مسار إقليمي جديد:

حسابات اتفاق المصالحة التركية – الإسرائيلية

29 June 2016


تبدو الدبلوماسية التركية وكأنها دخلت مرحلة سياسية جديدة، لخصها رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بزيادة الأصدقاء والتخفيف من الأعداء، وذلك في إشارة غير مباشرة إلى أن سلفه أحمد داود داود أوغلو هو من يتحمل مسؤولية التوتر والعزلة الإقليمية التي تعرضت لها السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ أن ركبت تركيا موجة (ثورات الربيع العربي) وتطلعت إلى دور إقليمي في المنطقة العربية على وقع التطورات الدراماتيكية التي تشهدها، قبل أن تكتشف أن رهاناتها تفتقر إلى الدقة ووضعتها في مأزق بنيوي متعدد المستويات.


وفي الثامن والعشرين من يونيو 2016، وقَّعت تركيا وإسرائيل اتفاقاً يعيد العلاقات بين البلدين بعد قطيعة استمرت ست سنوات، بعد الاعتداء الإسرائيلي على سفينة المساعدات التركية "مافي مرمرة"، في مايو 2010، التي كانت متجهة حينها لكسر الحصار على قطاع غزة، وقُتل نتيجة لذلك 10 نشطاء أتراك كانوا على متن السفينة.

أسباب الانعطافة التركية

تبدو تركيا في حركتها الجديدة تنطلق من جُملة عوامل وأسباب، لعل أهمها :  

1- وصول سياستها الخارجية ولاسيما تجاه الأزمة السورية إلى طريق مسدود، إذ أنه مع التدخل العسكري الروسي في سوريا، والتفاهم الأمريكي – الروسي على الحل السياسي للأزمة، لم يعد من الممكن لتركيا البقاء على استراتيجيتها السابقة في إسقاط النظام السوري أو حتى إقامة منطقة أمنية عازلة أو حتى الرهان على المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها.

2- اكتشاف تركيا عدم جدوى اعتماد البُعد الأيديولوجي في سياستها الخارجية من خلال دعم حركات الإسلام السياسي ولاسيما دعم جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي، إذ إن هذه السياسة ألحقت خسائر كبيرة بالدبلوماسية التركية، فالثابت أن السياسة الخارجية للدول لا تُبنى على الأيديولوجيات بقدر ما تُبنى على المصالح المتبادلة بين الدول، واحترام العلاقات الدولية.

3- إحساس تركيا بأن سياساتها السابقة، أدت إلى بروز تحديات مصيرية تهدد أمنها القومي، إذ باتت تجد نفسها أمام صعود كردي في سوريا والعراق ينسحب إلى الداخل التركي على شكل تحدي لبنيان الدولة التركية، ولعل ما عزز من القناعة التركية هذه، هو استفادة الكُرد من توتر العلاقات التركية مع الخارج وانفتاحهم الكبير على اللاعبين الأمريكي والروسي. وعليه، باتت أنقرة ترى ضرورة الانفتاح على الخارج للحد من الصعود الكردي، وتطويع البعد الخارجي في مواجهة مساعي إقامة دولة كردية ستكون تركيا المتضرر الأكبر منها.

حسابات الاتفاق التركي مع إسرائيل

عندما اعتدت إسرائيل على سفينة المساعدات التركية التي كانت متجهة إلى غزة لكسر الحصار المفروض عليها وقُتل عشرة ناشطين أتراك في مايو عام 2010، اشترطت أنقرة أربعة شروط للمصالحة مع إسرائيل، وهي تقديم اعتذار مكتوب، وتعويض أهالي الضحايا، ورفع الحصار عن غزة، وتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الهجوم الإسرائيلي. ومع أن تركيا تخلت لاحقاً عن الشرط الأخير بيد أن إسرائيل لم تستجب للشروط التركية كما أرادت أنقرة. ومع الزمن وجوالات المفاوضات السرية والعلنية، نجحت إسرائيل في التوصل إلى اتفاق بشروطها، ولعل من المفيد هنا التدقيق في كيفية استجابة إسرائيل لهذه الشروط، كالتالي:

1- على صعيد الاعتذار، اكتفت إسرائيل باعتذار شفهي عبر اتصال هاتفي بين بنيامين نتانياهو ورجب طيب أردوغان عندما كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما يستعد لمغادرة مطار تل أبيب في الثاني والعشرين من مارس عام 2013، ووقتها رفضت الخارجية الإسرائيلية الاستجابة لطلب أنقرة نشر نص الاعتذار على شكل بيان على موقعها.

2- الاتفاق جاء دون رفع الحصار عن غزة، وإنما اكتفى بدور تركي في تقديم المساعدات الإنسانية والخدمية لقطاع غزة عبر ميناء أشدود الإسرائيلي المعتمد أصلاً لتمرير المساعدات إلى غزة. 

3- إن تعويض أهالي الضحايا لم يكن وفق الشرط التركي الذي طلب في البداية مائة مليون دولار، حيث نص الاتفاق على تقديم 20 مليون دولار فقط مشروطة بإلغاء الملاحقة القضائية للجنود والضباط الإسرائيليين الذين هاجموا سفن أسطول الحرية.

وبالرغم من أن الاتفاق جاء على هذا النحو، فإن تركيا اعتبرته نصراً سياسياً على أساس أنه يحقق جُملة من الفوائد، لعل أهمها:

1- ينهي الاتفاق التوتر السياسي مع إسرائيل ويفتح صفحة جديدة بين الجانبين على أمل استعادة الحليف القديم والاستفادة من دوره في التطورات الإقليمية الجارية. 

2- يشكل الاتفاق بداية جديدة للدبلوماسية التركية تجاه الخارج، ولعل تزامنه مع رسالة الاعتذار التركية لروسيا على أمل حل الخلافات معها، يشي بأن تركيا ستسير بخطوات متسارعة في هذه الاتجاه، وهو اتجاه قد ينسحب في الأيام المقبلة على مصر وكذلك النظام السوري بعد الأنباء التي تحدثت عن توسط تركيا للجزائر من أجل إعادة خطوط التواصل مع دمشق.

3- تأمل تركيا من الاتفاق اعتمادها معبراً لنقل وتصدير الغاز من البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، ولمثل هذا الأمر جوانب سياسية في ظل بروز ما يشبه تكتل أو تحالف (مصري - يوناني – قبرصي) يقوم على التعاون في مجال مشاريع الغاز في المتوسط.

4- يشكل التعاون العسكري والاستخباراتي والأمني أهم ركائز العلاقة التركية – الإسرائيلية منذ أن اعترفت تركيا بإسرائيل مبكراً في عام 1949، ومن ثم وقَّعت معها سلسلة اتفاقيات أمنية وعسكرية، وصلت في عام 1996 إلى حد وضع الأجواء التركية في خدمة الطائرات الإسرائيلية، ولعل في صُلب الحركة التركية هذه، شراء المزيد من الطائرات الإسرائيلية من دون طيار والتي تشكل أهم أداوت محاربة حزب العمال الكردستاني.

مقابل تلك التطلعات التركية، ترى إسرائيل أن الاتفاق حقق لها جُملة من الفوائد، ففضلاً عن الأهمية التي تعلقها إسرائيل على الاستفادة من دور تركيا الإقليمي في سياساتها تجاه المنطقة، تنظر تل أبيب بعين بالغة إلى ثلاث قضايا مهمة، وهي:

الأولى: التوصل إلى اتفاق مع تركيا لتصدير غاز المتوسط عبر أراضيها نظراً لوجود بنية تحتية قوية وقرب جغرافي من أوروبا. 

الثانية: عودة العلاقات العسكرية إلى ما كانت عليه في السابق، عندما كانت إسرائيل من بين أهم الدول التي تصدر السلاح والمعدات العسكرية إلى تركيا، وترتبط معها بتعاون استخباراتي وأمني ومعلوماتي وتدريبات عسكرية مشتركة دورية، ولعل هذا الجانب يشكل مطلباً أساسياً للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

الثالثة: توجيه ضربة لحركة حماس عبر تفكيك علاقة تركيا بها بعد أن استقر بها العديد من القيادات العسكرية والسياسية والأمنية للحركة، علاوة على دفع تركيا إلى تغيير موقفها من الحركة والقضية الفلسطينية بشكل عام بعد أن رفع أردوغان سقف خطابه السياسي الداعم لها، وأكد مراراً أن بلاده لن تتخلى عن القضية الفلسطينية حتى لو تخلى العالم كله عنها. ولعل إسرائيل حققت الكثير في هذا المجال، بعد أن جاء الاتفاق دون رفع الحصار عن غزة، ونص على وضع حد لنهاية النشاطات العسكرية والأمنية لحركة حماس في تركيا وإبعاد العديد من قادتها وعلى رأسهم صالح العاروري الذي تتهمه إسرائيل بالوقوف وراء النشاط العسكري للحركة في الضفة الغربية.

التداعيات الإقليمية للاتفاق

تبدو المرحلة الأولى لفترة ما بعد الاتفاق التركي – الإسرائيلي هي مجموعة من الخطوات على شكل استعادة الثقة، ولعل من أهم هذه الخطوات، تصديق البرلمان في البلدين على الاتفاق، وتبادل السفراء، والتوقيع على العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية والتجارية، وعودة تدفق السائحين الإسرائيليين إلى تركيا. في حين تتعلق المرحلة الثانية بمسار هذه العلاقة وتداعياتها الإقليمية، ففي صُلب الحركة التركية جُملة من الأهداف الإقليمية، وتتمثل في الآتي:

1- إلى جانب تطبيع العلاقة مع إسرائيل، الإبقاء على علاقة جيدة مع حماس بهدف أساسي هو تعزيز دورها في غزة على قاعدة منافسة دور مصر التي تشكل رئة غزة إلى العالم الخارجي، وربما تقوية موقفها في قضية المصالحة مع مصر، إلا أن هذا المسار التركي يبدو محفوفاً بالمخاطر في ظل مسألتين، الأولى: الدور الثابت والتاريخي لمصر تجاه غزة وتمسك إسرائيل بهذا الدور. والثانية: تداعيات الانعطاف التركي على حركة حماس في ظل الأنباء التي تتحدث عن انقسام في الحركة تجاه الخطوة التركية والتخلي عن شرط رفع الحصار، وهو ما يُرجح حدوث انقسامات وربما انشقاقات في الحركة.  

2- إن تزامن الاتفاق مع الانعطافة نحو روسيا يفرض على تركيا القيام بجملة من الخطوات تجاه الأزمة السورية حسب رؤية موسكو، ولعل من أهم هذه الخطوات إغلاق الحدود في وجه المسلحين وتسليحهم، ومثل هذه الخطوة تعني انكفاء تركيا عن الأزمة السورية، وهي خطوة لا تتطلب فقط تغير في السياسة التركية وإنما تغير الجهات والمسؤولين الأتراك عن الملف السوري، وهو ما يعني التخلص من رئيس الاستخبارات حقان فيدان (ثمة أنباء تتحدث عن نقله من مهامه بعد توقيع الاتفاق مباشرة) الرجل الذي يشكل كاتم أسرار أردوغان.

3- إلى جانب هذه التداعيات التي قد تكون مؤلمة للسياسة التركية، ثمة توافق تركي – إسرائيلي على أن الاتفاق يتيح للجانبين تقوية مواقفهما تجاه القضايا الإقليمية ولاسيما إزاء إيران، فمثل هذا المسار يقرب البلدين أكثر من روسيا التي زودت إيران مؤخراً بمنظومة صواريخ إس 400، كما يخلق مساراً إقليمياً مهماً في مواجهة السعي الإيراني إلى الاستفادة من مرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع الغرب، فضلاً أن الاتفاق يخلق واقعاً جديداً يثير اهتمام دول الخليج العربي والغرب معاً، كمسار يمكن العمل عليه في رؤية واقع إقليمي جديد يتشكل في المنطقة.

وبناءً عليه، يمكن القول إن اتفاق المصالحة التركية – الإسرائيلية أكبر من قضية عودة الدفء إلى العلاقات بين الجانبين بقدر ما هو مسار إقليمي جديد ينتظر تفاعلات وتحولات إقليمية كبرى في الشرق الأوسط.