولي؛ برغم أملهم في أن يتم الحفاظ على الأمن الدولي دون أن يضطروا إلى الإنفاق على التسلح لتولي مسئولية الدفاع عن أنفسهم، خاصة إذا لم تلتزم الولايات المتحدة بالحفاظ على الأمن الأوروبي.

بيد أنه مع استعداد روسيا لاستخدام القوة المسلحة لتحقيق أهدافها، وتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها الخارجية؛ لا يوجد ما يمنع الأوروبيين من العودة إلى سياسات القوة التي هيمنت على قارتهم لآلاف السنين. وإذا انتهى الأمر بباقي دولها إلى اتباع هذا المسار، فسيكون من الصعب على ألمانيا ألا تنضم إليه من أجل الدفاع عن النفس.

دعم أمريكي لتفكك أوروبا

يؤكد "كاجان" أن الرئيس الأمريكي "ترامب" يفعل كل شيء يُساهم في إعادة أوروبا إلى ماضيها؛ إذ إنه يعادي بشكل تام الاتحاد الأوروبي، ويشجع القومية في القارة، وينتقد قادة يمين الوسط ويسار الوسط الأوروبيين، بداية من المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، إلى الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، إلى رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي"، بينما يحتضن قادة اليمين الشعبوي من "فيكتور أوربان" في المجر، و"مارين لوبان" في فرنسا، إلى "ماتيو سالفيني" في إيطاليا، و"ياروسلاف كاتشينسكي" في بولندا.

إلى جانب ذلك، انقلبت إدارة "ترامب" على نظام التجارة الحرة العالمي الذي يدعم الاستقرار السياسي الأوروبي والألماني. ويُشير "كاجان" إلى أن الرئيس الأمريكي استهدف ألمانيا تحديدًا، حينما اشتكى من فائضها التجاري الكبير، وهدد بحرب جمركية ضد السيارات الألمانية، بالإضافة إلى الشكوك المتزايدة حول ضمان الأمن الأمريكي الذي أثاره عمدًا، إلى جانب المطالبة بزيادة الإنفاق الدفاعي في لندن وبقية أوروبا. وكل هذا من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الاقتصاد الألماني والاقتصادات الأوروبية خصوصًا الضعيفة منها مثل اليونان وإيطاليا، وعودة القومية الشعبوية، وعدم الاستقرار السياسي.

ولمواجهة تلك العاصفة التي تهدد بقاء أوروبا موحدة، قد يكون من الجيد الاعتماد على الشعب الألماني لإنقاذ القارة وكذلك العالم من هذا المصير. لكن إن لم يستطيعوا ذلك، فقد يكون الانهيار الأوروبي قريبًا، ليس في تفكك الاتحاد فحسب، بل في سيادة القومية من جديد، والعودة إلى الانقسام الأوروبي، وعدم الاستقرار الذي أدى إلى الحروب العالمية.

المصدر: 

Robert Kagan, “The New German Question: What Happens When Europe Comes Apart?”, Foreign Affairs, Vol 98, issue. 3, May/June 2019, p.108-120.