أبعاد متكاملة:

دوافع رفض أنقرة انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران

10 May 2018


جاء الموقف التركي الرسمي من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني على لسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية التركية "إبراهيم قالن" الذي اعتبر أن "قرار انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من جانب واحد من الاتفاق النووي مع إيران، سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وخلق صراعات جديدة"، وأشار "قالن" إلى "أن الاتفاق متعدد الأطراف، سيستمر مع بقية الدول الأخرى"، مشددًا على موقف تركيا الحازم المتمثل في معارضة كافة أنواع الأسلحة النووية.

كما أصدرت الخارجية التركية بيانًا وصفت فيه قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران بـ"الخطوة المؤسفة"، إذ قالت الخارجية التركية في بيانها إن "التقرير الدوري للوكالة الدولية للطاقة الذرية أكد أن إيران تتصرف وفقًا للاتفاق، ونعتبر اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية قرارًا بالانسحاب من الاتفاق خطوة مؤسفة"، وأضاف البيان: "تؤكد تركيا أن السبيل الوحيد لحل مسألة برنامج إيران النووي هو الدبلوماسية والمفاوضات، وأنها بذلت جهودها في الماضي بهذا الاتجاه"، واعتبر البيان "أن الاتفاق النووي مع إيران الذي تم التوصل إليه في عام 2015، هو خطوة مهمة اتُّخذت لمنع انتشار الأسلحة النووية، وأظهر أنه يمكن إيجاد حل لأصعب المسائل عبر المفاوضات".

وفي السياق ذاته، فقد صرح وزير الاقتصاد التركي "نهاد زيبكجي" بأن بلاده "ستمضي قدمًا في تجارتها مع إيران حتى النهاية، ولن نقدم كشف حساب لأحد عن هذا".

محدِّدات حاكمة: 

يرجع الرفض التركي للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران لمجموعة من العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية يتمثل أبرزها في الآتي:

1- العوامل السياسية، والتي تتمثل في:

-المخاوف من تعثر مسارات التنسيق التركي-الإيراني تجاه عدد من الملفات الإقليمية بالمنطقة والتي يأتي على رأسها الملف السوري والأكراد، فاستمرار تنسيق تركيا مع إيران في هذا الصدد، خاصة مع استئناف فرض العقوبات الأمريكية عليها، سيؤدي لمزيد من التدهور في العلاقات التركية-الأمريكية التي تعاني بالأساس من توتر شديد، بسبب رفض تركيا دعم الولايات المتحدة لأكراد سوريا، ومناقشة الكونجرس الأمريكي مشروع قانون يحظر بيع السلاح مؤقتًا لتركيا. وهو الأمر ذاته الذي حدث في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 عندما أدى التنسيق التركي-الإيراني في الملف العراقي إلى توتر علاقة تركيا بإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش".

2- العوامل الأمنية، والتي تتعلق بـ:

- خشية تركيا من تنفيذ إيران تهديداتها باستئناف عمليات تخصيب اليورانيوم، وسعيها لامتلاك السلاح النووي، الأمر الذي سيكون له انعكاس سلبيّ على توازنات القوى بالمنطقة، خاصة في حال اتجاه عدد من دول المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لانتهاج الأمر ذاته، والتي هدد ولي عهدها الأمير "محمد بن سلمان" في شهر مارس 2018 خلال حوار له مع برنامج 60 دقيقة على شبكة "سي بي إس" الأمريكية بـ"امتلاك السعودية السلاح النووي إذا طورت إيران قنبلة نووية".

- قلق تركيا من اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل من توجيه ضربة عسكرية -محدودة أو غير محدودة- لإيران لإنهاء أنشطتها النووية، وتخوفها من ردة الفعل الإيرانية، الأمر الذي سيزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، فضلًا عن التداعيات السلبية لهذه الضربة العسكرية على الأمن القومي التركي.

3- العوامل الاقتصادية، والتي ترتبط بـ: 

- تخوف تركيا من تأثر علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران سلبًا مع استئناف الولايات المتحدة فرض العقوبات الاقتصادية عليها، خاصة مع زيادة حجم التبادل التجاري بين الدولتين منذ توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى في عام 2015، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران بنحو مليار دولار في عام 2017 ليبلغ 10.7 مليارات دولار، بعد أن كان 9.6 مليارات دولار في عام 2016 و9.7 مليارات دولار في عام 2015، وهو ما قد يكون له في النهاية تأثير سلبي على الاقتصاد التركي الذي يعاني مؤخرًا من عدة أزمات. 

- قلق تركيا من تأثر إمدادات الغاز الطبيعي ¬¬الإيراني إليها سلبًا في ظل احتمالية أن تشمل العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران قطاع النفط والغاز، فإيران تعد ثاني أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي إلى تركيا بعد روسيا بنحو 11 مليار متر مكعب سنويًّا، ووفقًا لتقديرات شركة "خطوط أنابيب نقل البترول" التركية (BOTAŞ) يستحوذ الغاز الطبيعي على نسبة 35% من إجمالي الطاقة المستهلكة في تركيا، ويتزايد الطلب عليه بمعدل 2.3% سنويًّا في المتوسط في الفترة من عام 2014 وحتى عام 2030، ومن شأن انقطاع أو تعثر إمدادات الغاز الإيراني لتركيا أن تكون له تداعيات سلبية على القطاع الصناعي التركي وجهود أنقرة الرامية إلى توسيع استخدام الغاز الطبيعي في توليد الطاقة الكهربائية.

ولعل تصريحات وزير الاقتصاد التركي "نهاد زيبكجي" بأن تركيا ستمضي قُدمًا في تجارتها مع إيران حتى النهاية ولن نقدم كشف حساب لأحد عن هذا، يعكس مدى القلق التركي الشديد من تأثر علاقاتها الاقتصادية سلبًا مع إيران جراء الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي واستئناف العقوبات الأمريكية على إيران.

مكاسب أنقرة:

رغم مخاوف تركيا من التداعيات السلبية سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية للانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران، إلا أن هذه الخطوة -في حد ذاتها- تحقق لتركيا مجموعة من المكاسب، خاصة على مستوى التنافس التركي-الإيراني في المنطقة، فعودة الصدام الإيراني-الأمريكي واستئناف فرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران قد يكون أحد نتائجه الهامة تقليص النفوذ الإيراني بالمنطقة، إما نتيجة لانشغال إيران بإيجاد مخرج لإنقاذ الاتفاق النووي وتعرضها لضغوط من قبل القوى الأوروبية لمراجعة سياساتها بالمنطقة كشرط لدعم موقفها، أو احتمالية تقليص إيران دعمها المالي والعسكري للجماعات والميليشيات والأنظمة الموالية لها في سوريا والعراق ولبنان واليمن كنتيجة لتأثر اقتصادها سلبًا باستئناف العقوبات الاقتصادية الأمريكية.

وهو الأمر الذي سيعطي في النهاية تركيا فرصة لتعزيز نفوذها في بالمنطقة خاصة في سوريا، فالتنافس بين الدولتين لا يزال قائمًا هناك رغم التنسيق السياسي والأمني بينهما من خلال آلية محادثات الأستانة الثلاثية التي تضم روسيا بجانب تركيا وإيران، وهو ما يظهر بوضوح في سعيهما المستمر للسيطرة على مزيد من الأراضي في سوريا، وقد كانت مطالبة إيران لتركيا مؤخرًا بتسليم مدينة عفرين التي سيطرت عليها في شهر مارس الماضي للنظام السوري ورفض تركيا لذلك أحد أبرز مظاهر استمرار التنافس بين الدولتين.

تحرك مزدوج:

وختامًا، إن التحركات التركية المستقبلية لمواجهة التداعيات السلبية المحتملة عليها جراء الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي، ستتمحور حول اتجاه تركيا للتقارب والتنسيق مع الدول الرافضة للخطوة الأمريكية، والتي يأتي على رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا بالإضافة إلى روسيا والصين التي أبدت رفضها للانسحاب الأمريكي وأعلنت دعمها للاتفاق النووي المُوقَّع مع إيران وضمان تنفيذه، وهو ما قد يُجنب تركيا في النهاية ضغوطًا أمريكية محتملة عليها نتيجة لاستمرار علاقاتها مع إيران خاصة الاقتصادية.