كوكب المدن:

تصاعد أهمية المدن الكبرى في الشؤون العالمية

15 August 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول، أغسطس 2014.

كانت المدن دائماً تعطي ثقلاً للدولة، سواءً من حيث كثافتها الديموغرافية الهائلة التي تعرفها المدن العملاقة، مثل القاهرة وطهران وبوينس أيرس، بالرغم من كل ما تحمله من ظواهر سلبية، تمكنت بعض المدن مثل بكين من السيطرة عليها، أو سواءً من حيث الثقل الداخلي للمدينة اقتصادياً ومالياً مثل طوكيو ونيويورك وديترويت قبل أن تنهار بها صناعة السيارات مؤخراً.

لكن الجديد الذي ترتسم بعض ملامحه في الوقت الراهن، يتمثل في ذاك التنافس بين العديد من المدن حول انتقالها إلى مرحلة المدينة الذكية والمدينة الخضراء، فقد أصبحت العديد من المدن حول العالم قوة بذاتها على المستوى الخارجي، ويطرح بعضها نفسه كنموذج يحتذى على عدة أصعدة تكنولوجية واقتصادية وبيئية؛ الأمر الذي جدد النقاش حول ظاهرة المدن ودورها الإقليمي والعالمي.

 في هذا الإطار تناقش هذه الورقة أبرز نماذج المدن الأكثر شهرة على المستوى العالمي، وتبحث مكامن قوة وضعف كل منها، والفرص والتحديات التي تتعامل معها المدن من أجل الوصول إلى أفضل مستوى من التنمية والتحديث، وتوفير الخدمات، وتسهيل الإدارة، وتنمية الاقتصاد والتجارة.

أولاً: المدن العملاقة.. فرص ومخاطر هائلة

لاتزال المدن العملاقة Mega Cities تطرح تساؤلات عدة وتحديات جمة حول كيفية إدارة تكتلات هائلة من البشر، وكيف يمكن تفادي مخاطر هذه المدن والاستفادة من الإمكانيات الواعدة المستترة خلف الزحام والعديد من المظاهر السلبية أحياناً.

ويقصد بالمدن العملاقة، تلك التي يعيش بها أكثر من 10 ملايين نسمة، أي أن هناك 30 مدينة عملاقة حول العالم، يتركز أغلبها في قارتي آسيا وأمريكا اللاتينية وفقاً لموقع "إحصاءات المدن" لعام 2014، ويتوقع أن يتضاعف عدد هذه المدن بحلول عام 2020 بسبب التحضر السريع والحركة السكانية والهجرة، وأن يعيش ثلثا سكان العالم بالمدن العملاقة بحلول عام 2050.

وبالرغم من قِدَم ظاهرة المدن الضخمة، وتعدد تفسيرات علماء الاجتماع وعلماء النفس حول سلوكيات البشر في المناطق كثيفة السكان، ومحاولتهم تقديم حلول للعديد من المشكلات الاقتصادية والمجتمعية المرتبطة بها، فلاتزال التنبؤات الأكثر تشاؤماً هي المسيطرة بشأن مستقبل هذه المدن، وترتكز على فرضية تقول إن "المدن العملاقة تساوي مخاطر عملاقة، فزيادة السكان تنتج عنها زيادة الضغط على الموارد، وفي ظل ارتكاز أغلبية تلك المدن على واقع اجتماعي واقتصادي هش، تظهر العشوائيات ومظاهر الفوضى، وتتراجع قوة المؤسسات السياسية، وأحياناً تتحول بعض المناطق إلى بؤر لتوترات وصراعات قد تمتد إلى المدن المجاورة وبقية الدولة.

وفي مقابل ذلك السيناريو المتشائم، برز اتجاه آخر يدعو لإعادة التفكير في التأثير الإيجابي للمدن العملاقة من منظور استغلال الإمكانيات الكامنة بها، فثمة مدن مؤهلة للعب أدوار اقتصادية وثقافية عالمية إذا ما تم استخدام مواردها بالشكل الأمثل، بل إن هناك مدناً تحولت بالفعل لمركز ثقل إنتاجي واقتصادي ومالي ومركز للابتكار وطرح مبادرات عالمية، لما تمتلكه من قدرات وموارد مادية ورأسمال بشري وفاعلين سياسيين وعلماء وشخصيات أخرى لها ثقل إقليمي ودولي، مثل طوكيو وشنغهاي بآسيا ونيويورك في أمريكا.

لكن يتوقف هذا الأمر، خصوصاً في الدول النامية، على كيفية التعامل مع ما لم يجرِ التخطيط له مسبقاً، أي الجانب الخاص بكثافة رأس المال البشري، الذي يعد نقطة انطلاق هذه المدن نحو التنمية، فنجاح الدولة في تحويل أزمة الكم إلى تعظيم الكيف هو ما يضمن احتمال تحول المدينة العملاقة إلى مركز ثقل يدعم القوى الناعمة للدولة على المستوى العالمي، وهو ما يتطلب نجاح القيادات في تحويل العنف والإحباط وقيود الفقر وسوء جودة الخدمات إلى محفزات تقوم على سيادة قيم العمل والإنجاز، مثلما هي الحال في مدينة عملاقة كالعاصمة الصينية بكين، التي يسيطر عليها شعور قوي بقيمة الإنتاج ودور الفرد ومسؤوليته الاجتماعية في المدينة.

ثانياً: المدن الكوكبية فاعل عابر للحدود

برز مفهوم المدن الكوكبية Global Cities في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وكانت أستاذة الاجتماع، ساسكيا ساسن، من جامعة شيكاجو، هي أول من لاحظ ظاهرة المدينة "الكوكبية" أو "العالمية"، مستخدمةً هذا المصطلح للإشارة إلى مدن مثل لندن ونيويورك وطوكيو، التي تسيطر على قدر كبير من صفقات الأعمال التجارية في العالم. وقد تعددت المصطلحات التي تشير إلى ذات المفهوم بين مدينة العالم (World City) والمدينة الأولى/الرئيسية (Alpha City) ومركز العالم (World Center)، والتي تشير جميعها إلى أهمية هذه المدن كمحور أو مركز للنظام الاقتصادي العالمي.

وقد فرض هذا النوع من المدن نفسه بدايةً بسبب قوة اقتصاد المدينة وفاعليته وتأثيره في حركة الاستثمارات والأموال والتجارة الداخلية والخارجية، ثم ازداد ثقل بعض هذه المدن وتصاعد دورها في صناعة القرار الاقتصادي والسياسي، حيث أصبحت بعض الخطط تُبنَى على المدن وليس على الدول، خاصة عندما تحتوي دولة واحدة مثل الولايات المتحدة والصين على مدن كوكبية لها ثقل عالمي. وحتى في الدول النامية أصبحت بعض المدن لها هذا الطابع الكوكبي، ولعل مدينة بومباي الهندية تقدم مثالاً واضحاً على ذلك، فهي من أكثر المدن تأثيراً وتنافسية بين المدن العالمية ومنها تنعقد اتفاقات وصفقات لا من الدولة ذاتها.

أما التطور اللافت فهو مساهمة المدن "الكوكبية" في أنحاء العالم، وفق بعض التقديرات، بما يتراوح بين 70% إلى 80% من الناتج العالمي الإجمالي، وثمة تطور آخر يشير إلى أن تأثير المدن الكوكبية قد تجاوز البعد الاقتصادي والتجاري ودوائر صنع القرار، لينتقل التأثير كذلك إلى الأنماط الثقافية والحياتية التي تصدرها هذه المدن إلى الخارج، إلى درجة باتت معها بعض المدن تقدم نفسها باعتبارها "نموذجاً" لما ينبغي أن يكون عليه تأسيس المدينة "الكوكبية"، ومثال ذلك نيويورك وبومباي وطوكيو ودبي.

وبالرغم من تعدد واختلاف الخصائص والمعايير التي تُستخدم بغرض تصنيف أي مدينة ضمن المدن "الكوكبية"، فإن هناك ما يشبه الاتفاق حول بعض المؤشرات، أبرزها: توفر تسهيلات مهمة ومتنوعة في مجال الخدمات المالية الدولية، ووجود المراكز الرئيسية لأهم وأكبر الشركات العالمية والمؤسسات المالية والبورصات والمصانع الكبرى ومراكز الابتكارات والاختراعات الحديثة في مجالات الاقتصاد والمعرفة والثقافة والإعلام والتواصل العالمي، والقدرة على التحكم في حركة التجارة والاقتصاد بدائرة الجوار وتسهيل حركة التجارة، وقدر من التأثير في اتخاذ القرار على المستوى العالمي. وعلاوة على ذلك تعمل نسبة كبيرة من سكانها في قطاع الخدمات والمعلومات، ولديها مؤسسات تعليمية ذات جودة عالية وجامعات تجذب طلاباً من جميع أنحاء العالم وتصدر منها الأبحاث المتقدمة.

وقد حدد مؤشر المدن الكوكبية الصادر عن منظمة آت كيرني At-Kaeraney الكورية الجنوبية، والتي تتبع حركة هذه المدن منذ عام 2008، خمسة أبعاد أساسية لقياس ترتيبها حول العالم، هي: الأنشطة الاقتصادية-التجارية، ورأس المال البشري، وتبادل المعلومات، والانخراط السياسي، والخبرات الثقافية. ووفقاً لقياس المؤشر الصادر في عام 2014، جاء ترتيب المدن الأكثر تأثيراً على مستوى العالم على النحو التالي: نيويورك، لندن، باريس، طوكيو، هونج كونج، لوس أنجلوس، شيكاغو، بكين، سنغافورة، واشنطن، بروكسل. واحتلت مدينة دبي الترتيب رقم 27 على مقياس المدن الكوكبية من بين 84 مدينة حول العالم.

ثالثاً: المدن الذكية.. مكانة عالمية ومشكلات متوقعة

أدى التطور التكنولوجي السريع القائم على الابتكار والإبداع إلى إنتاج نموذج جديد من المدن، يعرف بالمدن الذكية (Smart Cities)، يقوم على استخدام أحدث الوسائل والتطبيقات التكنولوجية لتطوير جودة الحياة بالمدينة ودعم قدرتها وفاعلية نظمها، وتسهيل الحصول على الخدمات العامة، ودعم التنافسية العالمية، ودفع عملية التحديث، بحيث يمكن القول إن هذا النوع من المدن ينقل الثقل الاقتصادي للمدن الكوكبية والثقل الديموغرافي للمدن العملاقة، إلى ثقل دولي من نوع آخر يدعم مكانة الدولة وصورتها الخارجية، فهذا النموذج من المدن ربما يكون موضع تنافس مستقبلي بين الشركات والدول الأكثر تطوراً في مجال التكنولوجيا والأكثر قدرة على الإبداع.

وقد ظهرت فكرة المدن الذكية خلال العقد الماضي، ومر المفهوم ذاته بالعديد من التطورات والمراحل، التي تتوافق ربما مع درجة التطور التكنولوجي في وسائل الاتصال ونقل المعرفة، ليتنقل المصطلح من المدن المعلوماتية (Information Cities) إلى المدن الرقمية (Digital Cities) إلى المدن الافتراضية (Virtual Cities)، ثم إلى المدن الذكية، وكلها مفاهيم تشير إلى محاولات استخدام التكنولوجيا وتطبيقاتها في المدن بهدف الحد من مخاطر بعض التحديات المستقبلية، مثل تغير المناخ وتجنب الأضرار البيئية والحد من الأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية.

وبالطبع ترتكز المدن الذكية على التطبيقات والتقنيات التكنولوجية، والتي من أبزرها إنترنت الأشياء (Internet of Things)، حيث يمكن الربط بين المعلومات (Data)، والأفراد (People)، والأشياء (Things)، وإمكانية إجراء العديد من العمليات والمعاملات عبر شبكة الإنترنت.

ويسعى المخططون لتطبيقات المدن الذكية إلى الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة المتعددة، ومنها:

• الاقتصاد الذكي (Smart Economy): يقصد به امتلاك المدن صناعات ذكية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصناعات الأخرى، التي تعتمد على الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات كمكون رئيسي في عملية التصنيع.

• الحوكمة الذكية (Smart Governance): تتضمن استخدام التكنولوجيا في الخدمات العامة ودعم فاعلية الحكومة الإلكترونية، واستخدام وسائل الاتصال الحديثة في ممارسات الحكومة التقليدية مثل (E-Diplomacy) وإنجاز الخدمات العامة عبر شبكة الإنترنت، والاستثمار في مجال تكنولوجيا المعلومات لتعزيز كفاءة أدائها وإدارة الشؤون العامة.

• الحراك الذكي (Smart Mobility): بحيث يدخل الإنترنت في كافة شؤون الحياة خصوصاً التعليم والعمل، وحتى وسائل الترفيه، إذ تقدم المدن الذكية خدمة "الواي فاي" مجاناً للعامة داخل المدينة، مما يتيح توفير الخدمات الإلكترونية بالمدينة بشكل دائم.

• البيئة الذكية (Smart Environment): تستهدف البيئة الذكية الوصول بالمدينة إلى مستوى متقدم من الأمن وحماية الفرد من ناحية، وحماية هوية وتراث المدينة داخلياً وخارجياً من ناحية أخرى، اعتماداً على تطبيقات مبتكرة.

• الحياة الذكية (Smart Living): تتضمن عدة أوجه للممارسات التي تتعلق بتعزيز جودة حياة المواطنين مثل الثقافة والصحة والإسكان والسياحة، ومن أهم تطبيقاتها (E-Health)، وهو تطبيق يتم من خلاله تشخيص ومتابعة المرضى عبر الإنترنت.

ومما لا شك فيه أن المدن الذكية تعتبر بيئة خصبة لجذب العقول المبتكِرَة والمبدعين ورواد التفكير في مجال التكنولوجيا حول العالم لأنها لا تضع حدوداً للخيال؛ وهو ما سوف يعطيها ثقلاً على المدى البعيد ويحولها لمصانع تحويل الخيال العلمي إلى واقع معاش.

وبالرغم من كافة الإيجابيات التي يمكن إيجازها في رفع كفاءة إدارة المدن في شتى المجالات ربما لدرجة قد تتجاوز احتياجات السكان ومتطلباتهم، فإن ثمة تحديات وتخوفات قد تنجم عن مثل هذا النمو والتحديث المتسارع، لأنه قد يربك المواطن غير المعتاد على التكنولوجيا المتقدمة، بل إن الآلية التكنولوجية حينما تدخل مناحي الحياة كلها، فربما تقدم تحدياً مجتمعياً أكثر خطورة إذا انفصلت في سرعتها ومنطقها عن العوامل المجتمعية وعن حدود الإدراك البشري، فقد يُصَاب قطاع من المواطنين بالعزلة عن الآخرين أو يتحول إلى "كائن منفرد بذاته"، وقد يُصَاب آخرون بالاغتراب أو الارتباط الوثيق بالأشياء لدرجة لا يمكن الفكاك منها؛ مما يعني أننا قد نكون أمام نموذجين متطرفين اجتماعياً، أولهما لا يستطع استيعاب التغيرات السريعة، وثانيهما يلتصق بها لدرجة عدم الانفصال الوجداني.

رابعاً: المدن الخضراء حلم يداعب الخيال

على غرار المدن الذكية التي تسعى لمعالجة أوجه الخلل الإداري والخدماتي الذي ينتشر في كثير من المدن العملاقة وغيرها من المدن الصغرى، فإن ثمة اتجاهاً نظرياً يدعو إلى نموذج جديد من المدن تعرف باسم "المدن المستدامة" (Sustainable Cities) أو "المدن الخضراء"، ومنبع هذه الفكرة أن المدن في أنحاء العالم مسؤولة عن أكثر من 70% من استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون.

وقد بدأت بعض الدول في تطوير نماذج لمدن مصغرة تقوم على "الاقتصاد الأخضر" من خلال تحسين المواصلات والطاقة والمباني والتكنولوجيا والماء وجمع المخلفات ومحاولة تحقيق منافع أخرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ويتفق علماء التنمية على أن المدن المستدامة لابد أن تلبي احتياجات الحاضر دون التضحية بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها؛ إذ يجب بناؤها بطريقة تأخذ في الاعتبار المعايير البيئية، وتعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية وتصدير جزء منها، وتعتمد على مصادر الطاقة المتجددة لتحد من التلوث إلى الحد الأقصى، وتحقق الاستخدام الأمثل لمواردها وأرضها، وتعتمد على إعادة تدوير المخلفات إلى طاقة أو صناعات أخرى. وتعتمد آليات العمل في المدن المستدامة على التكنولوجيات الحديثة من أجل التوسع في استخدام وتطوير مصادر الطاقة المتجددة والبديلة مثل توربينات الرياح، والألواح الشمسية، والغاز الحيوي الذي يتم تدويره من الصرف الصحي.

كما يخطط لأن تعتمد تلك المدن على ما يعرف باسم "الزراعة الحضرية" (Urban Farming)، بحيث يتم إدماج الزراعة في النظام الاقتصادي والبيئي للمدينة بشكل مباشر من خلال مواد حضرية في الزراعة مثل النفايات العضوية ومياه الصرف الصحي، ويساعد هذا النوع من الزراعة على توفير وقت وتكاليف النقل، ما يؤثر إيجابياً على البيئة.

وبالنسبة للصناعة، فإنها تعتمد المناطق الصناعية البيئية (Eco Industrial Park)، وتعني تجميع عدد من الشركات والمؤسسات في مكان واحد بحيث يتم إلزامها بمعايير الجود البيئية وتدعيم استخدامها للمواد الأقل ضرراً على البيئة مثل مواد إعادة التدوير.

ويتكامل مع ذلك التوسع في توفير بدائل تحد من ارتفاع درجات الحرارة مثل زراعة الأشجار، ونشر أنظمة التهوية الطبيعية، وزيادة المسطحات المائية، وزيادة المساحات الخضراء بحيث تعادل 20% من المساحة الكلية للمدينة. بالإضافة إلى تحسين وسائل المواصلات العامة للتقليل من انبعاثات السيارات، وزيادة طرق المشاة والدراجات، والحفاظ على التوازن بين الكثافات السكانية وكثافة وسائل المواصلات، لتجنب احتمالات ارتفاع الحرارة بسبب كثرة وسائل المواصلات في المدينة.

خاتمة

يطرح التطور التكنولوجي الهائل والتحديث السريع خيارات واسعة أمام البشرية، لم تقتصر فقط على التطبيقات الخاصة بمجال محدد كالخدمات الإلكترونية والطاقة المتجددة وغيرها، بل تجاوزت إمكانيات استغلال التكنولوجيا ذلك لتوجد خيارات رحبة أمام مستقبل التحضر عبر إمكانية إيجاد نماذج أكثر تعقيداً مما عرفته الإنسانية في تأسيس المدن، والتي بدأت تتحول من مساراتها التقليدية المعروفة، مثل المدن العملاقة والمدن الكوكبية، إلى نماذج جديدة لاتزال قيد التنفيذ، أبرزها المدن الذكية والمدن المستدامة أو الخضراء.

ويوضح العرض السابق أن حركة تطور وتطوير المدن لم تتوقف عند نمط ما، لكنها تشهد تغيرات هائلة نابعة من التكنولوجيا والتحديث، ولذا فإن مزيداً من تصاعد تأثير دور المدن على المستوى الدولي هو أمر متوقع خلال السنوات القليلة المقبلة، لدرجة أن كثيرين من المتخصصين الاقتصاديين والاجتماعيين وحتى دارسي العلاقات الدولية يرشح العديد من المدن لأن تصبح بمنزلة مراكز لقيادة العالم إلى جوار الدول.

وربما خير دليل على هذا التطور أن أنواع المدن الحديثة لا تقتصر فقط على أي من الأنماط الأربعة السابقة التي تناولتها الورقة، بل إن هناك مدناً طبعت ميزتها الخاصة كونها مكاناً للالتقاء الثقافي بين جنسيات متعددة فيما يطلق عليه المدن المتعددة الجنسيات (Cosmopolitan Cities)، والتي تعيش تحت لوائها جنسيات وانتماءات وثقافات متعددة فرضت على من يعيش فيها التمتع بقيم التسامح والحرية لضمان استمرار السلام في المدينة.

أخيراً يمكن القول إنه لا توجد حدود فاصلة وقاطعة للتفرقة بين أنماط المدن، بل تداخلت بين كثير منها، أي أن هناك مدينة عملاقة وكوكبية وذكية في آن واحد، وهو ما قد سمح به توسع القائمين على شؤون المدينة في مشروعات خدمية وخطط استراتيجية تحديثية تهدف إلى تحويل المدينة لمركز ثقل عالمي في مجالات مختلفة، اقتصادية وسياسية وتكنولوجية وثقافية وعلمية وبيئية.

غير أن كافة هذه النماذج من المدن تطرح مشكلات كبرى كما تطرح فرصاً واعدة، فمعظم المدن العملاقة لاتزال تواجه مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية، والمدن الكوكبية طغى عليها الطابع النازع إلى كثافة العمل على حساب العلاقات المجتمعية أحياناً وغلب على البعض ولاؤه للمدينة على ولائه للدولة ذاتها، فيما تطرح المدن الذكية في حالة انتقالها الكامل لهذا النمط الناشئ تخوفات مجتمعية ومخاطر انعزالية الشخصية الفردية، فيما تبقى المدن المستدامة بذاتها تحدياً كبيراً قد يجابه كثيراً من الصعوبات حتى يحدث التحول الأخضر المنشود.