إخضاع الخصوم:

"الحروب السياسية".. تغيرات إستراتيجية إرغام الدول وقت السلم

09 July 2018


عرض: محمد محمود السيد - باحث متخصص في الشئون العربية

تطورت أساليب الحروب وأدواتها عبر التاريخ، فكانت تغدو في كل مرحلة تاريخية أكثر تعقيدًا من حيث الأدوات، وأكثر فتكًا بحيوات البشر. وقد كان الشغل الشاغل للإنسان هو كيف يخوض حربًا ينتصر فيها، بعد أن يُوقِع أكبر قدرٍ من الخسائر في صفوف العدو، ويخرج هو بأقل خسائر ممكنة. وهو الأمر الذي انتهى في نهاية المطاف بظهور ما يُسمى "الحروب السياسية".

وفي هذا الشأن، أصدرت مؤسسة "راند" الأمريكية للأبحاث عام 2018، كتابًا بعنوان: "الحروب السياسية الحديثة: الممارسات الحالية والاستجابات المحتملة"، قام بإعداده مجموعة من الباحثين. ويتضمن مراجعة تاريخية لتجربة الولايات المتحدة مع الحروب السياسية، وتقييمًا جادًّا لبعض دراسات الحالة التي استُخدمت فيها بشكل واسع أدوات الحروب السياسية. ويقدم المؤلفون توصيات للحكومة الأمريكية من أجل تطوير قدراتها الاستراتيجية على ردع تهديدات أمنها القومي، ومواجهة الحروب السياسية التي تُثار ضدها.

مفهوم "الحروب السياسية":

يركز الكتاب على تحليل ظاهرة الحروب، كممارسة سياسية، تقوم بها الدولة والفواعل السياسية الأخرى من غير الدول. وينطلق من تعريف الدبلوماسي الأمريكي "جورج كينان" في عام 1948 مع بداية الحرب الباردة لمصطلح "الحرب السياسية"، حيث عرّفها بأنها "توظيف كافة الوسائل -خلال وقت السلم- لتحقيق الأهداف الوطنية للدولة، من خلال عمليات علنية وسرية، تتراوح بين إدارة التحالفات السياسية واتخاذ التدابير الاقتصادية، وصولًا إلى تشجيع عناصر المعارضة السرية في الدول المعادية".

ويرى المؤلفون أن الحرب السياسية ليست سوى مصطلح واحد من بين عدة مصطلحات تصف حالات الصراع التي لا تدخل حيز الحروب التقليدية. فالمحللون الصينيون استخدموا مصطلح "الحرب غير المقيدة"، أمّا الروس فقد تداولوا مسمى "القوة الناعمة" و"حرب الجيل الجديد"، أمّا الولايات المتحدة فقد أسسّت لعدد من المصطلحات، منها: "نزاعات المنطقة الرمادية" و"الحرب الهجينة" و"الحرب غير المتماثلة" و"الحرب غير النظامية".

وكان المصطلح الأخير هو الذي تم اعتماده في العقيدة العسكرية الأمريكية من قبل وزارة الدفاع، والغرض الأساسي من طرح هذه التسميات الجديدة، هو التركيز والتأكيد على العناصر غير العسكرية وغير القاتلة لهذا الشكل من أشكال الحروب.

بالطبع يمكن استخدام مثل هذه العناصر في الحروب التقليدية العادية، لكن التركيز عليها يسمح لنا بالكشف عن قدرات صناع القرار على افتعال الصراعات وإضعاف الخصوم وزعزعة استقرارهم، وأحيانًا تعطيلهم، وخلق عواقب أكثر دراماتيكية، مثل ضم روسيا "شبه جزيرة القرم" بشكل سريع ودون اللجوء إلى حرب شاملة.

الحروب السياسية الأمريكية:

يشير الكتاب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مارست الحروب السياسية في وقتٍ مبكر من تاريخ تأسيسها، وحتى قبل التأسيس، ولكنها أصبحت رائجة خلال حقبة الحرب الباردة، حيث استخدمت واشنطن مجموعة واسعة من التدابير السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، وذلك من خلال عدد من المؤسسات، مثل: وكالة الولايات المتحدة للمعلومات USIA، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، ووزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات المركزية.

ومن بين التدابير التي استخدمتها الولايات المتحدة في محاربة الشيوعية، كانت الجهود الاجتماعية، حيث تم دعم عدد من المؤلفين والفنانين والمجلات، بالإضافة إلى إذاعة "صوت أمريكا". وكذلك تدابير اقتصادية؛ شملت تقديم مساعدات طويلة الأمد للدول والأحزاب السياسية والنقابات والتنظيمات الأخرى. ناهيك عن التدابير السرية التي شملت عمليات اغتيال، والتي صارت مقيدة بعد ذلك من قبل الكنيسة ولجنة تحقيقات "بايك". وبسبب هذه التحقيقات، أصدر الرئيس جيرالد فورد عام 1976 قرارًا يحظر على أي مؤسسة أمريكية القيام بأي نوع من أنوع الاغتيالات السياسية، وقد أكدت الأوامر التنفيذية اللاحقة هذا الحظر.

وبعد الحرب الباردة، تم تفكيك العديد من المؤسسات الأمريكية، مثل وكالة المعلومات USIA، وتم تخفيض التمويل المالي والبشري لكل من وزارة الخارجية ووكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ولكن في أواخر التسعينيات، تم بذل جهود لإعادة إحياء بعض هذه التدابير، من حيث الإبقاء على الإذاعات والتليفزيونات الأمريكية في الخارج، وتطوير نموذج جديد للديموقراطية وبرامج اقتصادية عبر "الصندوق الوطني للديمقراطية NED" و"مؤسسة تحدي الألفية MCC".

حروب الجيل الجديد: 

تناول الكتاب كيف استخدمت روسيا أدوات الحرب السياسية، وهو ما ظهر جليًّا في مواجهة دول البلطيق بعد حادث "الجندي البرونزي" عام 2007 (هي الأزمة التي جاءت عقب إعلان الولايات المتحدة عن نيتها نشر أجزاء من نظام دفاعها الصاروخي في كل من جمهوريتي التشيك وبولندا، وبدأت الأزمة فعليًّا عندما تمت إزالة النصب التذكاري للجندي السوفيتي الواقع في قلب العاصمة الأستونية "تالين‏"،‏ والذي يمثل ذكرى مشاركة القوات السوفيتية في الحرب العالمية الثانية).

ويشير إلى أن روسيا تؤكد أن أنشطتها كانت دفاعية بامتياز، وجاءت كرد فعل لممارسات الولايات المتحدة. فهي ترى أن الأنشطة الأمريكية، سواء التي تتعلق بتعزيز الديمقراطية في بعض أنحاء العالم، أو دعم المجتمع المدني ووسائل الإعلام المفتوحة، ما هي إلا أدوات للحرب السياسية التي تهدد موسكو في كثير من الأحيان. ويُضيف الكتاب أن "حروب الجيل الجديد" بالنسبة لروسيا تعتمد بشكل أساسي على فرض النفوذ الاقتصادي، واستخدام مفهوم الوكالات الاجتماعية، واختراق وسائل الإعلام. وأن موسكو استثمرت بكثافة في الدعاية كإحدى أدوات الحرب السياسية، ولكن ليس عن طريق إقناع الخصوم والمحايدين بوجهة نظرها، بل عن طريق عمليات التشويش والتضليل المعلوماتي والإعلامي.

فخلال الأزمة الأستونية عام 2007، اعتمدت روسيا على السياسة الانتهازية بدلًا من نهج "حروب الجيل الجديد". وبعبارة أخرى، استخدمت روسيا التدابير الدعائية الموجهة ضد خصومها، ثم ما لبثت أن استغلت كافة أدوات الحرب السياسية التي تمتلكها في هذه المواجهة.

الحروب بالوكالة:

وعن الأساليب الأخرى للحرب السياسية، يشير الكتاب إلى استخدام إيران مجموعة واسعة من الأدوات دون اللجوء للحروب التقليدية وذلك لتحقيق أهدافها السياسية الإقليمية. ويشير إلى أن تصريحات كبار المسئولين هناك توثِّق لأبرز ملامح التوجهات الرسمية الإيرانية فيما يتعلق بأدوات إدارة معاركها الإقليمية.

وبينما تركز الكثير من الأدبيات السياسية على دراسة مؤسسات الحرب في إيران، كالحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، فإن الكتاب يتناول تفصيلًا مضمون البرامج السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية التي تستخدمها طهران في مدّ نفوذها وشراكاتها حول العالم. وتناول أيضًا تفاصيل تطوير إيران لميليشياتها في العراق وسوريا، لتصبح بمثابة قنوات للتأثير الديني والسياسي والعسكري.

وقد توصل المؤلفون إلى أن استراتيجية "القوة الناعمة" الإيرانية ترتكز بشكل كبير على التأثير الثقافي والسياسي والديني، كرافعات رئيسية وقوية. وهي تستخدم مداخل مختلفة للتأثير على مختلف الفئات، سواء كانوا شيعة أو سنة، أو عربًا أو كُردًا. وأن طهران تستخدم شبكة عالمية من المنظمات الثقافية والإعلامية ذات التأثير الواسع، وتقوم بدعمهم ماديًّا. ويعتبر "فيلق القدس" جزءًا من هذه الشبكة.

وتقوم إيران بتوظيف ميليشياتها العسكرية على مرحلتين: الأولى من خلال دفعهم إلى حروب بالوكالة في جبهات عسكرية لتحقيق أهداف سياسية، وبعد تثبيت أقدام هذه الميليشيات في ساحات المعركة، تأتي المرحلة الثانية، وهي منح صفة الديمومة لتواجد هذه الميليشيات في تلك الساحات، عن طريق عمليات إحلال وتجديد دائمة في صفوفها. وأن استخدام طهران لوكلاء عرب في سوريا (الميليشيات العراقية والقوات شبه العسكرية التابعة لحزب الله) له نفس أهمية التدخل العسكري المباشر بالنسبة لها.

فاعلية وسائل التواصل الاجتماعي:

اكتسب تنظيم داعش شهرة واسعة بسبب ممارساته الوحشية وقدرته على إدارة المناورات العسكرية. ومع ذلك، فقد تميز أيضًا بالفطنة والابتكار في استخدام أدوات وتدابير الحروب غير العسكرية، بما في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعية (للمساهمة في عمليات الدعاية والتجنيد) وتطبيق سياسات وتكتيكات اقتصادية على المناطق المُسيطر عليها، والعمل على تخويف السكان الأصليين من بطش التنظيم. ومن خلال تحليل ما تم العثور عليه من وثائق التنظيم التأسيسية، إضافة إلى تحليل المحتوى الدعائي الذي نشره التنظيم على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، باللغتين العربية والإنجليزية، توصل الكتاب إلى أن إعلان "الخلافة" من قبل التنظيم جاء -في المقام الأول- لتوحيد المقاتلين الإسلاميين المتطرفين تحت راية واحدة، وتعزيز عمليتي الدعاية والتجنيد. وأن التنظيم يجرد المُجندين الجدد من هوياتهم القديمة، بحجة إبعادهم وإنقاذهم من طريق "الضلال".

وبعد أن اعتمد تنظيم داعش على موقع "تويتر" كمنبر رئيسي على شبكة الإنترنت، تم حظر معظم الحسابات التابعة له، ولكن التنظيم امتلك مرونة كبيرة في عملية الاتصالات، وتصدير رسائله الإعلامية، من خلال تنويع مصادر بثه الإعلامي، وعمل نسخ احتياطية من تلك الرسائل والبيانات على أكثر من موقع. ويشير الكتاب إلى أن تنظيم داعش استهدف فئات مختلفة من الجماهير بأنماط مختلفة من الرسائل. ففي رسائله التي تم بثها باللغة العربية، استخدم تعبيرات عنيفة ولغة انفعالية، وهو ما يتغير بشكل جذري في المحتوى الذي كان يقدمه باللغة الإنجليزية، والذي كان أكثر تحفظًا.

خصائص عدة:

من خلال استعراض دراسات الحالة السابقة، ينكشف أن هناك مجموعة من السمات الرئيسية التي تُشكل ظاهرة الحرب السياسية، وكذلك هناك مجموعة من القيود التي تحد من فاعلية أدوات هذه الحرب؛ فهناك بيئات يصعب فيها استخدام تكتيك الحرب السياسية، وهي التي يفتقد فيها الخصم للمصداقية والشعبية، والتي يتمتع فيها المجتمع بالمرونة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.وعلى ذلك يمكن تلخيص أبرز خصائص الحرب السياسية فيما يلي:

1- يمكن لـلفاعلين السياسيين من غير الدول أن يصلوا إلى مستويات غير مسبوقة في ممارسة الحروب السياسية.

2- تستخدم الحروب السياسية كافة عناصر القوة الوطنية.

3- غالبًا ما تعتمد الدول في حروبها السياسية على قوات وأدوات غير مُحددة المصدر أو الجهة.

4- ساحة المعلومات هي واحدة من أبرز معارك الحروب السياسية، والتفوق فيها يمنح صاحبه قدرة متزايدة على حسم الحرب لصالحه.

5- هناك أكثر من تكتيك لإدارة حرب المعلومات، وتتراوح بين التضخيم والتشويش، والإقناع في بعض الأحيان. ولكن يجب أن نعرف أن تقديم الأدلة المقنعة في الوقت المناسب هو أفضل "ترياق" للتضليل.

6- لكي تتمكن الدول -في مرحلة مبكرة- من الكشف عن الحروب السياسية التي تُدار ضدها، يجب أن تستثمر موارد كبيرة في العمليات الاستخباراتية.

7- بالطبع يمكن أن تُولّد الحروب السياسية حزمة من العواقب التي لم يكن من المقصود تحقيقها.

8- غالبًا ما تُفضِّل الدول الكبرى استخدام "النفوذ الاقتصادي" باعتباره أحد أهم أسلحتها في الحروب السياسية.

9- تستغل بعض الدول الأزمات العرقية أو الدينية لإحداث انشقاقات حادة داخل الدولة الخصم، وذلك خلال مراحل الحروب السياسية.

10- غالبًا ما تشغل الحروب السياسية مدى زمنيًّا أطول من الحروب التقليدية، كما يمكن من خلالها أن تُلحق بخصمك آثارًا تدميرية أعمق وبتكلفة أقل.

مواجهة التهديدات: 

لم يكن الكتاب معنيًّا بتحليل وتفصيل المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الوقت الحالي، ولكنه ركز على تحليل المتطلبات الأساسية لاتباع نهج غير عسكري وفعال وغير مُكلِف، قادر -في وقت مبكر- على ردع التهديدات المختلفة، أو منع الصراعات من التصعيد، أو التخفيف من آثارها، وفي بعض الحالات قد يعمل هذا النهج على ردع التهديدات الأولية وهي في مرحلة التشكل.

وتعتبر وزارة الخارجية هي القيادة المعينة بصنع السياسة الخارجية وتمثيل مصالح الولايات المتحدة في الخارج. لذا، ومن المنطقي أنها يجب أن تقود أي جهد حكومي يُبذل لمواجهة تهديد خارجي سياسي أو دبلوماسي، وهي المنوطة أيضًا بالتنسيق بين وكالات صنع القرار الأخرى التي يطلب منها الرئيس الأمريكي الاستشارة، حيث يمتلك موظفو الخارجية معرفة متعمقة بتاريخ البلدان وديناميات عمل أنظمتها السياسية والاقتصادية الحالية، وهو الأمر الذي يفتقده موظفو "مجلس الأمن القومي" الأمريكي، والذي يستحوذ حاليًّا -ومنذ عقدين ماضيين- على قدرٍ كبير من مهام وزارة الخارجية.

وبجانب ضرورة استعادة وزارة الخارجية لدورها التاريخي والتقليدي في مواجهة الحروب السياسية، فقد أشار الكتاب إلى ضرورة تعزيز قدرة الحكومة الأمريكية على العمل المشترك مع الدول الأخرى في مواجهة تحديات الأمن العالمي؛ حيث عمليات التخطيط والتنسيق المشترك مع تلك البلدان التي تتعرض بالفعل للعدوان أو التخريب أو الإكراه أو محاولات زعزعة الاستقرار، وهو ما يمنح فاعلية أكبر لجهود ردع الحروب السياسية.

المصدر 

Linda Robinson, Todd C. Helmus, Raphael S. Cohen, Alireza Nader, Andrew Radin, Madeline Magnuson and Katya Migacheva, “Modern Political Warfare: Current Practices and Possible Responses”, (California: RAND Corporation, 2018)