"المقاومة الصبورة":

هل استوعب نظام البشير رسالة " العصيان المدني"؟

07 December 2016


في السابع والعشرين من نوفمبر 2016، شهدت العاصمة السودانية الخرطوم عصيانًا مدنيًّا دعا إليه نشطاء سودانيون، إثر قرارات حكومية برفع سعر الوقود بنسبة 30%، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار سلعٍ وخدمات أخرى بينها الأدوية والكهرباء.

ومع تجاهل الحكومة لاحتجاجات المواطنين ضد هذه القرارات، دشن مجموعة من النشطاء السياسيين حملةً تحت شعار "أعيدوا الدعم للأدوية"، لكنها سرعان ما تحولت إلى دعوات للعصيان المدني لمدة ثلاثة أيام في الخرطوم والمدن السودانية الأخرى.

دوافع العصيان المدني

أكد أصحاب الدعوة أنهم دعوا للعصيان المدني احتجاجًا على تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد، لا سيما منذ انفصال الجنوب عام 2011، وفقدان السودان معظم عائدات النفط، وما يرتبط بها من عملات أجنبية، وتفاقم الدين الخارجي ليتجاوز 45 مليار دولار، وارتفاع نسبة التضخم، وتناقص القدرة الشرائية لرواتب الموظفين بنسبة 40% في المتوسط، وزيادة معدلات الفقر. 

وعلى الرغم من ذلك، فإن الإدارة الحكومية للاقتصاد ظلت تتخبط بين برامج وسياسات متشابهة، تحت مسميات مختلفة، بداية من البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي، مرورًا بالاستراتيجية القومية الشاملة، يليها النهضة الزراعية، والخطة الخمسية الأولى، والثانية، وصولا إلى "البرنامج الاقتصادي الإسعافي الثلاثي" الذي طبق بعد انفصال الجنوب.

لكن ذلك كله لم يفلح في إخراج السودان من عثراته، خاصة مع انفراد الحكومة باتخاذ القرارات الاقتصادية، لتأتي القرارات المتعلقة برفع الدعم جزئيًّا عن المحروقات والدواء، لتؤكد إفلاس النظام، وإجباره المواطن السوداني على مقايضة حريته السياسية بقبول واقعه الاقتصادي المتردي.

مدى التجاوب الشعبي 

احتلت مواقعُ التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها المرتبةَ الأولى في الترويج لدعوة العصيان، وتبادل الأخبار والصور حول مدى تجاوب الشعب مع الدعوة، في ظل عدم وجود قوى سياسية كبرى تقف خلف الدعوات؛ حيث دشنت اللجنة التمهيدية للعصيان، التي عُرفت باسم "خلاص"، صفحات عديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي للدعوة للعصيان وتحديد توقيته وإجراءاته، ليصبح معظم المواطنين على علم بها، بالنظر إلى انتشار الإنترنت الذي يستخدمه نحو 11 مليون مواطن في السودان، وفق إحصائية الهيئة القومية للاتصالات السودانية.

وقد لقيت الدعوة للعصيان المدني استجابة سريعة من الشباب السوداني، خاصة بعدما تواصل النشطاء مع المواطنين في الأماكن العامة والمساجد لتوضيح فكرة العصيان. كما أيدها بعض الأدباء والفنانين، بالإضافة إلى أن بعض الصحف احتجبت عن الصدور، تضامنًا مع الدعوة. كما انضمت إليها ناشطات في الحركة النسوية، فأضرب بعضهن عن الطعام، وأصدرن بيانًا يُطالبن فيه بتأسيس نظام ديمقراطي لا مركزي، وتقليص الإنفاق العام، وتقليل عدد الولايات إلى ست، وتعيين مفوضية مستقلة لمكافحة الفساد، وإصلاح أجهزة الخدمة المدنية، وحل جميع المليشيات المسلحة.

وبالنسبة للأحزاب السياسية، فقد أيد العديد منها العصيان، سواء من المعارضة المدنية أو المسلحة، وفي مقدمتها: تحالف قوى الإجماع الوطني، وحزب الأمة، والحزب الشيوعي، والحركة الشعبية - قطاع الشمال، والحركات المسلحة في دارفور. 

وفي هذا السياق، أصدر تحالف قوى الإجماع الوطني بيانًا دعا فيه السودانيين لإسقاط النظام. وقدم مذكرة للرئاسة تُطالب البشير وحكومته بالتنحي الفوري وتسليم السلطة للشعب، ووقف التدهور الاقتصادي والمعيشي، وعقد مؤتمر دستوري لتحديد شكل الحكم في البلاد، وقيام انتخاباتٍ حرة ونزيهة بعد فترة انتقالية.

كما أصدر الصادق المهدى -رئيس حزب الأمة- بيانًا يؤكد أنه أول من دعا للعصيان. ويُطالب المواطنين بعدم ممارسة أي أنشطة عنيفة أو تخريبية خلال العصيان. وبالمثل دعت حركة "جيش تحرير السودان" بقيادة "منى مناوي" الشعبَ السوداني للاصطفاف خلف دعوة العصيان المدني، لاقتلاع نظام الإنقاذ. وأكدت حركة العدل والمساواة أن قواعد الحركة ستكون مع الشعب في انتفاضته السلمية، لتكوين كتلة ثورية تاريخية، قادرة على تجييش الأمة، وحشد طاقاتها، نحو تحقيق الأهداف المنشودة.

ويلاحظ هنا أن بعض الأحزاب السياسية سعت للقفز على الحدث، بركوب موجة العصيان، والإيحاء بأنها هي من نظمته ودعت إليه، ومنها حزب الأمة القومي. فيما سعت أحزاب أخرى للإمساك بالعصا من المنتصف، مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، الذي أكد تمسكه بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني دون تفريط في مطالب الشعب العادلة. ولعل ذلك هو ما دفع النشطاء لإنشاء صفحة إلكترونية بعنوان "العصيان إرادة شعب"، وأنه لا دخل للمعارضة في تنظيمه.

في المقابل، أعلنت بعض الأحزاب والقوى السياسية معارضتها للعصيان، وأهمها: حزب المؤتمر الشعبي، وقوى المستقبل للتغيير، فاتهمت الأحزاب والقوى الممانعة للحوار الوطني بالدعوة للعصيان، بغية تحقيق بعض المكاسب الشخصية والحزبية الضيقة، وزعزعة استقرار البلاد دون اكتراث بمصير الوطن.

رد الفعل الحكومي

أدركت الحكومةُ السودانية أن ارتفاع الأسعار سيؤدي إلى موجة من الاحتجاجات الشعبية، لكنها كانت تعتقد أن الأمر لن يتجاوز حدود التظاهر، خاصةً بين أوساط الطلاب، مثلما حدث في سبتمبر 2013، عندما رفعت الدعم جزئيًّا عن المحروقات. لكن العصيان المدني واستجابة الشارع السوداني له كان مفاجأةً للحكومة، كونه يمثل نمطًا غير تقليدي للمعارضة، يُستخدم للمرة الأولى على هذا النطاق منذ وصول البشير إلى السلطة عام 1989. 

وقد أدى ذلك إلى نوع من الارتباك في التعامل السياسي مع العصيان؛ حيث كانت السلطات الأمنية في مقدمة من تعاملوا مع الحدث، وهو ما يعكس أزمة حقيقية داخل نظام الإنقاذ. ففي هذا السياق، كثفت الحكومة استعداداتها الأمنية، وحذر جهاز الأمن من أي تحرك احتجاجي، كما حاصر مقرات بعض الأحزاب المؤيدة للعصيان، وواصل حملات الاعتقال ضد عناصر المعارضة، وأوقف بعض القنوات الخاصة عن البث، مثل قناة أم درمان، بدعوى العمل بلا ترخيص، وصادر العديد من الصحف الخاصة (مثل: الأيام، والجريدة، والوطن، واليوم التالي).

توازيًا مع ذلك، أكدت وسائل الإعلام عدم تجاوب الشعب مع الدعوة للعصيان، وسارعت قيادات النظام إلى مهاجمة دعاة العصيان، فاتهمتهم بالخروج عن التوافق الوطني، وأكدت أن غالبيتهم يقيمون خارج السودان، حيث يتلقون دعمًا ماليًّا وسياسيًّا من جهات خارجية. 

من جانبه، لم يكترث الرئيس البشير بالوضع الداخلي في السودان، حتى أنه غادر البلاد خلال شهر نوفمبر 2016 ثلاث مرات للمشاركة في فعاليات خارجية، وهي: مؤتمر المناخ بمراكش، والقمة العربية الإفريقية في غينيا الاستوائية، والعيد الوطني لدولة الإمارات العربية، حيث صرح البشير من مقر إقامته بالإمارات (في 29 نوفمبر 2016) بأن العصيان فشل بنسبة مليون في المائة، داعيًا الشعب إلى الصبر على تبعات الإصلاح الاقتصادي، باعتباره ضرورة لا بد منها، بدعوى أن الأيام القادمة سوف تأتي بالأفضل بعد تشكيل حكومة ما بعد الحوار الوطني، وإمكانية حدوث انفراجةٍ في العلاقات السودانية الأمريكية في عهد دونالد ترامب.

وبالمثل أكد كلٌّ من وزير الإعلام، أحمد بلال، ومساعد رئيس الجمهورية، إبراهيم محمود حامد، ووزير الصحة، بحر إدريس أبو قردة، فشل العصيان. ونفى رئيس الهيئة الفرعية لعمال وسائقي الحافلات بالخرطوم توقف الحافلات والمواصلات العامة عن العمل. وأعلنت وزارة الصحة التراجع عن قرار زيادة أسعار الأدوية، وإقالة الأمين العام لمجلس الأدوية السوداني الذي وافق على زيادة أسعار الدواء.

وهنا يُلاحظ أن النظام تعامل مع الاعتصام من خلال القبضة الأمنية، فجعل الأمن في مواجهة الجماهير، في وقت يفترض فيه أن جهاز الأمن هو جهاز قومي، ليست له علاقة بالعمل السياسي، وليس تابعًا للحزب الحاكم. كما أنه كال الاتهامات لدعاة العصيان، رغم أنه من حقوق التعبير التي نص عليها الدستور، فضلا عن أنه راح يقلل من أثر الاعتصام، دون البحث عن العوامل التي دفعت إليه.

نتائج العصيان المدني

انعكس العصيان على حالة الشارع السوداني في ولايات الخرطوم الثلاث (الخرطوم، بحري، أم درمان)، خاصة في اليوم الأول، وهو ما نلمسه في الشوارع التي بدت خالية من المارة، والركود الذي أصاب الأسواق، وتأثر أسعار صرف العملات، والحالة المرورية التي بدت أقل كثافة، خاصة في أوقات الذروة، نتيجة غياب الموظفين وطلاب المدارس والجامعات، إما استجابة للعصيان، أو خوفًا من اشتباكات محتملة مع الأمن السوداني. لكن حالة التجاوب مع العصيان بدت أقل في اليومين التاليين، ثم عادت الحياة إلى طبيعتها مع انتهاء مدة العصيان.

ويعود ذلك -في تقديري- إلى عدم وجود قيادة موحدة ومعروفة للعصيان، يمكنها إجراء مفاوضات مع الحكومة، مثلما فعلت النقابات والأحزاب تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي، عندما تفاوضت مع المشير عبدالرحمن سوار الدهب على انتقال سلس للسلطة بعد إسقاط جعفر النميري. فقيادات هذا العصيان معظمهم من الشباب الذين فقدوا الثقة في الأحزاب السياسية. من جهة أخرى تفتقد السودان إلى قطاع عام يمكنه أن يحرك العصيان المدني. كما أن معظم قيادات الجهاز الإداري والنقابات والاتحاد المهنية من العناصر المحسوبة على الحزب الحاكم.

لكن هذا لا ينفي تحقق بعض الإيجابيات من وجهة نظر منظمي العصيان، وأهمها: إثبات قدرة الشباب على خلق أدوات نضالية ذاتية تتجاوز الأحزاب السياسية العتيقة. وإيصال رسالة قوية إلى النظام بأن الشباب عازم على إنتاج نمط غير تقليدي من "المقاومة الصبورة" التي لا تستعجل النتائج، وأنه لم تنطل عليه آلية الحوار الوطني التي دعا لها البشير. فالشعب يريد خطوات عملية للتغيير ومكافحة الفساد، في حين أن الحوار الوطني لم يحقق سوى الإبقاء على البشير في السلطة، واختراق صفوف المعارضة، والإيحاء للمجتمع الدولي بوجود توجه إصلاحي لدى النظام. 

مستقبل نظام الإنقاذ الوطني

بعد انتهاء أيام الاعتصام الثلاثة، عادت مظاهر الحياة إلى المؤسسات والطرق في العاصمة السودانية، وتواترت التحليلات التي تُشكك في قدرة العصيان المدني على الضغط على الحكومة، باعتبار أن العناصر الداعية للعصيان معظمها من الشباب المغمور، غير المرتبط بالأحزاب السياسية، وأن الوضع الاقتصادي المتردي للمواطن السوداني سوف يحرمه رفاهية التغيب عن العمل، وأن البقاء في المنازل سيوفر على النظام أعباء المواجهات الأمنية، والأكثر أهمية من ذلك هو تخوف المواطنين أنفسهم من انفراط عقد الدولة، والوصول إلى حالة (حرب الكل ضد الكل) على نحو ما يجري في ليبيا وسوريا واليمن في الوقت الراهن. 

وعلى الرغم من ذلك، فإن احتمالات تجدد العصيان تبدو قائمة، حيث أكد النشطاء السودانيون اعتزامهم تنظيم عصيان مدني جديد في التاسع عشر من ديسمبر 2016، توافقًا مع ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان. وبالفعل شددت حركة "خلاص" على أنها بصدد تشكيل لجانٍ للعصيان والتغيير في كل مدن السودان، تمهيدًا للدخول في عصيان مفتوح، طويل النفس، تحت شعار "يوم البرلمان يوم الخلاص"، حتى تتراجع الحكومة عن قراراتها الاقتصادية المجحفة، وإلا فسوف يستمر العصيان حتى إسقاط النظام. 

وهنا يُحذر البعض من تحول العصيان إلى منصة لانطلاق الثورة ضد النظام، مثلما تم إسقاط حكم الفريق إبراهيم عبود وجعفر النميري عامي 1964 و1985، خاصةً أنه يتزامن مع الإضرابات المتكررة من جانب الصحفيين والأطباء، والصدام بين الحكومة وكل من اتحاد الكتاب وتنظيمات المجتمع المدني.

يُضاف إلى ذلك استغلال البعض لحالة العصيان في رفع سقف مطالبه إزاء النظام، حيث أعلنت الحركة الشعبية – قطاع الشمال في بيان أصدرته في الثاني من ديسمبر 2016 رفع سقف مطالبها في علاقتها بالحكومة، باشتراط إجراء الحوار في ظل نظام جديد، وتنحي البشير، والاتفاق على ترتيبات انتقالية، داعية كافة قوى التغيير إلى تأييد مواقفها وتسويقها لدى المجتمع الدولي والإقليمي، والتي اعتبرتها متسقة مع تطورات الأوضاع بعد العصيان المدني 

لذا فإن العصيان -أيًّا كانت نتائجه- فهو يمثل رسالة قوية للنظام السوداني، توجب عليه عدم التعامل معه كحدث وانتهى، بدعوى أنه لم يؤدِّ لإسقاط النظام، دون بحث الأسباب التي دفعت إليه، خاصة أن إسقاط النظام لم يكن في حسبان منظمي الاعتصام. فالاعتصام كان بمثابة حجر تم إلقاؤه في المياه الراكدة، لتبصير النظام بحالة الاحتقان الشعبي جراء قراراته الاقتصادية، وتحذيره من إمكانية زيادة حجم المعارضة تدريجيًّا، مثل كرة الثلج، بما يقود لحالة من الانفجار الشعبي العفوي، غير المخطط سياسيًّا، بغية تغيير النظام، بعدما أصبح عاجزًا عن أداء وظائفه.

وفي حال تحقق ذلك، فمن المرجح سقوط السودان في مستنقع الفوضى، وذلك لغياب التوافق بشأن البديل المناسب لنظام الإنقاذ، وما يرتبط بذلك من احتمالات تحول الحراك السياسي ضد البشير إلى صراع لأجل السلطة بين قوى المعارضة السياسية والمسلحة وداخلها أيضًا.

وبصرف النظر عمن سيتمكن من حسم هذا الصراع لمصلحته، فإن الشعب السوداني سوف يدفع ثمنًا غاليًا. ومن المتوقع أيضًا أن ينعكس هذا الصراع على الاستقرار السياسي والأمني في معظم دول جوار السودان، نظرًا للتداخل السكاني، والاشتراك في الحدود بين السودان وتلك الدول.