مقاربة متوازنة:

لماذا تسعى السنغال للتقارب مع دول الساحل والصحراء؟

26 August 2024


قام رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، بزيارة رسمية مفاجئة إلى مالي، في 12 أغسطس 2024، في أول زيارة له إلى باماكو منذ وصول حزبه السياسي للسلطة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها السنغال في مارس الماضي، وهو ما أثار تساؤلات عدة بشأن دلالات هذا الانفتاح الراهن من قبل دكار إزاء التحالف الجديد لدول الساحل والصحراء، ولاسيما مالي؛ ومن ثم الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن هذا التقارب على المشهد الجيوستراتيجي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.

تحركات لافتة لدكار:

شهدت الأسابيع الأخيرة تحركات لافتة من قبل الحكومة السنغالية إزاء دول منطقة الساحل والصحراء؛ وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- زيارات سنغالية متكررة إلى مالي: قام رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، بزيارة مفاجئة إلى مالي، في 12 أغسطس الجاري؛ إذ لم يتم الإعلان عنها مسبقاً، وهي أول زيارة له إلى إحدى دول اتحاد الساحل الجديد، الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وقد التقى سونكو برئيس الوزراء المالي المدني، شوغيل كوكالا مايغا، كما عقد اجتماعاً مع رئيس المجلس العسكري الحاكم في باماكو، آسيمي غويتا؛ إذ أكد رئيس الوزراء السنغالي أن دول غرب إفريقيا يجب أن تتجاوز خلافاتها من أجل إعادة إنشاء إمبراطورية مالية، كما تعهد بأن بلاده لن تسمح بزعزعة استقرار مالي أو فرض عقوبات جديدة عليها، منتقداً قيام مجموعة "الإيكواس" بفرض عقوبات على باماكو.

وتأتي زيارة سونكو إلى مالي بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من زيارة الرئيس السنغالي، باسيرو ديوماي فاي، في مايو الماضي، إلى باماكو، والتي أكد خلالها رغبة بلاده في إعادة مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس".

2- دعم السنغال لموقف دول الساحل ضد أوكرانيا: شهدت العلاقات بين دول اتحاد الساحل الجديد من ناحية وأوكرانيا من ناحية أخرى تدهوراً كبيراً خلال الأسابيع الأخيرة، بعدما وجهت تلك الدول تُهماً لكييف بالتورط في هجوم استهدف عناصر الفيلق الإفريقي الروسي وجنوداً ماليين في باماكو في يوليو الماضي؛ الأمر الذي دفع مالي والنيجر للإعلان عن قطع العلاقات مع أوكرانيا، مع تنامي القلق من تمدد الحرب الروسية الأوكرانية إلى القارة الإفريقية.

وفي هذا الإطار، أعلنت السنغال عن استدعاء السفير الأوكراني لديها، يوري بيفوفاروف، ووجهت له تُهماً بنشر مقاطع فيديو داعمة للهجوم الأخير في مالي، في محاولة من قبل دكار لإظهار الدعم لدول الساحل في موقفها الراهن إزاء كييف.

دلالات مهمة:

عكست تحركات السنغال الأخيرة للتقارب مع تحالف الساحل الجديد، ولاسيما مالي، جملة من الدلالات المهمة، التي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- مساعي دكار لإعادة دول كونفدرالية الساحل الجديدة لمجموعة "الإيكواس": جاءت زيارة رئيس الوزراء السنغالي إلى مالي في إطار مساعي دكار، لإقناع دول تحالف الساحل الجديد، والتي شكلت كونفدرالية مشتركة مطلع يوليو الماضي، للعودة إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس". وكانت مالي والنيجر وبوركينا فاسو قد أعلنت انسحابها من المجموعة، في يناير الماضي، بعدما فرضت مجموعة "الإيكواس" عقوبات على هذه الدول التي شهدت انقلابات عسكرية أطاحت بالحكومات القائمة فيها.

وفي هذا السياق، تسعى السنغال حالياً لإعادة مالي والنيجر وبوركينا فاسو للتكتل الإقليمي "الإيكواس" الذي تأسس عام 1975، وكان يضم 15 دولة قبل انسحاب الدول الثلاث. ويشكل ملف إعادة هذه الدول للكتلة الإقليمية إحدى القضايا المحورية على جدول أعمال الرئيس السنغالي الحالي، باسيرو ديوماي فاي، منذ وصوله إلى السلطة عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها دكار في مارس الماضي.

2- اتجاه السنغال لفك الارتباط بفرنسا: ربطت بعض التقديرات بين التقارب السنغالي الراهن إزاء تحالف الساحل الجديد بالأيديولوجية التي يتبناها الرئيس السنغالي الجديد، باسيرو ديوماي فاي، والتي تختلف تماماً عن سلفه الرئيس السابق، ماكي سال؛ إذ تستهدف أيديولوجية فاي تقويض الهيمنة الفرنسية في السنغال، وهي العقيدة السياسية التي يتبناها حزبه السياسي "الوطنيون الأفارقة في السنغال للعمل والأخلاق" "باستيف"؛ إذ يرى الحزب أن السنغال لا تزال تعتبر مستعمرة فرنسية، وأن الأخيرة تعمل على استغلال ثروات دكار، ويسعى الحزب لإعادة مراجعة العلاقات بين البلدين.

ويتسق هذا الطرح مع التقارير التي اعتبرت وصول فاي للسلطة في السنغال خسارة جديدة للنفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، في ظل معارضة الرئيس السنغالي الجديد للهيمنة السياسية والثقافية الفرنسية في بلاده. وكذلك الحال بالنسبة للجانب الاقتصادي؛ إذ يسعى فاي للخروج من العملة الفرنسية الموحدة (فرنك غرب إفريقي لعدد من الدول التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي)، والدفع نحو سك عملة جديدة خاصة بمجموعة "الإيكواس"، أو إنشاء عملة سنغالية مستقلة. 

في هذا السياق، يأتي التقارب الراهن بين السنغال ودول الساحل، ولاسيما مالي؛ ليعكس أحد أبعاد التوجهات الراهنة للسلطات الجديدة في دكار لفك الارتباط بفرنسا، وتبني مقاربة جديدة تستهدف تنويع حلفاء بلادها الخارجيين، والانفتاح على كافة الأطراف الإقليميين في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.

3- تبني مقاربة متوازنة في سياسة السنغال الخارجية: تشكل الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل والصحراء أهمية خاصة بالنسبة للسنغال، والتي تشترك مع مالي بحدود طويلة تبلغ حوالي 500 كيلومتر؛ ومن ثم فالتوترات الأمنية المتفاقمة في دول الساحل تؤثر بشكل كبير في الداخل السنغالي، كما ترتبط الأخيرة بعلاقات اقتصادية قوية مع باماكو.

ويتماشى ذلك مع السياسة الخارجية المتوازنة التي تتبناها السنغال في عهد الرئيس الحالي، باسيرو ديوماي فاي، والذي يسعى إلى تنويع شراكات وعلاقات بلاده الإقليمية والدولية، فرغم أن دكار تُعد من شركاء الغرب الرئيسيين في منطقة غرب إفريقيا؛ فإن فاي يسعى حالياً لتبني مقاربة أكثر انفتاحاً على مختلف القوى الإقليمية، بما في ذلك دول الساحل القريبة من روسيا، وكذلك الحال بالنسبة للقوى الدولية الأخرى الفاعلة في القارة الإفريقية كالصين.

4- الاتساق مع المقاربة الأمريكية الجديدة في إفريقيا: ذهبت بعض التقديرات إلى اعتبار أن التحركات الراهنة للسنغال في منطقة الساحل والصحراء تتسق مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة؛ إذ بدأت الولايات المتحدة تتبنى مقاربة جديدة تستهدف التهدئة مع دول الساحل التي شهدت انقلابات عسكرية وأضحت قريبة من روسيا، فبعدما أدت الاستراتيجية التصعيدية السابقة لواشنطن إلى نتائج عكسية دفعت المجالس العسكرية الحاكمة في دول الساحل للتخلي عن تحالفاتها السابقة مع الغرب والاتجاه نحو موسكو، تسعى الولايات المتحدة حالياً إلى انتهاج لغة أقل حدة، ومحاولة التغلغل في هذه الدول من خلال حلفاء واشنطن في المنطقة، وربما تشكل السنغال، وكذلك رواندا، أبرز الفواعل التي يمكن أن تعتمد عليها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.

ولعل هذا ما يفسر الزيارة الأخيرة التي قام بها نائب وزير الخارجية الأمريكي، كيرت كامبل، للسنغال، في منتصف يوليو الماضي، في إطار مساعي واشنطن لتعزيز وجودها الاستراتيجي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، إذ تُعد دكار شريكاً إقليمياً رئيسياً للولايات المتحدة في منطقة غرب إفريقيا سواء في الملفات الاقتصادية أم الأمنية.

انعكاسات محتملة:

هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن زيارة رئيس الوزراء السنغالي إلى مالي، وتوجهات دكار الراهنة للتقارب مع تحالف الساحل الجديد؛ وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تنامي التقارب السنغالي مع تحالف الساحل الجديد: رجحت بعض التقارير أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات السنغالية للتقارب مع تحالف دول الساحل الجديد، فلدى السلطات الراهنة في دكار تطلعات كبيرة للحفاظ على علاقات ودية مع شركائها الإقليميين، كما أن تقاربها مع تحالف الساحل الجديد يمكن أن يكون مفيداً لاستقرار المنطقة ككل في غرب إفريقيا، ويتسق هذا الطرح مع تصريحات رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، في أعقاب زياته الأخيرة لمالي؛ إذ أكد أن العلاقات بين الجانبين ستشهد مزيداً من التعاون خلال الفترة المقبلة.

2-تكتل اقتصادي جديد بديل لمجموعة "الإيكواس": ثمة تطلعات راهنة لدى السلطات الجديدة في السنغال لإنشاء عملة جديدة مستقلة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس"، تنهي هيمنة باريس على فرنك غرب إفريقيا، وحال تعثرت هذه المساعي، ربما تدفع دكار نحو تشكيل تكتل إقليمي جديد، بديل عن "الإيكواس"؛ يسعى للتخلص من الهيمنة الاقتصادية لفرنسا، وربما يعزز هذا الطرح وجود بعض أعضاء "الإيكواس" الداعمين للتوجهات السنغالية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عمدت فرنسا إلى إدخال مستعمراتها السابقة في اتحاد لعملة مشتركة تحت مسمى "فرنك غرب إفريقيا"؛ وهو ما أتاح لباريس الهيمنة والتحكم في هذه العملة بل واقتصاديات دولها، وحافظت هذه الدول على عملتها المشتركة بعد إنشاء مجموعة "الإيكواس" عام 1975، بينما حافظت الدول الأنجلوفونية على عملاتها الوطنية. ومنذ مطلع القرن الحالي كانت هناك مساعٍ لإطلاق عملة "إيكو" (Eco)  الموحدة لكافة دول مجموعة "الإيكواس"، لكن حتى الآن باءت كافة محاولات إطلاق هذه العملة الموحدة بالفشل، خاصةً في ظل وجود صراع قائم بين مجموعتين فرعيتين داخل "الإيكواس"، الأولى تتمثل في "اتحاد غرب إفريقيا الاقتصادي والنقدي" (UEMOA)؛ وهو تحالف تشكل عام 1994 من الدول الفرانكوفونية، كمالي والنيجر والسنغال وبنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وتوغو؛ بهدف موازنة النفوذ الاقتصادي للدول الأنجلوفونية (خاصةً غانا ونيجيريا). أما المجموعة الثانية فتتمثل في "منطقة غرب إفريقيا النقدية" (WAMZ).

3- شكوك بشأن انضمام السنغال لتحالف الساحل الجديد: لم تستبعد بعض التقديرات احتمالية أن تنضم السنغال لتحالف دول الساحل الجديد، خاصةً وأن هذا التحالف يسعى إلى تشكيل اتحاد اقتصادي بعملة جديدة مشتركة، من خلال إنشاء صندوق استقرار وبنك استثماري من أجل تحفيز التنمية الإقليمية لدول التحالف. ويحظى هذا النموذج حالياً بدعم السنغال، ودول أخرى كتوغو وتشاد؛ ومن ثم ترجح بعض التقديرات احتمالية انضمام السنغال وتشاد وتوغو للتحالف الجديد لمنطقة الساحل؛ للاستفادة من المكاسب الاقتصادية المحتملة لهذا التكامل الاقتصادي الجديد.

لكن في المقابل، تستبعد تقديرات أخرى إمكانية انضمام السنغال لتحالف الساحل الجديد، في ظل رغبة دكار في الاحتفاظ بعلاقاتها بالقوى الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة، فانضمامها إلى هذا التحالف سيشكل انتكاسة كبيرة في علاقة السنغال بالقوى الغربية؛ وهو ما يتنافى مع المقاربة المتوازنة التي ينتهجها الرئيس السنغالي الحالي، والذي يسعى للحفاظ على علاقات بلاده بمختلف القوى الإقليمية والدولية.

4- تمدد نطاق التنافس الدولي في غرب إفريقيا: في إطار السياسة الخارجية المتوازنة التي تتبناها السنغال، وكذلك غانا، كشفت بعض التقديرات عن وجود تخوفات أمريكية راهنة من مساعي روسيا والصين لتوسيع نطاق حضورهما في غرب إفريقيا؛ ومن ثم تسعى واشنطن حالياً لترسيخ تحالفاتها مع دكار، وكذلك أكرا، من أجل الاعتماد عليهما في مواجهة التحركات الجارية من قبل موسكو وبكين؛ وهو ما سيكرس حالة التنافس الدولي الحاد في إفريقيا، مع توقعات بتمدد نطاق هذه المنافسة، وربما تشكل السنغال ساحة جديدة للتنافس الدولي في غرب إفريقيا.

وفي الختام، يبدو أن هناك تطلعات لدى الحكومة السنغالية الجديدة لتعزيز التقارب مع دول الساحل الإفريقي، ولاسيما مالي، ويرجح أن تشهد الفترة المقبلة زيارات أخرى للمسؤولين السنغاليين إلى النيجر وبوركينا فاسو، لكن لا تزال فرص نجاح الوساطة السنغالية لإقناع هذه الدول بالعودة لمجموعة "الإيكواس" ضعيفة، كما أن انضمام دكار لتحالف الساحل الجديد يبدو مستبعداً أيضاً. لكن يرجح أن تعمد السنغال في المقابل إلى الانفتاح على مختلف دول الساحل والصحراء، وكذلك غرب إفريقيا، كما يتوقع أن تدفع دكار بقوة نحو التوصل لعملة جديدة مشتركة تنهي الهيمنة الفرنسية على الفرنك الإفريقي.