مأزق "هواوي":

أبعاد الصراع الصيني- الأمريكي على الهيمنة التكنولوجية

06 December 2018


اعتقلت السلطات الكندية "منج وانزو" المديرة المالية لشركة هواوي عملاق صناعة الاتصالات الصينية في ديسمبر 2018 بناءً على طلب من السلطات الأمريكية. وذكرت وسائل إعلام أمريكية أن الولايات المتحدة تحقق في انتهاكات محتملة من قبل شركة هواوي للعقوبات الأمريكية ضد إيران، فدائمًا ما يتهم المشرعون الأمريكيون الشركة بأنها تشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، معتبرين أن التكنولوجيا التي تستخدمها يمكن أن توظَّف للتجسس من قبل الحكومة الصينية. ويأتي ذلك في ظل الصراع من أجل الهيمنة على التكنولوجيات الفائقة بين الصين التي تسعى لتقود العالم في مجال التكنولوجيات فائقة التقدم وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول الحفاظ على مكانتها في مواجهة الصين.

وتُعتبر شركة هواوي أكبر منتج لمعدات الاتصالات في العالم، وثالث أكبر مورّد للهواتف الذكية، وصاحبة عدد هائل من مكاتب البحث والتطوير، ومالكة لعشرات آلاف براءات الاختراع. فهي تعتبر أكبر شركة صينية لإنتاج معدات الاتصالات في العالم، وتنتشر منتجاتها في أكثر من 170 دولة حول العالم، وحتى يوم 31 من شهر يناير لعام 2017، استطاعت هواوي الحصول على 74.307 براءة اختراع، والتقديم على 64.091 براءة اختراع في الصين و48.758 براءة اختراع خارج الصين، كما أصبحت هواوي الشركة الصينية الوحيدة التي اندرجت علامتها التجارية في تصنيف "فوربس" السنوي لأعلى العلامات التجارية قيمة بالعالم في عام 2018 للعام الثاني على التوالي، حيث بلغت قيمة علامتها التجارية 8.4 مليارات دولار أمريكي. ولذلك قد يكون توقيف المديرة المالية للشركة وابنة مالكها "منج وانزو" حلقة في سلسلة التصعيد الأمريكي ضد الصين.

طموح صيني للهيمنة: 

قرر الرئيس الصيني "شي جين بينج" منذ انتخابه في مارس 2013 تغيير العقيدة الصناعية للصين لكي تتخلص من تبعيتها التكنولوجية للغرب، وتصبح إحدى الدول الكبرى في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ومن هنا جاءت استراتيجية "صنع في الصين 2025" التي يهدف من خلالها لتطوير القطاع الصناعي بالجهود الذاتية من عدة جوانب تركز في مجملها على الصناعات المتقدمة والتكنولوجية العالية (هاي تك) وليس الصناعات الرخيصة كثيفة الاستهلاك للطاقة، فاهتمت الصين بصناعة الفضاء وما يرتبط بها من أقمار صناعية وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، وكذلك اهتمت بصناعة أعماق البحار، وصناعة أشباه الموصلات، وتطبيقات الواقع المعزز، والروبوتات والمركبات الآلية، والطاقة النووية. وزادت من اهتمامها بمجال التعديل الوارثي الجيني، والخلايا الجذعية الجنينية، والطب الحيوي، ودعمت الشركات التكنولوجية الصينية الكبرى مثل: Baidu, Alibaba, Tencent, ZTE, WeChat، لتنافس الشركات الأمريكية الكبرى مثل: Google, Facebook, Apple, Amazon.

وإدراكًا لأهمية الذكاء الاصطناعي، أطلقت الصين استراتيجية شاملة في يوليو 2017 تتناول بالتحديد الأهداف المرجو تحقيقها في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي تشمل: رقائق معالجة الشبكة العصبية الاصطناعية، والروبوتات الذكية، والمركبات الآلية، والتشخيص الطبي الذكي، والطائرات بدون طيار ذكي، والترجمة الآلية. وفي نوفمبر 2017، أعلن وزير العلوم والتكنولوجيا الصيني أنه شكّل ما سمّاه "فريق الأحلام" من كبرى الشركات التكنولوجية الصينية (Baidu, Alibaba, Tencent) لقيادة الدولة في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد بدأت هذه الشركات بالفعل في إنشاء منصات مفتوحة المصدر لجمع أكبر قدر من المعلومات التي يمكن توظيفها في تعلم الآلات، حيث تخصص شركة "علي بابا" أكثر من 15 مليار دولار لعمليات البحث والتطوير، كما توسّع شركة هواوي من عمليات الاستثمار في الجيل الخامس من الإنترنت.

وفضلًا عن البيانات العملاقة التي تملكها الصين، هناك عدد آخر من المميزات التي تضمن لها السبق في مجال الذكاء الاصطناعي، فهي تمتلك القوة الحاسوبية والمهندسين الأكْفاء، وتدفع الشركات دفعًا اضطراريًّا للاستثمار في التقنيات الذكية، مما أهل الصين لكي تنشئ نظم ذكاء اصطناعي تُحكم بها قبضتها على جميع الأفراد. فمثلًا قام رجل بسرقة كمية من البطاطا تبلغ قيمتها 17 ألف دولار، ثم حضَر حفلة في مايو الماضي في مدينة جياشينج، وكان في الحفلة أكثر من 17 ألف مدعو، وعلى الرغم من كثرة العدد فقد تمكنت خوارزميات الذكاء الاصطناعي من كشفه بمطابقة صورته الموجودة في لقطات الكاميرات الأمنية بصورته الموجودة في قاعدة بيانات أهم المجرمين المطلوبين للعدالة، وانتهى هذا الأمر باعتقاله.

وفي إطار سعي الصين لتحقيق هيمنتها في مجالات التكنولوجيا الفائقة أو المتقدمة خلال السنوات القادمة، اهتمت بإرسال الطلاب الصينيين لدراسة المواد العلمية المرتبطة بهذه التقنيات في الجامعات الأوروبية والأمريكية تحديدًا، حيث تعتبر الصين أكبر مُصدّر للطلاب المبتعثين في الخارج بعدد يتجاوز 600 ألف طالب، كما قامت بإنشاء أكثر من 4200 ورشة إنتاج ابتكارية، وأكثر من 3 آلاف حاضنة تكنولوجية، وأكثر من 400 مسرعة أعمال، وأكثر من 150 منطقة تنمية صناعية فائقة التكنولوجيا بأنحاء البلاد. ووفرت بيئة الابتكار خدمات لنحو 400 ألف شركة صغيرة ومتوسطة في مجال العلوم والتكنولوجيا. كما زاد الإنفاق الصيني في مجال التكنولوجيا المتقدمة من 9.9 مليارات دولار عام 2015 إلى 15 مليار دولار في 2016 إلى 21 مليار عام 2017.

وهو ما قد يدعمها في مواجهة الاتهامات التي تدعي بأن الصين تحقق التنمية عبر سرقة حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وتقليد المنتجات الغربية داخل حدودها وإعادة تصديرها، وشن الهجمات السيبرانية لسرقة التصميمات والمعلومات وخطط التسويق الخاصة بالصناعات الاستراتيجية، حيث أن بكين تتجه إلى إنشاء منظومة حقيقية ومتكاملة للاقتصاد والصناعة الوطنية تحقق مبادئ الابتكار والتنوع والاستدامة.

إجراءات واشنطن المضادة: 

تزايدت التخوفات الأمريكية من تصاعد هيمنة الصين على التكنولوجيات المتقدمة مما يهدد واشنطن على المستوي الاقتصادي والعسكري، فقد أصدرت وزارة التجارة الأمريكية قرارًا بمنع شركتي هواوي وZTE الصينيتين من شراء معالجات الهواتف الذكية والمحمولة من شركة "كوالكوم" الأمريكية عملاق صناعة الرقائق الإلكترونية المتخصصة في تكنولوجيا نظم الاتصالات على خلفية مزاعم بانتهاكها لوائح إدارة التصدير الأمريكية وبيع منتجات لإيران. وأيضًا منع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" شركة "برودكوم ليميتد" السنغافورية من محاولتها الاستحواذ على شركة "كوالكوم" في صفقة تاريخية تُقدر بـ142 مليار دولار أمريكي على خلفية اتهامات بإضعاف المنافسة الأمريكية لصالح الصين. 

كما تسعى إدارة "ترامب" أيضًا إلى فرض قيود على الشركات التي بها نسبة مساهمة صينية تتجاوز 25% والتي تسعى للاستثمار أو حتى شراء تكنولوجيات أمريكية متقدمة في مجالات محددة معظمها يتعلق بالأمن القومي، مثل صناعة الشرائح الدقيقة والتشفير، فضلًا عن الذكاء الاصطناعي والروبوتكس. ولذلك ينظر بعض المحللين إلى أن تنامي القدرات الصينية التكنولوجية خاصة في هذه المجالات سيزيد التوتر بين البلدين، لا سيما ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، وذلك لأن له تطبيقات عسكرية ومدنية أيضًا من شأنها أن تُحدث ثورة في المجالين.

ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل أيضًا منعت إدارة "ترامب" الطلاب الصينيين الذين يدرسون مجالات لها علاقة بالتكنولوجيا من الحصول على فيزا أكثر من عام واحد، حيث صرح المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية بأن "كل قرار خاص بإصدار فيزا هو قرار متعلق بالأمن القومي الأمريكي"، كما أنه من المتوقع أن يتم تعطيل إصدار التأشيرة الأمريكية عدة أشهر إذا كان طالبُ التأشيرة الصيني مديرًا أو باحثًا في بعض الكيانات المحددة المتعلقة بالتكنولوجيا.

وفي هذا السياق  دعا وزير الدفاع الأمريكي إلى مزيدٍ من الإنفاق في مجال الذكاء الاصطناعي خشية الطموح الصيني، بما في ذلك المشروعات التي تعمل عليها وحدة الابتكار التجريبية التابعة لوزارة الدفاع. وطالب الحكومة الأمريكية بتدعيم علاقاتها مع الشركات التكنولوجية، خاصة تلك التي تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي، بل تصاعدت بعض المقترحات بمنع استيراد أي أجهزة من هواوي أو zte ومنع التعامل مع أي متعاقد خارجي له تعاملات مع هذه الشركات خشية التعرض للاختراق الصيني وتهديد الأمن القومي الأمريكي.

تمدد الصراع إلى أوروبا:

لا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية، فأوروبا أيضًا تقع ضحية لخطة الصين 2025، فإن فشلت الصين في نقل التكنولوجيا الغربية إلى حدودها، فإنها تستطيع شراء الشركات التكنولوجية الكبرى ونقل أسرارها، وهو ما حدث بالفعل في أوروبا. فمن خلال تحليل بيانات 678 صفقة تمت بالفعل، أو لا تزال قيد التنفيذ، في 30 دولة أوروبية في 2008-2018، خلُصت بلومبيرج إلى أن ألمانيا -على الرغم من نداءات برلين- تأتي في المرتبة الثانية بعد بريطانيا. فقد أبرمت الشركات الألمانية، في العقد الأخير، 225 صفقة مع الشركاء الصينيين بقيمة إجمالية 20.33 مليار دولار، والبريطانيون أبرموا 227 صفقة. وبشكل عام، فإن أكثر من نصف استثمارات الصين تتوزع على أكبر خمسة اقتصادات في العالم القديم، كما أُضرت شركات مثل "سيمنز" و"كاواساكي" و"آلستوم" لمنح الصين أسرارها لتفوز بعقود في شبكة النقل السريع الصينية، وهو الأمر الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى الموافقة على اقتراح للمفوضية الأوروبية يقضي بإقامة "إطار" أوروبي يتيح فرض رقابة في الاتحاد الأوروبي على الاستثمارات الأجنبية خصوصًا الصينية منها.

وفي النهاية، فإن الصراع الصيني مع الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال في غير صالحها، فرغم طموح بكين والإمكانيات المسخرة لها، إلا أن قطاع التصنيع الصيني ما زال يعتمد على توسيع الحجم، فلم يتحقق بعد التحول من الاعتماد على توسيع الحجم إلى الاعتماد على رفع الجودة، وما زالت هناك فجوة واسعة بين قطاع التصنيع الصيني مقارنةً مع الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا، في مجالات رفع الجودة، وزيادة العائد، وتحسين الهيكل، والتطور المستدام، ولكن السنوات القليلة القادمة قد تشهد تغير موازين القوى لصالح الصين.