انتخابات مصيرية:

لمن تصوت تركيا..استمرار الأردوغانية أم عودة الأتاتوركية؟

23 June 2018


تُعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المرتقبة في تركيا جولة مصيرية بالنسبة لعدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية. فعلى الرغم من انحسار التنافس الفعلي بين حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وحزب الشعب الجمهوري بزعامة "محرم إينجه"؛ إلا أن الأحزاب السياسية الأخرى تعتبر الانتخابات معركة بقاء نظرًا لتصاعد احتمالات تراجع تمثيلها السياسي أو استبعادها من المشهد السياسي إذا لم تتمكن من تجاوز حاجز الحصول على 10% من الأصوات، كما تثير هذه الانتخابات عدة قضايا مثيرة للجدل، مثل: الحفاظ على هوية الدولة التركية، وعلاقة الحكومة التركية بالأكراد، ومدى إمكانية استمرار السياسة الإقليمية لتركيا.

ملامح المشهد الانتخابي:

تُشير استطلاعات الرأي التي أعدتها بعض المؤسسات والمراكز البحثية، مثل "متروبول" و"أوبتيمار" و"فورسيت"، إلى أن الانتخابات التشريعية والرئاسية التركية التي تُجرَى في24  يونيو 2018 سوف تشهد عدة تحولات سياسية مهمة، يتمثل أهمها فيما يلي:

1- تصاعد الاستقطاب السياسي: سينحصر التنافس على منصب رئاسة الجمهورية بين مُرشح حزب العدالة والتنمية الرئيس الحالي "رجب طيب أردوغان"، ومنافسه عن حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي "محرم إينجه"، بينما لا يملك مرشحو باقي الأحزاب أية فرصة للفوز، حتى بالوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

وتُشير الاستطلاعات إلى أن "أردوغان" قد يحصل في الجولة الأولى على ما يتراوح بين 45-51 % من مجموع الأصوات، وأن "إينجه" سيحصل على ما يتراوح بين 24-31% من مجموع الأصوات، وأن المعركة الرئاسية فيما لو لم تحسم من الجولة الأولى، فإن كِلا المُرشحين سيسعيان للحصول على أصوات باقي منافسيهم، لا سيما مُرشح حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد "صلاح الدين ديمرطاش"، والمُرشحة اليمينية عن حزب الخير "ميرال أكشنار". 

2- تراجع تمثيل الأكراد: من المتوقع تجاوز حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد عتبة الـ10% من مجموع أصوات الناخبين، والتي يُحددها القانون الانتخابي التُركي كشرط لدخول أي حزب للبرلمان بفارق بسيط، أو سيخسر كامل أصواته بعدم تجاوز تلك العتبة، وأيضًا بفارق بسيط، ويمكن القول إن النتيجة التي سيحصل عليها حزب الشعوب ستشكل فارقًا نوعيًّا في شكل البرلمان التركي، فوصوله للبرلمان يعني أن حزب العدالة والتنمية قد يُحرم من الأغلبية البرلمانية المُريحة، لكن خسارته تعني أن العدالة والتنمية سيستحوذ على كافة المقاعد، وبالتالي قد تتجاوز حصته البرلمانية ثُلثي مجموع أعضاء البرلمان.

3- انتشار التحالفات البراجماتية: دفع تخوف حزب الحركة القومية من عدم قدرته على تجاوز عتبة الـ10 % إلى قيامه بالتحالف مع حزب العدالة والتنمية عبر "تحالف الشعب"، وهو ما قد يُفقد هذا الحزب التقليدي "التاريخي" نصف مقاعده الراهنة (75 مقعدًا). وهو الأمر نفسه الذي قد يطال "حزب الخير" المنشق عن حزب الحركة القومية، فحظوظه في تجاوز هذه العتبة تتطابق مع فرص حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد، لكن مع فارق أن أصواته/مقاعده ستذهب بأغلبيتها لصالح حزب الشعب الجمهوري في حالة إخفاقه في تجاوز 10٪، لأن هذا الأخير يقاسم الحركة القومية النفوذ في المناطق البحرية من تُركيا.

4- انحسار تأثير "الأحزاب الصغيرة": تتوقع استطلاعات الرأي انعدام حظوظ حزب السعادة "الإسلامي" وأحزاب "تركيا المستقلة" و"الوحدة الكبرى" و"الديمقراطي" و"الوطن" التقليدية من دخول الندوة البرلمانية، وأن هذه الأحزاب حتى لو اجتمعت كُلها في تحالفٍ انتخابي واحد فإنها لن تتجاوز الـ5% من مجموع أصوات الناخبين، وأن دخولها في العملية الانتخابية إنما يأتي من باب سعيها لفرض شروطها لو لم ينجح أي من المُرشحين الرئاسيين في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. 

قضايا الانتخابات المرتقبة:

تكشف مراجعة نتائج استطلاعات الرأي عن مدى أهمية الانتخابات التركية الأخيرة، واعتبارها جولة مصيرية لكافة القوى والتيارات السياسية، إذ إن هناك عددًا من القضايا الجوهرية التي سوف تحسمها هذه الانتخابات، ولكُل واحدة منها أدوارٌ وتأثيرات بنيوية على الراهن والمُستقبل المنظور لكامل الحياة العامة التُركية السياسية والاقتصادية والعسكرية، ورُبما حتى على الهوية الأيديولوجية للدولة التُركية، وهو ما يُمكن الإشارة إليه فيما يلي:

1- تشكيل الهوية التركية: ستكون هذه هي المرة الأولى التي سيُتاح فيها لأي زعيمٍ أو تيارٍ سياسي فائز بأن "يُهندس" كامل الحياة العامة والخيارات الاستراتيجية التُركية كما يرغب، فالنِظام الرئاسي واسع الصلاحيات والسُلطات الجديد يحمي الحاكم من كافة أشكال الفروض والحساسيات التي كان يوجبها النِظام البرلماني التُركي التقليدي السابق. فالأحزاب الحاكمة في تُركيا كانت خاضعة تقليديًّا لمنظومة التوافقية البرلمانية، فالبرلمان بسُلطاته الواسعة وتشكيلته المتنوعة ولجانه الموزعة بين الأحزاب المُشكلة للبرلمان، كان يُمثل أداة "مُعيقة" لمنع أي زعيمٍ أو تيارٍ سياسيٍ من إعادة تشكيل القرار الاستراتيجي والهوية الكيانية للدولة التُركية، لا سيما فيما يخص المبادئ الثلاثة ما فوق الدستورية: الجمهورية، والديمقراطية، والعلمانية. 

بيد أن ذلك سيكون شيئًا من الماضي في مرحلة ما بعد هذه الانتخابات، لأسباب دستورية تتعلق بالنِظام الرئاسي شبه المُطلق الذي ستكون عليه تُركيا في المرحلة القادمة، ولضعف المؤسسات والقوى التي كانت تحافظ على ثبات "المبادئ العُليا" للدولة التُركية، وعلى رأسها الجيش والمؤسسة القضائية وتجمُعات نُخب رجال الأعمال.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن فوز "أردوغان" برئاسة الجمهورية يعني أن الطريق أصبح مهيأً أمامه لإكمال مشروعه في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة التُركية، لتكون أقل استقلالية وأكثر مركزية ومُحافظة وارتباطًا به وبحزب العدالة والتنمية الحاكم، وسيركز "أردوغان" على المؤسسات الثلاث التي ما تزال مستعصية عليه بشكل نسبي: القضاء، والتعليم، والمالية، بعدما هيمن بشكل شبه تام على الجيش والإعلام، فمشروع الزعامة "الأردوغانية" يبقى غير مُستقر في ظل الاستقلالية النسبية لمجالس القُضاة والمحكمة الدستورية والمؤسسات التعليمية واتحادات رجال الأعمال والبنك المركزي، ولا يُخفي "أردوغان" هذه التطلعات، بل ويعتبرها جزءًا من برنامجه الانتخابي.

لكنّ ثمة عاملين يُحدِّدان مدى قدرة "أردوغان" على فعل ذلك، يتعلق الأول بإمكانية فوزه في الجولة الأولى أو الثانية من الانتخابات الرئاسية، فالأولى ستمنحه "شرعية" مُضاعفة لأن يفعل ذلك بأسرع وقت مُمكن، والعامل الآخر يتعلق بقدرة حزب العدالة والتنمية على الحصول على الأغلبية البرلمانية المُريحة، سواء بشكل مُنفرد أو عبر التحالف مع حزب الحركة القومية الحليف له، فالبرلمان بالرُغم من تقلص سلطاته يبقى محافظًا على سلطته، خصوصًا في القضايا المالية والعسكرية.

وفي حالة فوز مُرشح حزب الشعب الجمهوري "الأتاتوركي"، بالرُغم من تواضع فرص حدوث ذلك، فإن ذلك لا يعني أن هذه المؤسسات ستستعيد استقلاليتها وحيادها وانفصالها عن بعضها، بل ستخضع هذه المؤسسات لدورتين من التحولات: ستكون الأولى كثيفة لتخليصها من كُل آثار التدخل الذي مارسته الأردوغانية خلال الستة عشر عامًا الماضية، خصوصًا خلال العامين الماضيين بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة. أما المرحلة الثانية فستكون عبر إعادة تشكيلها لتكون أداة لإعادة هيمنة الأيديولوجية والنُخب الأتاتوركية التقليدية من جديد، مثلما كانت على الدوام قبل المرحلة الأردوغانية.

2- صياغة العلاقة مع الأكراد: ستشهد المسألة الكُردية في تُركيا تحولًا جوهريًّا، أيًّا كانت النتيجة التي سيحصل عليه حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد، فإذا حُسمت الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى فإن ذلك يعني أن الزعامة المطلقة التي يسعى إليها "أردوغان" قد تحققت على كامل الحياة العامة التُركية دون أية حاجة للأصوات الكُردية، وهو ما سيدفعه للحفاظ على "عملية السلام" مع حزب العُمال الكُردستاني، والإصلاحات الدستورية التي ستخفف من النزعة القومية للدولة التُركية، أما فيما لو لم تُحسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، فإن "أردوغان" و"مُحرم إينجه" سيبذلان جهدهما للحصول على الأصوات الكُردية، وسُيقدمان الكثير من الوعود الإضافية من أجل الظفر بها.

وثمة شيء مُشابه لذلك تقريبًا على مستوى الانتخابات البرلمانية. فتجاوز حزب الشعوب الديمقراطية عتبةَ الـ10% يعني أنه سيحصل على قُرابة60  مقعدًا برلمانيًّا من أصل 600 مقعد، وهو ما سيحرم حزب العدالة والتنمية من الأغلبية البرلمانية المُريحة، حتى لو تحالف مع حزب الحركة القومية، فالإحصاءات تُشير إلى أن ثلاثة أحزاب فقط قد تدخل البرلمان الجديد، خصوصًا وأن ثمة بعض الشكوك حول إمكانية تجاوز "حزب الخيّر" نفسه عتبة الـ10% البرلمانية. 

وفي حالة عدم تمكن حزب الشعوب الديمقراطية من تجاوز تلك العتبة، فإن ذلك يعني ذهاب جميع مقاعده لحزب العدالة والتنمية، الثاني من حيث الشعبية بعد حزب الشعوب الديمقراطية في المناطق ذات الأغلبية الكُردية في جنوب شرق البِلاد، وفي هذه الحالة قد يتمكن حزب العدالة والتنمية من السيطرة على ثُلثي مقاعد البرلمان التُركي.

3- السياسة الخارجية التركية: ثمة شبكة من العلاقات الاستراتيجية، العسكرية والاقتصادية والسياسية، التي تربط تُركيا بالقوى والمعادلات الإقليمية والدولية، وجميعها مرتبط ومتوقف على قُدرة حزب العدالة والتنمية و"رجب طيب أردوغان" على الحِفاظ على موقعه كحاكم مُطلق، وإلا فإن هذه الشبكة من العلاقات والاستراتيجية التُركية سوف تنهار تمامًا. 

وفي هذا الإطار، تأتي مسألة انخراط تُركيا في الملف السوري على رأس هذه العلاقات الاستراتيجية، فتركيا تُعتبر من أكثر الدول تدخلًا في المسألة السورية، وعلى الرغم من تبدل كثير من خياراتها خلال سنوات الأزمة السورية، فإنها ظلت محافظة على مبدأين رئيسيين، يتعلق الأول بدعم القوى الإسلامية السورية، والثاني بكبح أية تطلعات كُردية سورية، وحيث إن كِلا الخيارين مرتبطان بخيارات حزب العدالة والتنمية، فإن هزيمته ستعني تبدل الموقف الاستراتيجي التُركي من الإسلاميين السوريين، وإعادة قراءته لمستوى الانخراط العسكري التُركي في الداخل السوري، والذي قد يجلب على تُركيا تبعات مُستقبلية غير محسوبة. 

وما ينطبق على سوريا من خيارات استراتيجية تُركية مُستقبلية، قد ينطبق على باقي أشكال الانخراط التُركي في باقي مسائل المنطقة، خصوصًا في دعمها للحركات الإسلامية القريبة من تنظيمات الإخوان المُسلمين، وسعيها للتأثير على الملفات الطائفية والحساسيات الداخلية الخاصة بكُل دولة من دول المنطقة، وهو ما يعود أساسًا إلى أيديولوجيا واستراتيجية حزب العدالة والتنمية، وسقوطه سيعني تراجع مستوى ذلك التدخل التُركي بشكل واضح تمامًا لصالح توجه تُركي نحو أوروبا والقوقاز ووسط آسيا.