الثغرة الاستراتيجية:

كيف تستفيد إيران من الأزمة الخليجية؟

03 July 2017


مع اندلاع أي أزمة في منطقة الشرق الأوسط، تسود حالة من الترقب انتظاراً لكيفية استغلال النظام الإيراني هذه الأزمة لصالحه، حيث تكرر هذا الأمر كثيراً، خاصةً في ظل علاقة طهران مع عدد من التنظيمات الطائفية في بعض الدول العربية، مثل حزب الله اللبناني، وميليشيا الحوثيين في اليمن. غير أن الوضع يبدو مختلفاً في الأزمة الحالية بين كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر من ناحية وقطر من ناحية أخرى، حيث إن الأزمة هذه المرة على مستوى دولة وليست على مستوى تنظيم أو ميليشيا كما كان يحدث سابقاً، وبالتالي فإن تداعياتها المتوقعة ستكون أكثر حدة، كما تختلف أيضاً من حيث حجم التطورات التي قد تطرأ على المنظومة الخليجية؛ والتي تعد الأكثر تماسكاً عربياً في مواجهة الأطماع الإقليمية لإيران. 

ولعل النقطة الأهم أن الطرفين الإيراني والقطري يمارسان السياسة نفسها، وهي "لعبة التناقضات"، وبالتالي فإن كلاً منهما لا يمكن أن يثق في الآخر، ما يعني أن أي تفاهم قد يحدث بين الدولتين يبقى تكتيكياً لمدة قصيرة تخدمهما أكثر من كونه استراتيجياً بعيد المدى.

برجماتية إيران

ثمة ملحوظتان حول نسق العلاقات الإيرانية – العربية؛ الملحوظة الأولى هي أن إيران تسعى دوماً للاستفادة من أي خلافات تحدث في المنطقة، سواء على مستوى الدول أو أقل (خلافات داخل الدولة العربية الواحدة)، وهذا سببه تعنت بعض الدول والتنظيمات الموجودة داخلها من دون النظر إلى الأمن القومي العربي.

ويشير تاريخ العلاقات العربية – الإيرانية إلى الملحوظة الثانية، وهي أن إيران ليست تلك الدولة التي تقدم خدمات (ولو إنسانية) من دون مقابل، وأحياناً كثيرة يكون هذا المقابل باهظ الثمن، وعادة ما يدفعه النسيج المجتمعي للدولة التي تستعين بها. فعلى سبيل المثال، استعانت القوات الأمريكية بإيران في إسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ولكن كانت النتيجة هي الفوضى الأمنية في المنطقة كلها ما عدا طهران. وبالتالي فالبرجماتية الإيرانية قد تحرق الطرف الآخر إذا ما تطلبت المصلحة السياسية لها ذلك، ولهذا ربما تنخدع دولة قطر بتصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في 14 يونيو 2017، بأن "إيران ستوفر لقطر الاحتياجات الإنسانية اللازمة التي تحتاجها".

فرصة طهران

بذلت إيران خلال أكثر من ثلاثة عقود محاولات عديدة لإضعاف منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتمثل الأزمة الخليجية الحالية فرصة لها لاستكمال هذه المحاولات، ويساعدها على ذلك التقارب القطري معها، على الرغم من أن الدوحة تدرك مخاطر الاستعانة بطهران ضد جيرانها في الخليج والمنطقة.

والشيء الغريب في النافذة القطرية لإيران أنها جاءت مباشرة بعد نجاح الدبلوماسية الخليجية ممثلة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في إقناع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الإدارة الأمريكية، خلال ما يُعرف بـ "قمم الرياض" في شهر مايو الماضي، بالخطر الذي تمثله التدخلات الإيرانية في الشؤون الخليجية والعربية، وبأن سياسات النظام الإيراني هي السبب المباشر للتطرف والإرهاب الذي تعيشه المنطقة.

وقد جاءت تصريحات أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، الداعمة لعلاقة بلاده مع إيران باعتبارها، حسب قوله، "تمثل ثقلاً إقليمياً وإسلامياً لا يمكن تجاهله، وأنه ليس من المصلحة التصعيد معها"، وكأنها "رصاصة الرحمة" على كل الجهود الخليجية، ولتفكّ الحصار الذي كان يُفترض أن توضع فيه طهران، بل وتغيّر اتجاه البوصلة لتتاح لإيران فرصة الاستفادة من الأزمة الخليجية الراهنة.

وترى طهران في تأزم العلاقات القطرية – الخليجية فرصة لتعزيز علاقاتها مع الدوحة سياسياً، وإبعادها عن جيرانها الخليجيين، بل ولتحقيق مكاسب اقتصادية وتجارية منها. فبعد إغلاق المجال الجوي أمام قطر من قِبل الدول المقاطعة لها، أعلنت السلطات الإيرانية ارتفاع عدد رحلات طيران قطر التي تعبر الأجواء الإيرانية إلى ما بين 100 و150 رحلة يومية، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عن المدير العام لشركة المطارات والملاحة الجوية في إيران رحمت الله مه آبادي. أيضاً، اعتبر رئيس اتحاد المصدرين الإيراني محمد لاهوتي، يوم 6 يونيو 2017، أن الأزمة بين قطر وبعض الدول العربية تشكل فرصة مهمة لإيران من الناحية الاقتصادية، مشيراً إلى أن قطر تستورد سنوياً من البلدان المحيطة بها في قطاع الأغذية نحو 5 مليارات دولار، و"يمكن تلبية ذلك من قِبل إيران".

ثغرة الدوحة

تشكل السياسة القطرية في منطقة الشرق الأوسط، وما تقوم به، سواء من مناوشات سياسية أو مشاحنات إعلامية منذ سنوات، فرصة مواتية لإيران لاختراق الصف العربي، خاصةً بعد تصريحات الأمير تميم في شهر مايو الماضي والتي أكدت ما يخطط له النظام القطري للمنطقة.

والمتتبع لمجريات الأزمة الخليجية الراهنة سيكتشف أن عامل الشك وعدم اليقين من السلوكيات القطرية سيستمر لفترة قد تطول، ولهذا اقترح معالي الدكتور أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات، نظام مراقبة تطبقه دول غربية على أنشطة قطر. وإذا استمرت الأزمة الحالية في ظل العناد القطري الواضح، فستكون الدوحة عامل جذب للنظام الإيراني؛ لأنها ستكون "الثغرة" الاستراتيجية التي ستحاول إيران الدخول منها للتأثير سلباً على المنظومة الخليجية، وستدافع طهران عن سياسات قطر تحت مظلة مصالحها الاستراتيجية ضد أي ضغط خليجي، وهي ستجد في ذلك فرصة لتعميق الأزمة الخليجية الراهنة، بل وربما تعمل على تدويلها من أجل تعقيدها، بحيث تضمن عدم حلها بالطرق التقليدية وداخل إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

ويمكن القول إن ما تقدمه الحكومة القطرية من خدمات للسياسة الإيرانية، يمثل وضعاً استثنائياً في تاريخ منطقة الخليج العربي، ولا يمكن بأي حال مقارنته بسياسة أية دولة أخرى، كما أنه لا يمكن تصور حدوثه في المستقبل القريب، لأن طهران لها مصالح متعارضة مع دول الخليج العربية، ولن يهدأ لها بال إلا بعد أن تحدث انشقاقاً بين دول الخليج، وهي تكرس كل جهودها السياسية والإعلامية والعسكرية للوصول إلى هذا الهدف، والأزمة الحالية خير دليل على ذلك.

وكرد فعل على ذلك، اتهم المندوب الدائم للسعودية في الأمم المتحدة عبدالله المعلمي، يوم 2 يوليو 2017، قطر بمشاركة إيران توجهها، الذي يهدف لخلق الفوضى العارمة في دول المنطقة، قائلاً: "قطر اختارت أن تكون إيران حليفاً لها، واستمرت 20 عاماً في دعم الجماعات الإرهابية، مع علمها بما يكيدونه ضد دول المنطقة".

الباب "الموارب" 

حتى تكتمل الاستفادة الإيرانية من الأزمة الخليجية الراهنة، فإن طهران قد تترك أحياناً الباب "موارباً" كي تستفيد من الطرفين؛ فإذا وجد الطرف القطري نفسه في مأزق حقيقي قدم كل التنازلات لإيران، وإذا تخلت الدوحة عن تعنتها تكون طهران لم تخسر شيئاً.

كما تنظر إيران إلى هذه الأزمة على اعتبار أنها "دراسة حالة" لسيناريو ربما يُطبق عليها لاحقاً إذا ما سارت الأمور وفق ما كان مرتباً لها في "قمم الرياض"، خاصةً أن حجم التأثير السلبي المتوقع حينها على الوضع الداخلي في طهران سيتجاوز بشكل كبير ما تعانيه قطر حالياً، نظراً لأن إيران دولة مترامية الأطراف جغرافياً، وفيها نحو 80 مليون نسمة، حسب تقديرات الأمم المتحدة. ولعل هذا ما ظهر في ردود الفعل الأولية داخل إيران على المقاطعة الخليجية لقطر، فعلى سبيل المثال، قال حامد أبو طالبي، نائب مدير مكتب الرئيس الإيراني حسن روحاني، في تغريدة له على موقع "تويتر": "إن ذلك هو أول شرخ في التحالف ضد إيران، والنتيجة الأولية لرقصة السيف في الرياض".

نقطة اللاعودة

من الغريب أن تلجأ قطر إلى إيران للوقوف بجانبها ضد شقيقاتها الخليجية، وحينما يصل الأمر إلى ذلك فلن يعني فقط أن ثمة اتفاقاً حول مهددات الاستقرار في المنطقة، بل إننا أمام تطورات جديدة ربما تغير الكثير من الأحداث في الإقليم. فبدلاً من أن يستعيد النظام القطري توازنه ويستفيد من الفرص التي مُنحت له ويتصالح مع إقليمه الطبيعي، ويُبقي على علاقاته مع شعوب المنطقة، فإنه يمارس سياسة "هدر الفرص"، ويبقى الخوف أن يصل القطريون إلى نقطة لا يستطيعون العودة فيها من التعاون مع إيران.

وما يعزز هذه المخاوف تصريحات وزير الخارجية القطري، محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، يوم 27 يونيو الماضي، التي أعلن خلالها ضمناً رفض بلاده مطالب الدول المقاطعة، مؤكداً أن هذه المطالب ستصبح لاغية بانتهاء مهلة تنفيذها، بل وشدد على أهمية وجود علاقات بناءة وإيجابية مع إيران.

خلاصة القول، من المتوقع أن تقدم إيران مزيداً من الدعم لقطر في أزمتها الحالية، رغبةً منها في أن يطول أمد هذه الأزمة، وعلى نحو يحقق مصالحها سواء السياسية المتمثلة في شق الجبهة الخليجية والتوسع بشكل أكبر داخل المنطقة، أو الاقتصادية من خلال زيادة عدد الطائرات القطرية عبر مجالها الجوي وتعزيز الصادرات الغذائية للدوحة. ومن جهتها، فإن دول الخليج لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ممارسات الدوحة، وطريقة تعاطيها مع الأزمة الراهنة، لأن أي تطورات في العلاقة بين قطر وإيران تمس الأمن الخليجي والعربي، وهو ما يستدعي التعامل مع هذه المعضلة بما يحمي المصالح الخليجية والعربية، ويحول دون منح طهران فرصة الإضرار بدول الخليج، ومنعها من المُضي قُدماً في مخططاتها التي تستهدف منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية.