سياسات التجنب:

خيارات إيرانية "حذرة" إزاء الهجمات الأمريكية على الحوثيين

17 January 2024


أعلن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 14 يناير 2024، خلال اتصال هاتفي مع رئيس ما يُسمى بـ"المجلس السياسي الأعلى للحوثيين"، مهدي المشاط، أن الضربات الأمريكية في اليمن تكشف عن "الطبيعة العدوانية" لواشنطن، مُبدياً اعتراض إيران على هذه الهجمات. وهو ذات الأمر الذي كرره وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، بعدها بيوم واحد، خلال لقائه نظيره الهندي، سوبرامانيام جايشينكار، في طهران، مُحذراً من استمرار الهجمات ضد الحوثيين.

وعلى الرغم مما تبديه تلك التصريحات من اعتراض إيراني على الهجمات الأمريكية والبريطانية التي استهدفت معاقل للحوثيين في خمس محافظات يمنية، على خلفية التهديدات التي تسببت فيها المليشيا ضد السفن والناقلات التي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب مؤخراً؛ فإن أوساطاً عدّة قرأت هذا الموقف بأنه "تخاذل" من جانب إيران تجاه الحوثيين، وأنه كان حرياً بها اتخاذ موقف أكثر وضوحاً في مُساندة إحدى أهم أذرعها المسلحة في المنطقة. 

الموقف الإيراني: 

يمكن الإشارة إلى أبرز ملامح الموقف الإيراني جراء الضربات الأمريكية والبريطانية ضد الحوثيين، على النحو التالي:

1- سحب قطع حربية من البحر الأحمر: في تطور لافت، قامت إيران بسحب سفينتها الاستخبارية "بهشاد"، والموجودة عند سواحل البحر الأحمر الجنوبية، إلى ميناء بندر عباس الإيراني المُطل على الخليج العربي، وذلك بالتزامن مع اندلاع الهجمات ضد الحوثيين. وجدير بالذكر أن تلك السفينة كانت مُوجودة منذ عام 2021، واتهمتها الأوساط الغربية بمساعدة الحوثيين في الحصول على المعلومات بشأن السفن والناقلات المارة عبر الممر الملاحي الدولي، ما يسهل على الحوثيين استهدافها. وربما سعت إيران من جراء تلك الخطوة، إلى التأكيد، بشكل عملي، أنها ليست في وارد التدخل لمساندة الحوثيين بعد اندلاع الهجمات ضدهم.

يُضاف إلى ذلك، أن المُدمرة "ألبرز" والسفينة العسكرية "بوشهر"، والتي أُعلن عن عبورها مضيق باب المندب ودخولها البحر الأحمر، في أعقاب الاشتباكات التي وقعت بين القوات البحرية الأمريكية والحوثيين غربي محافظة الحديدة في نهاية ديسمبر 2023، بالإضافة إلى حاملة المروحيات وسفينة الدعم العسكرية العملاقة "مكران"؛ قد تجنبت اتخاذ أي رد فعل على الهجمات ضد الحوثيين، منعاً للدخول في مواجهات مباشرة مع القطع البحرية الأمريكية والغربية في البحر الأحمر. 

2- الاكتفاء بالتنديد بالهجمات: أدانت وزارة الخارجية الإيرانية الضربات الأمريكية والبريطانية ضد أهداف حوثية في اليمن، كما حذر المندوب الإيراني في الأمم المتحدة من أن "أي دولة تشارك في العدوان العسكري على اليمن قد تُعرض نفسها للخطر". ويمكن هنا الوقوف على ملاحظتيْن أساسيتيْن؛ الأولى، تتعلق بأن أغلب التصريحات الإيرانية جاءت في سياق التنديد بالهجمات الغربية باعتبارها انتهاكاً لـ"سيادة اليمن" و"القانون الدولي"، والثانية، تتعلق بالمستوى الصادر عنه تلك التصريحات والذي اقتصر، على الأقل في اليومين الأولين، على بيان الخارجية الإيرانية، مع غياب لكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى، علي خامنئي، وقائد الحرس الثوري، حسين سلامي، وغيرهم. كما أن تنديد الرئيس الإيراني بتلك الهجمات، وبجانب أنه جاء بعد مُضي يومين عليها، لم يخل من تأكيد "أمن الشحن البحري لمختلف البلدان".

ومن جهة أخرى، فإن التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين ما فتئت تؤكد أن الحوثيين يتصرفون بناءً على قراراتهم وإمكاناتهم، وأن طهران ليست مسؤولة عن ممارساتهم. وكان من بين تلك التصريحات ما أدلى به نائب وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كني، في نهاية ديسمبر الماضي؛ في مؤشر على رغبة إيران في التنصل من أي مسؤولية عن تصرفات الحوثيين قد تسفر عن رد فعل غربي ضدها.

3- تفعيل مبدأ "الصبر الاستراتيجي": أصدر المرشد علي خامنئي تعليماته إلى القادة العسكريين باتباع "الصبر الاستراتيجي"، في التعامل مع الولايات المتحدة، وتجنب إدخال إيران في مواجهة مباشرة معها بأي ثمن. وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن هذا الأمر، بعد تفجيري كرمان على مقربة من مرقد قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، مما أسفر عن مقتل نحو 90 شخصاً وإصابة العشرات، وذلك في 3 يناير الجاري. 

وجاءت تلك التأكيدات من جانب خامنئي، لتجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة، ربما لا تكون في صالح إيران في الوقت الحالي. وقد اختبرت الولايات المتحدة ردة فعل إيران، في أكثر من مناسبة، ومنها اغتيال سليماني بضربة قرب مطار بغداد في مطلع عام 2020، كما كررت، خلال الأيام الماضية، استهداف منشآت تابعة للحرس الثوري في سوريا، وقصفت مقراً للفصائل المسلحة في بغداد، أودى بحياة قيادي بحركة النجباء، إحدى المليشيات الموالية لإيران في العراق. بل إن العمليات التي نفذّتها إسرائيل ضد أهداف إيرانية سواءً في الداخل أم الخارج، لم ترد عليها طهران، بالقدر الكافي على الأقل، ولعل آخرها اغتيال القائد العسكري البارز في الحرس الثوري الإيراني، رضي موسوي، في المنطقة الزينبية بالعاصمة دمشق في 25 ديسمبر الماضي.

اعتبارات براغماتية: 

يرتبط الموقف الإيراني من الهجمات الأمريكية والبريطانية ضد الحوثيين، بجملة من الاعتبارات التي يمكن الوقوف على أبرزها على النحو التالي:

1- تفادي المواجهات المباشرة: تحرص إيران، منذ بدء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، على تفادي الدخول في مواجهات مباشرة سواءً مع الولايات المتحدة الأمريكية أم إسرائيل. وعلى الرغم من اتهام تل أبيب وواشنطن لطهران، بدعم حماس، ضمنياً، في العملية التي أطلقتها الأخيرة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي، فإن إيران حرصت على نفي هذا الاتهام في أكثر من مناسبة، تجنباً لتحمل وزر الوقوف وراء عملية حماس، ما قد يُرتب تداعيات قد تصل إلى شن هجمات ضد أهداف إيرانية. 

وبالقياس على ذلك، فقد أشارت وسائل إعلام غربية، بالتزامن مع انطلاق الهجمات الأمريكية والبريطانية ضد أهداف حوثية في اليمن، إلى تلقي أعضاء بالمليشيا تدريبات في "أكاديمية خامنئي"، والتي تقع في مدينة رشت شمالي إيران، تحت إشراف مباشر من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وأن تلك التدريبات بدأت منذ عام 2020. هذا فضلاً عن التهم المستمرة لإيران بإمداد الحوثيين بالأسلحة والذخائر. 

ومن جهة أخرى، فإن قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 2722، والصادر في 10 يناير الجاري، بإدانة هجمات الحوثيين ضد السفن والناقلات في البحر الأحمر، قد يُعزز المسوغات التي تكفل توجيه ضربات للحوثيين وداعميهم، لذا حرصت إيران على تجنب ذلك الأمر، بإبداء موقف لا يرقى إلى مستوى مساندة حليفها الحوثي.

2- تنسيق أمريكي مسبق مع إيران: تشير بعض التقديرات ربما إلى وجود تنسيق مسبق بين الولايات المتحدة وإيران قبل تنفيذ الضربات التي وُجهت ضد الحوثيين، ويمكن الإشارة هنا إلى تأكيد الرئيس جو بايدن، في 13 يناير الجاري، أن واشنطن سلّمت رسالة بشكل خاص إلى طهران بشأن الحوثيين. كما أن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، كان قد بعث، خلال جولته إلى المنطقة، والتي بدأها في 4 يناير الجاري، برسائل إلى إيران، بأن تقوم الأخيرة بحثّ الحوثيين للتوقف عن استهداف السفن والناقلات في البحر الأحمر، وإلا سيكون البديل هو شن هجمات ضدهم. 

وربما يكون التنسيق المسبق من جانب الولايات المتحدة مع إيران، بهدف الحيلولة دون اتساع نطاق الحرب الحالية في المنطقة، وهو ما تسعى واشنطن للمحافظة عليه منذ بدء الصراع في قطاع غزة. وقد أرسلت العديد من الرسائل إلى إيران، لحثها وحلفائها في المنطقة على تجنب اتساع نطاق الحرب، سواءً من خلال الوسطاء أم من خلال القطع الحربية التي أرسلتها إلى المنطقة لردع طهران وحلفائها. وفي هذا السياق، أشار الرئيس الأمريكي، بعد قصف مواقع الحوثيين، إلى أن بلاده لا تريد حرباً ضد إيران، مُتوقعاً بأن الأخيرة لا تريد حرباً معهم أيضاً. 

3- استكمال التفاهمات مع واشنطن: تصبو إيران إلى استكمال التفاهمات التي كانت قد توصلت إليها مع الولايات المتحدة، قبيل اندلاع الصراع في قطاع غزة، والتي أفضت إلى توصل الطرفين إلى اتفاق حول تبادل السجناء وحصول طهران عن أموالها المُحتجزة لدى كوريا الجنوبية، والتي تُقدر بـ6 مليارات دولار، بوساطة قطرية، إذ تسعى طهران إلى أن يتم استئناف مثل هذه الصفقات مع واشنطن، والتي قد تفضي إلى رفع جزئي للعقوبات المفروضة عن إيران.  

ويرتبط ذلك أيضاً بقُرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2024، والذي يمثل عاملاً ضاغطاً يحتم على إيران المُضي قُدماً في مسار "مُهادنة" الإدارة الأمريكية الحالية، وعدم الدخول معها في صدامات قد تحرمها من عقد صفقات في الوقت الحالي، خاصةً مع تزايد الترجيحات بشأن احتمالية قدوم إدارة جمهورية للبيت الأبيض، قد تتخذ موقفاً أكثر حزماً من طهران.

سيناريوهات ثلاثة: 

يتوقف رد الفعل الإيراني جراء الهجمات ضد الحوثيين على المدى الذي قد يصل إليه التصعيد الأمريكي والبريطاني ضد المليشيا اليمنية. ويمكن الإشارة إلى أبرز السيناريوهات المُحتملة في هذا الصدد على النحو التالي:

1- تجنب التدخل: قد تُحجم إيران عن التدخل لدعم الحوثيين، بشكل فعلي، وذلك في حال استمرت الضربات الأمريكية والبريطانية في "حدّها الأدنى"، أي اقتصرت على مستوى الفعل ورد الفعل. وهو ما يُشير إليه الوضع الحالي بين الجانبين، إذ إنه بالرغم من أن حجم تلك الضربات قد تجاوز الـ150، بما شمل نحو 30 موقعاً، فإن عدد القتلى لم يتجاوز 10 أشخاص، وفق تقديرات، منهم 5 أشخاص في استهداف موقع إطلاق للصواريخ يقع في منطقة اللحية شمالي الحديدة، والذي كان قد استهدف مُدمّرة أمريكية في 14 يناير الجاري. 

وعليه، يمكن استنتاج أن الضربات التي استهدفت الحوثيين تحذيرية أكثر من كونها فارقة في شل قدراتهم العسكرية، بل تُشير بعض التقديرات إلى أنه تم إبلاغ الحوثيين بتلك الضربات قبل تنفيذها لتجنب وقوع خسائر بشرية أو تدمير كبير لمخازن الأسلحة والذخائر والبنى التحتية الخاصة بهم، فيما يبدو محاولة أمريكية لعدم استنفار رد فعل يفاقم التصعيد في البحر الأحمر. ووفقاً لتلك المعطيات، فإنه يُرجح أن يظل رد الفعل الإيراني قاصراً على التنديد دون اتخاذ أي إجراءات فعلية لدعم الحوثيين. 

2- التدخل المحسوب: مع تكثيف الضربات الأمريكية والبريطانية، والتي قد تنضم لها دول أخرى، ضد الحوثيين، واستهداف مقدراتهم التسليحية والعسكرية؛ فإن ذلك من شأنه أن يدفع إيران إلى أحد سيناريوهين أو كليهما، الأول، هو العودة إلى مهاجمة السفن والناقلات التي تمر عبر مياه المنطقة، وقد استبقت طهران الهجمات التي شنتها واشنطن ولندن ضد الحوثيين، بيوم واحد، بأن قامت باحتجاز ناقلة نفط أمريكية في بحر عُمان، بزعم الرد على قيام الولايات المتحدة بتوقيف الناقلة ذاتها ومُصادرة شحنتها من النفط الإيراني العام الماضي، في حين طالبت واشنطن بالإفراج عنها فوراً. والسيناريو الثاني، هو حثّ طهران أذرعها في المنطقة على التصعيد ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، وذلك في محاولة من جانب إيران لتخفيف الضغط عن الحوثيين، في إطار ما يُسمى بـ"وحدة الساحات"، وهو ما يحقق هدفها أيضاً الخاص بعدم الدخول في مواجهات مباشرة. 

3- التدخل المباشر: وهو احتمال مستبعد ربما، لكنه وارد، وذلك في حالة حدوث تغير كبير في الحسابات، بأن تستمر الهجمات ضد الحوثيين بشكل مُوسّع، وبالحد الذي قد يصل بها إلى الخروج من معادلة نفوذ إيران الإقليمي، بالإضافة إلى ما قد يُرافق ذلك من هجمات إسرائيلية وغربية تطال أهدافاً إيرانية استراتيجية في مساحات نفوذها في المنطقة أو داخل حدودها، وهو ما يقلّص الخيارات أمام طهران، بشكل قد يُجبرها على اتخاذ رد فعل مباشر. 

وفي الختام، يمكن القول إن موقف طهران إزاء التصعيد الغربي ضد الحوثيين، ليس مُفاجئاً، وإنما هو تأكيد مرة أخرى أنها باتت غير معنية بالانخراط بشكل مباشر في مواجهات مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، على الأقل في الوقت الحالي، وأن تركيزها الآن مُنصب على استكمال التفاهمات التي كانت قد توصلت إليها مع واشنطن، بما قد يرفع عنها العقوبات، ولو بشكل جزئي؛ وذلك في تأكيد للفرضية التي تقول إن إيران "الثورية" قد تراجعت خطوة إلى الوراء لصالح إيران "الوطنية". ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن طهران في وارد التخلي عن نفوذها الإقليمي، كأحد الأهداف الاستراتيجية لسياستها الخارجية، مع بقاء خيار التدخل المباشر في حال تضرر هذا النفوذ بشكل كبير.