السودان.. ماذا حدث؟

22 April 2019


عندما التقيت بالمفكر والسياسي السوداني منصور خالد في مدينة أصيلة المغربية قبل سنتين على هامش مهرجانها السنوي، تبين لي من حديثه أن الثورة أصبح لا محيد عنها في السودان لتغيير وضع مسدود لم يعد من الممكن استمراره. منصور خالد هو أحد ثلاثة سياسيين بارزين هيمنوا على الساحة السياسية السودانية خلال خمسين سنة الأخيرة، والآخران المعنيان هما الصادق المهدي وحسن الترابي الذي رحل عام 2016. تزامنت الوجوه الثلاثة في الجامعة، وتداخل مسارها في مراحل متعددة من تاريخ السودان المعاصر، وإن اختلفت التوجهات والخلفيات.

أما منصور خالد فينتمي إلى مدرسة اليسار التي كانت في عقود الاستقلال الأولى نشطةً حيةً قبل أن ينقلب عليها الرئيس الأسبق جعفر النميري، فيعدم قادتها سنة 1971. وبعد أن تولى حقيبة وزارة الخارجية فترة من الزمن، انضم إلى «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، الذراع السياسي للتيار الجنوبي بزعامة جون قرنق، قبل انفصال جنوب السودان عام 2011. لم يكن منصور خالد من دعاة الانفصال، بل كان يدعو إلى الدولة الفيدرالية الاتحادية التي يعتبرها الخيار الأمثل لإدارة التنوع الإثني والديني في السودان. وقد بلور هذه الأطروحة في كتابه «النخبة السودانية وإدمان الفشل»، مبيناً أن التجربة السودانية الحديثة قامت على خلل جوهري في الهندسة السياسية للدولة، بتكريس سيطرة المركز العربي الإسلامي على الأطراف الجنوبية والغربية، كما ينعكس في الأيديولوجيات الشمولية القومية والدينية (شهوة إصلاح الكون حسب عبارته)، على حساب مشروع بناء دولة وطنية مندمجة على غرار التجربة الهندية التي شكلت النموذج الذي استند له قادة الحركة الوطنية السودانية قبل انقضاض العسكر وحلفائهم من القوميين العروبيين و«الإخوان» على السلطة.

ومن هنا نظرة خالد منصور السلبية لممثليْ الإسلام الأهلي الطائفي (الصادق المهدي) والإسلام السياسي الحركي (حسن الترابي). أما أولهما فهو سليل طائفة الأنصار العريقة التي قادت مقاومة السيطرة العثمانية والاستعمار البريطاني، وقد قاد الصادق المهدي نظام الحكم في الفترتين الديمقراطيتين القصيرتين اللتين مرت بهما البلاد في ستينيات وثمانينات القرن الماضي قبل أن يصطدم بنظام البشير ويعرف تجربة السجن والمنفى في عهده.

ورغم اختلاف مسار واتجاهات المهدي ومنصور خالد، إلا أنهما يلتقيان في سعة الثقافة وجرأة الموقف، وإن كان الصادق المهدي يتبنى خط الإسلام الأهلي الصوفي إلا أنه يرفض فكرة الدولة الدينية ويرى أن الإسلام لم يضع نظاماً سياسياً للحكم كما يدعي «الإخوان»، بل كرس قيماً ومبادئ عامة لضبط السلوك الفردي والجماعي، ومن هنا دفاعه عن أطروحة الدولة المدنية الديمقراطية ولو من موقع محافظ دينياً واجتماعياً.

أما الترابي الذي ينحدر من المدرسة الإخوانية، وقد قاد منذ الستينيات أحزابها الأساسية المتتالية، فقد مال، رغم رفعه للشعارات الديمقراطية التعددية، إلى التحالف مع الأنظمة العسكرية، بدءاً بالنميري الذي عينه وزيراً للخارجية وأوكل إليه مهمة «ملاءمة القوانين مع الشريعة الإسلامية»، إلى البشير الذي قاد معه انقلاب 1989. وقد كان الترابي الزعيم الفعلي للحركة التي سميت «ثورة الإنقاذ» قبل أن يفترق مسار الرجلين في نهاية التسعينيات ويتقاسما الخط الإخواني الذي انقلب على التجربة الديمقراطية السودانية الوليدة، وأدى إلى تفكيك وحدة الدولة وتعريض العديد من مكوناتها الاجتماعية للقمع والإبادة.

ومع أن الأطراف الثلاثة (اليسار والإسلام الأهلي والإسلام السياسي في فرعه الموروث عن جماعة الترابي) التقت في الحركية الأخيرة التي أسقطت نظام البشير، إلا أنه من البديهي أن التيارات المدنية التي كانت فاعلة في مسار التغيير المدعوم من الجيش، لا تنتمي إلى أي من هذه الاتجاهات الثلاثة، بما يولد معادلة جديدة غير مسبوقة في الساحة السودانية.

لقد استفادت الانتفاضة السودانية الأخيرة من تجارب «الربيع العربي» برفض استغلال التيار الإخواني لعملية التحول، مع العلم بأن نظام البشير نفسه كان إخوانيا من حيث المشروع السياسي والقيادات الحاكمة، كما استفادت من تجارب الانتقال الديمقراطي السابقة في السودان التي أعادت إنتاج فشل النخب الاجتماعية المهيمنة، حسب عبارات منصور خالد، ومن المؤمل أن تفضي إلى الاستقرار السياسي بالحفاظ على تحالف القوى المدنية والقيادة العسكرية الجديدة، لتجنيب البلاد مآلات البلدان التي سقطت في فخ التحول غير المحسوب، ومن هنا القرار السعودي الإماراتي الحكيم بتشجيع التحول ودعم البلاد في هذه اللحظات الحرجة.

كان الأديب السوداني المرموق المرحوم الطيب صالح يقول لي دوما: لم يمر على السودان أسوأ حكم من عهد من تسموا بثوار الإنقاذ الذين دمروا النسيج الأهلي للبلاد وأفسدوا علاقة السودان بالجار القريب والبعيد، وأسوأ من ذلك كله أنهم غيروا من وجه الإسلام السوداني الإنساني المنفتح والمتسامح فجعلوا منه عقيدة هيمنة وتسلطاً واستغلالا.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد