حدود الاستمرار:

حسابات المعادلة الأمريكية "المتناقضة" في اليمن

16 October 2016


تتميز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصراع اليمني بأنها تجمع بين مواقف متناقضة. ففي الوقت الذي تُعلن فيه أنها ستراجع دعمها للتحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن بعد الزعم باستهداف طائرات التحالف مأتمًا في العاصمة اليمنية (صنعاء)، يقصف الجيش الأمريكي محطات رادار يُسيطر عليها الحوثيون بعدما تعرضت إحدى السفن الحربية الأمريكية "مايسون" في البحر الأحمر قبالة السواحل اليمنية لهجوم صاروخي للمرة الثانية خلال أيام، وهي المرة الأولى التي تشن فيها قوات أمريكية هجمات عسكرية ضد مواقع يمنية منذ بداية الصراع في مارس 2015.

وعلى الرغم من التأييد الأمريكي للحكومة اليمنية بقيادة "عبدربه منصور هادي" باعتبارها الحكومة اليمنية الشرعية؛ فإن إدارة الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" في الوقت ذاته تعبر في كثير من الأحيان عن أن الحل للصراع في اليمن لن يتم إلا عن طريق الحوار، رافضة التدخل والانخراط الحاسم في حل هذا الصراع الذي يؤثر على أمن واستقرار دول الخليج العربي. 

وتُثير تناقضات السياسة الأمريكية تجاه الصراع اليمني تساؤلين مركزيين مفادهما: ما هي المحددات التي تُشكل المواقف الأمريكية تجاه الصراع اليمني؟ وهل سيستمر هذا التناقض مع الإدارة الأمريكية الجديدة؟.

محددات الموقف الأمريكي من الصراع:

يُشكل موقف الإدارة الأمريكية من الصراع اليمني مجموعة من المحددات، بعضها نابع من الوضع الداخلي اليمني، وأخرى تتعلق بالوضع الإقليمي. 

أولا- المحددات اليمنية:

تتمثل المحددات المتعلقة بالوضع اليمني الداخلي، والتي تُساهم في تشكيل الموقف الأمريكي من الصراع اليمني، في:

1- خلق عدو جديد لتنظيم "القاعدة": على غرار سياساتها الطائفية في العراق، ترى الولايات المتحدة أن القضاء على التنظيمات الموالية لتنظيم "القاعدة" لن يتأتى إلا من خلال خلق عدو جديد للإسلام السني. وقد وجدت في الإسلام الشيعي الحل؛ فسعت جاهدة لتهيئة الجماعات الشيعية لمحاربة العدو اللدود لها والمتمثل في تنظمي "القاعدة" و"داعش". فهي ترى أن "جماعة الحوثي" في اليمن شريك محتمل وقوي في محاربة تنظيم "القاعدة" في اليمن. 

2- تحالف الأعداء: من المؤكد أن الإدارة الأمريكية ترى أن تحالف "جماعة الحوثي" والرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح" خَلقَ واقعًا جديدًا في اليمن من الصعب تجاوزه. لذلك، تدعو الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار دون وضع حلول عملية لوقف الصراع. فهي تعي أن من يسيطرون على الأرض ويتحكمون في السلطة داخل البلاد هم من سيكون لهم الغلبة بحكم سلطة الأمر الواقع، خاصة أن المنطقة القبلية العصية التي تتحكم في نظام الحكم عبر التاريخ والمتمثلة في المناطق الممتدة من صعدة شمالا إلى حدود تعز جنوبًا خاضعة كليًّا لـ"جماعة الحوثي" و"صالح" مما ساهم في ترسيخ سلطتهم.

3- ضعف سلطة الحكومة الشرعية: بالرغم من المساحات الشاسعة من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية إلا أن عدم قدرتها على بسط نفوذها على الأرض نابع من عدة عوامل، منها: عدم وجود ميزانية لتمويل أنشطتها، وتفكك السلطة والمؤسسات الحكومية في كثير من المحافظات التي تعرضت لمواجهات مباشرة، وتدمير البنى التحتية للخدمات والمرافق. وكل ذلك ساهم في بقاء هذه المناطق تُعاني من فراغ السلطة، وظهور جماعات تتصارع على النفوذ. وهذا ما دفع الولايات المتحدة لأن ترى أن الحل واستتباب الأمن للحكومة الشرعية على كامل تراب اليمن بعيد المنال على الأقل في المدى المنظور.

4- تعدد جماعات الحراك الجنوبي: تدرك الولايات المتحدة أن جماعات الحراك الجنوبي الداعية لفك الارتباط مع الشمال جماعات مفككة، ومتعددة الانتماءات والولاءات المناطقية والفكرية والطائفية. وقد ساهم كل ذلك في عدم قدرة السلطة الشرعية على بسط نفوذها على الأرض، وبالتالي فعملية الصراع معقدة وتركيبة الجماعات أكثر تعقيدًا.

ثانيًا- محددات الوضع الإقليمي:

هناك محددات إقليمية للموقف الأمريكي تجاه الصراع في اليمن، تتمثل في:

1- التحالف التاريخي مع دول الخليج العربي: تعتبر دول الخليج العربي حليفًا تاريخيًّا للولايات المتحدة منذ ظهورها كدول حديثة، لذلك فإنه في الوقت الذي لا تتقاطع فيه السياسات الأمريكية تمامًا مع سياسة دول الخليج، فإنها لا تتصادم مع سياستها. فقد كان الموقف الأمريكي مؤيدًا لتدخل دول التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن، كما ساهمت في تقديم التعاون الاستخباراتي، ودعمت دول التحالف بما يقرب من 45 خبيرًا عسكريًّا، لكنها قامت بسحبهم في الفترة الأخيرة. 

وهذا لا يعني إنهاء التزامها بتقديم الدعم للرياض في حربها على اليمن، لا سيما وأن كثيرًا من المسئولين الأمريكيين عقب موافقة الكونجرس بمجلسيه على قانون "جاستا" أكدوا أن هذه المواقف متغيرات مؤقتة لا تؤثر على استراتيجية السياسة الأمريكية على المدى الطويل التي ترى ضمان أمن حلفائها ضمانًا لأمنها القومي.

2- تهديد طريق الملاحة الدولية: الموقع الجغرافي لليمن جعل منها دولة تطل على أهم المضايق الملاحية للتجارة الدولية، وهو مضيق باب المندب. وترى الإدارة الأمريكية أن استمرار الصراع في اليمن له مخاطر على سير الملاحة الدولية. ويؤكد الهجوم على السفينة الإمارتية يوم 1 أكتوبر الجاري الذي تبنته "جماعة الحوثي"، والهجوم بصاروخين على مدمرة أمريكية يوم 10 أكتوبر من الأرضي الخاضعة للحوثيين، تلك المخاطر التي تتخوف منها ليس الولايات المتحدة فحسب بل ودول العالم وخاصة مصر لتأثيرها على الملاحة بقناة السويس.

3- قرب اليمن من نفط الخليج: يمثل النفط وتأمين وصوله إلى الولايات المتحدة هاجسًا رئيسيًّا في سياستها منذ استكشافه وحتى اليوم؛ لذا تتخوف الولايات المتحدة من انتشار الصراع بما ينتج عنه من تأثير على إمدادات النفط إلى السوق العالمية. ومن أجل ذلك تقوم الولايات المتحدة بإمداد المملكة العربية السعودية بأسلحة حديثة لحماية حدودها مع اليمن من الاختراق.

4- التقارب الإيراني-الأمريكي: يرى البعض أن التقارب الإيراني الأمريكي، خاصةً بعد الاتفاق النووي، وموافقة إيران على المراقبة الدولية لمنشآتها النووية، واقتصار استخدامها على الجوانب السلمية؛ ساهم في إزالة التوتر الذي كان سائدًا بين البلدين قبل التوقيع على ذلك الاتفاق. وبالتالي فإن المهادنة -في وقت سابق- التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه "جماعة الحوثي" القريبة من إيران تعبر عن هذا الموقف.

رؤية الإدارة الأمريكية لحل الصراع:

بالرغم من الصراع الدائر في اليمن وفي كثير من البلدان العربية -مثل: سوريا، والعراق، وليبيا- فإن مصالح الولايات المتحدة لم يلحقها تأثير مباشر، فمصالحها مكفولة من تأمين إمدادات النفط، ومن تواجدها العسكري في البر، أو من خلال بوارجها الحربية في بحار المنطقة ومحيطاتها المجاورة؛ لذلك ترى الولايات المتحدة أن الصراع الجاري في المنطقة يُساهم في إضعاف الجماعات المناوئة لها، ويأمن شرها، ويقلل من تهديدها على الداخل الأمريكي. 

وترى الولايات المتحدة أن مصالحها تكون آمنة أكثر في ظل وجود فوضى مسيطر عليها من خلال سياستها المعتمِدة على ما سُمي بـ"الفوضى الخلاقة"، حيث تقوم السياسة الأمريكية على استمرار الصراعات في المنطقة، خاصة في الدول العربية المحيطة بدول الخليج العربي بما يمثله ذلك من تهديد لهذه الدول. لذا، نجدها تسمح لدور إيراني في المنطقة دون اتخاذ إجراء يؤمن دول الخليج، مما يجعلها تشعر بخطر إيراني حقيقي يدفعها للتمسك بتحالفاتها معها من جهة، وساهم هذا الوضع في إبقاء إسرائيل في مأمن مما يحدث في المنطقة من جهة أخرى.

 ورغم أن السعودية قد لجأت إلى روسيا خلال هذه الأزمة، ووقّعت معها صفقة سلاح، إلا أن ذلك يُعبر عن انزعاج سعودي مما تراه تهاونًا أمريكيًّا في هذا الصراع، أو تماهيًا مع ما يحدث في اليمن. لكن المملكة تعي جليًّا أنها ودول الخليج لا يثقون بالحليف الروسي، ولا يمكن أن يحل يومًا بديلا عن الحليف الأمريكي.

تتسم سياسة الإدارة الأمريكية تجاه حل الصراع بالعمومية والغموض، وقد تجلى ذلك في مبادرة وزير الخارجية "جون كيري" الذي ركز على وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية دون الدخول في عمق الصراع، وإيجاد حل مقنع لكل الأطراف يحفظ لكل طرف حدًّا أدنى من تحقيق مطالبه من خلال بنود واضحة وآلية تنفيذية مزمنة.

رؤى الإدارة الجديدة لمستقبل الصراع:

في الثامن من نوفمبر القادم سيُنتخب رئيس أمريكي جديد من بين مرشَّحَيْن للرئاسة؛ المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون"، والمرشح الجمهوري "دونالد ترامب"، واللذين تختلف برامجهما ورؤيتهما لقضايا السياسة الخارجية. ويمكن التنبؤ برؤية كل مرشح في حالة فوزه من خلال ما يطرحه من تصورات لسياساته الخارجية في حالة نجاحه في الانتخابات.

أولا- الرؤية المتوقعة لهيلاري كلينتون:

من خلال حملتها الانتخابية وتصريحاتها لقضايا السياسة الخارجية، ورؤيتها لمستقبل الشرق الأوسط، يتوقع أن تتبنى المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" سياسة مشابهة إلى حد كبير للرئيس الديمقراطي "باراك أوباما"، لا سيما وأن لها خبرة في قضايا الصراع بالشرق الأوسط؛ بحكم توليها منصب وزير الخارجية أربع سنوات كاملة خلال إدارة "أوباما" الأولى. وقد كان لـ"هيلاري" دور رئيسي في وضع هذه السياسة منذ توليها هذا المنصب. فضلا عن أنها على معرفة تامة بأوضاع دول الخليج، وستكون سياستها الحفاظ على علاقات التحالف مع هذه الدول، وعدم الدخول مع هذه الأنظمة في مواجهة من أجل إنهاء الصراع خارج الرؤية الخليجية. لذا لا يمكن أن نرى سياسة أمريكية مغايرة كثيرًا للسياسة الحالية.

ثانيًا- الرؤية المتوقعة لدونالد ترامب:

في حالة فوز المرشح الجمهوري "دونالد ترامب" بمنصب الرئاسة فمن المتوقع أن يُجري تغييرًا في السياسة الخارجية الأمريكية وفقًا لبرنامجه السياسي المعلن، حيث يرى "ترامب" أن سبب تراجع دور الولايات المتحدة عالميًّا بصفة عامة وفي الشرق الأوسط بشكل خاص يأتي نتيجة ضعف السياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس "باراك أوباما". كما أنه تعهد بمحاربة الجماعات الإرهابية بلا هوادة، وعدم السماح للإسلاميين بدخول بلاده. ولذا يتوقع أنه في حالة فوزه فإنه سيساهم في زيادة الصراع بتدخله مع طرف ضد طرف آخر.

ولا نتوقع حلا للصراع في اليمن في عهد ترامب، خاصة إذا ما استمر في عدائه للعرب والمسلمين، وربما ستكون سياسته غير متسقة مع دول الخليج، وسيقابلها تخوف خليجي، بما يشير إلى بقائها في توتر وعدم استقرار نسبي كما هي عليه حاليًّا.

خلاصة القول، لا يمكن أن نشهد رؤية أمريكية واضحة المعالم لحل الصراع في اليمن على الرغم من أن الولايات المتحدة تمسك بكل خيوط اللعبة في الصراع اليمني، فلها علاقة بالرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح" والحوثيين من جهة، وعلاقة قوية بدول التحالف من جهة ثانية، وهي الدولة الوحيدة المهيأة للتدخل وإنهاء الصراع إذا ما أرادت ذلك. لكن من الواضح أن السياسة الأمريكية ستستمر في السعي لطرح مشاريع التهدئة عند كل حدث جلل ترى فيه خروج الصراع عن السيطرة، مع عدم التدخل الحاسم في حل الصراع بشكل نهائي.