استعادة الدولة:

اتجاه استرداد السيادة في بعض البلدان العربية

22 August 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول، أغسطس 2014.

تصدرت إجراءات استعادة الدولة في الأشهر الأخيرة الاتجاهات الصاعدة في معظم الدول العربية، وذلك على نقيض الأطروحات السائدة حول تصدع الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط تحت وطأة التحولات الجذرية التي فرضتها "الثورات" العربية، إذ يرتبط هذا الاتجاه بالصعود الانتخابي غير المسبوق للرئيس عبدالفتاح السيسي في مصر، والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والدعم الشعبي للحرب على الإرهاب في ليبيا واليمن، وهو ما يؤشر إلى أن ثمة قوى داخلية تعمل على عودة الدولة بقوة لتستمر فاعلاً مركزياً لشغل الفراغ السياسي الناتج عن انحسار دورها تحت ضغط الموجات الاحتجاجية، وصراعات السلطة، وتفكك وانقسام النخب وصعود الفاعلين من غير الدول لأداء أدوار موازية تهدد بقاء الدولة وتماسكها.

أولاً: عودة الدولة في الاتجاهات النظرية

لاتزال الدولة هي الوحدة الرئيسية المسيطرة على مختلف الاتجاهات النظرية في أدبيات العلوم السياسية على الرغم من صعود الاتجاهات النظرية التي تركز على الفاعلين ما دون الدول، مثل الحركات الانفصالية، والميليشيات المسلحة، والتنظيمات الإرهابية والفاعل الفرد، ومؤسسات التكامل الإقليمي والدولي العابرة للقومية على غرار المجتمع العالمي World Society – وفق مصطلح باري بوذان– تعبيراً عن تلازم موجتين إحداهما تفكيكية أدت لتشظي مراكز القوة السياسية وانتشارها وانزواء الدولة كفاعل رئيسي يتمتع بالسيادة المطلقة، والثانية تكاملية دفعت باتجاه تكوين كيانات عابرة للحدود ذات سلطات أعلى من سيادة الدولة، بيد أن الدولة لم تغب بأي حال عن أدبيات العلوم السياسية. ولعل اختيار بيتر إيفانز، وديتريتش ريشيمير، وتيدا سكوكبول عنوان "إعادة الدولة Bringing the State Back in" كي يتصدر كتابهم الصادر عام 1985، والذي ركز على الدولة كفاعل مستقل Autonomous وعلى قيم الدولة State Norms كأحد أهم محددات صنع السياسات العامة التي لا تأتي استجابة آلية للمطالب المجتمعية وضغوط أصحاب المصالح Stake Holders فحسب، وإنما كمحصلة لقدرات الدولة ومدى ما تتمتع به من مؤسسية واعتبارات التكلفة والعائد والمصالح الأكثر حيوية من منظور السلطة.

وكان الاجتهاد الأهم حول دور الدولة قد تمثل في كتاب "فرانسيس فوكوياما" المعنون (بناء الدولة .. النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين)، حيث يرى أن بناء الدولة، وليس تحجيم دورها، بات القضية الأهم في القرن الحالي، كون الدول الفاشلة باتت تمثل تهديداً للأمن العالمي، خاصة أن موجات التحول الديمقراطي المدفوعة بضغوط خارجية على غرار الحرب الأمريكية على العراق، وإخفاق الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في تحقيق الرفاه الاجتماعي، قادا إلى تكون حزام من الدول الفاشلة والمضطربة، يمتد من شرق أوروبا إلى جنوب شرق آسيا.

ويرتبط ذلك بأطروحات العلاقة بين الدولة والمجتمع التي قدمها جويل مجدال  Jeol Migdal حول نموذج الدولة في المجتمع State In Society Approach، حيث أكد مجدال في مراجعته النظرية أن الدولة ليست ذلك الكيان الهيراركي الموحد، وإنما تتضمن عناصر للقوة تتكامل بهدف التحكم في القوى الاجتماعية التقليدية التي تتحدى سلطتها، ومن ثم تتبع الدولة سياسات إدماجية أو إقصائية بهدف مواجهة هذه التكوينات الاجتماعية وضبط حركتها.

ويرتبط عدم الاستقرار لدى مجدال باختلال علاقات القوة بين الدولة والتكوينات الأولية في المجتمع في إطار نمط الدولة الضعيفة والمجتمع القوي، حيث تخفق الدولة في تحقيق الضبط الاجتماعي وتدخل في علاقة صراعية مع المجتمع الذي يبدأ تكوين مؤسسات موازية للدولة لملء مساحات الفراغ الناجمة عن ضعف بنية الدولة التي تحاول تعويض ضعفها بممارسات تعسفية.

ويتفاقم عدم الاستقرار السياسي مع سيادة المعادلة الصفرية بين الطرفين، بمعنى أن زيادة قوة الدولة تكون خصماً من رصيد القوة المجتمعي والعكس صحيح، أي أن قوة المجتمع تأتي على حساب إضعاف سلطة الدولة، بينما يتمثل الحل الأمثل في سياسات تضمينية تكاملية تتبعها الدولة تعزز التعاضد بين الدولة والمجتمع، ومن ثم سيادة علاقة غير صفرية تقوم على تقوية طرفيها.

ثانياً: تداعيات الثورات على الدول العربية

أججت "الثورات" العربية وما تبعها من موجات حراك احتجاجي جدلاً محتدماً حول ما خلفته من اختلالات هيكلية أصابت أبنية ووظائف الدولة، في ظل تصاعد حدة التهديدات التي تحيق ببقائها ووحدتها، وتستنزف قدرتها على أداء وظائفها الأكثر حيوية والاستجابة لتوقعات المجتمعات المتصاعدة والإخفاق في تحقيق التنمية والاستقرار السياسي والعجز عن احتواء التكوينات المجتمعية الأولية وتسوية الصراعات المحلية التي باتت تتعرض لتدويل متصاعد، ويمكن ربط أزمة الدولة في المنطقة العربية بعدة تحولات رئيسية، من أبرزها:ـ  

1 ـ صعود الضغوط المجتمعية: ارتبطت الاحتجاجات الدافعة للثورات العربية باختلال العلاقة بين الدولة والمجتمع وإخفاق نماذج التماهي الكامل بين النظام السياسي والدولة على غرار نماذج نظام القذافي في ليبيا ونظام علي عبدالله صالح في اليمن، حيث كشف توظيف القذافي للنزعة العدائية التنافسية بين الأقاليم الليبية واستغلال صالح في اليمن التحالفات القبلية للحفاظ على نظام الحكم عن نماذج حدية على مدى غائية السلطة في التعامل مع المجتمع، وهو ما أدى لتفكك الدولة بانهيار النظام وصعود تأثير الجماعات الأولية في تلك الدول التي باتت أقوى من الدولة ذاتها.

2 ـ الإخفاق الوظيفي: فلم تعد دول عديدة قادرة على أداء وظائفها التقليدية، لاسيما درء التهديدات الأمنية مع تآكل احتكارها لاستخدام القوة في ظل تصاعد نشاط الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، فيما يعترض الافتقاد للاستقرار السياسي والمؤسسية قدرة الدولة على تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ مما يزيد الإحباط المجتمعي ويفجر موجات الاحتجاجات المتتالية ويؤدي في المحصلة النهائية لإضعاف الدولة وإخفاقها في احتواء السخط المجتمعي المتصاعد.

3 ـ تعثر المراحل الانتقالية: فلم تنجح مختلف النظم الصاعدة للسلطة في دول "الثورات" العربية في استكمال الاستحقاقات الأساسية لانتقال السلطة نتيجة تفجر الصراعات الداخلية والافتقاد لتوافق وطني حول القضايا الخلافية مثل تقاسم السلطة والموارد وعدم اكتمال أركان نظام الحكم، مما يزيد من إخفاق الدولة في أداء وظائفها.

ولعل الصراع بين الدولة اليمنية والحوثيين وغياب التوافق حول إجراءات انتقال السلطة في سوريا، ومقاطعة القوى السياسية المنضوية في القائمة الوطنية العراقية للانتخابات البرلمانية، التي حسمها نوري المالكي، والصراع المحتدم بين المؤتمر الوطني الليبي وجماعة الإخوان المسلمين والجيش الوطني بقيادة اللواء "خليفة حفتر"، كل ذلك وسواه يكشف مدى الافتقاد لتوافق جامع حول إجراءات انتقال السلطة في دول الإقليم.

4 ـ الحروب غير المتماثلة: تشهد العديد من الدول العربية انتشاراً لأنماط غير تقليدية من الحروب غير المتماثلة نتيجة الترابط الوثيق بين الفوضى السياسية والأمنية وبين الاختراق الخارجي، نتيجة تمدد التحالفات العابرة للحدود وصعود الفاعلين المسلحين من غير الدول، خاصة الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة والجيوش المناطقية والمذهبية، التي باتت تمتلك قدرات عسكرية تضاهي – إن لم تكن تفوق – نظيراتها من الجيوش الوطنية.

يرتبط ذلك باحتدام المواجهات العسكرية بين الجيش اليمني والحوثيين في منطقة عمران والمواجهات بين الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر والميليشيات العسكرية التابعة للتيارات الإسلامية، مثل درع ليبيا وغرفة عمليات ثوار ليبيا واللجنة الأمنية العليا وجماعة أنصار الشريعة، والصراع بين الجيش العراقي وتنظيم القاعدة في العراق والشام (داعش)، والصراع الممتد بين الجيش المالي وحركة تحرير أزواد في شمال مالي.   

5 ـ صراعات الهوية: اكتسبت هذه القضية زخماً متزايداً عقب صعود التيارات الإسلامية لسدة الحكم في عدد من الدول، خاصة في مصر وتونس، ومشاركة حزب العدالة والتنمية في معادلات السلطة بالمغرب؛ ما أجج الجدل حول الهوية في ظل نزوع تلك التيارات للسيطرة على مكامن القوة في مؤسسات الدولة وتغيير ثوابت الهوية الوطنية من خلال السيطرة على مؤسسات التعليم والتوعية والإعلام وتحجيم المعارضة السياسية؛ مما حمل في طياته تقويضاً كاملاً لأسس المواطنة والديمقراطية وأثار موجات احتجاجية مناوئة للتيارات الإسلامية ومحاولتها إعادة إنتاج السلطوية.

6 ـ التوجهات الانفصالية: إذ تواكب مع "الثورات" العربية تأجج الجدل حول بنية بعض الدول بين داعمي شكل الدولة البسيطة المركزية في مقابل أطروحات الفيدرالية الصاعدة التي تكاد تتطابق مع دعاوى انفصالية توشك أن تعصف بالدولة. ولعل أبرز تجليات هذا النموذج هو انفصال جنوب السودان رسمياً في يوليو 2011، والوضع الخاص لإقليم كردستان الذي يكفل له صلاحيات واسعة النطاق سياسياً واقتصادياً وخارجياً، وحتى عسكرياً، وهو ما توازى مع سيطرة أكراد سوريا على مناطق تمركزهم بصورة قد تؤهلهم للانفصال مستقبلاً، ومطالب الفيدرالية في بعض الأقاليم الليبية، وإقرار الفيدرالية في الحوار الوطني باليمن.

7 ـ الانكشاف الخارجي: تصاعدت درجة الانكشاف الخارجي للدول العربية، بداية من الضغوط الدولية الصاعدة فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي وانتقال السلطة، مروراً بالتدخل العسكري المباشر لحلف الناتو لإسقاط نظام القذافي، والتدخل متعدد الأطراف في سوريا، وصولاً إلى خوض حروب بالوكالة باتت تديرها ميليشيات داخلية لتحقيق مصالح قوى إقليمية على غرار الارتباط الوثيق بين الحوثيين وإيران، والدعم الإيراني لبقاء نظام الأسد في مواجهة الجيش السوري الحر وجبهة النصرة وداعش.

ثالثاً: مؤشرات استعادة الدولة في الدول العربية

على الرغم من التحولات السلبية السابقة كافة، يجوز القول إن عام 2014 يعد عام محاولة استعادة الدولة القومية على المستوى العربي؛ فإذا كان عام 2011 يمثل مرحلة سقوط نظم الحكم السلطوية تحت ضغط الثورات الشعبية، وعام 2012 يرتبط بتعثر المراحل الانتقالية، وعام 2013 يؤرخ لتداعي حكم التيارات الإسلامية، فإن العام الجاري يمثل استكمال دائرة التحولات السياسية بتصاعد الطلب المجتمعي على الاستقرار والأمن متمثلاً في الدعم الشعبي الجارف لعودة الدولة وصعود شعبية نموذج "رجل الدولة القوي" بالتوازي مع سعي شاغلي السلطة السياسية لاستعادة السيطرة على إقليم الدولة وممارسة اختصاصات السيادة على إقليمها.

وبدت أهم المؤشرات على تصاعد هذا الاتجاه فيما يلي:

1 ـ الحسم الانتخابي: حيث يمكن اعتبار اكتساح الرئيس عبدالفتاح السيسي الانتخابات الرئاسية المصرية التي أجريت في أواخر شهر مايو 2014 بنسبة تصل إلى 69.9% وبمعدل مشاركة بلغ 47.4% من إجمالي الناخبين المسجلين، بمنزلة تصويت شعبي على عودة الدولة واستعادة قوتها، خاصة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتصاعد الإرهاب والعنف السياسي الذي تنتهجه جماعة الإخوان المسلمين منذ الإطاحة بها من السلطة في 3 يوليو 2013.

وينطبق الأمر ذاته على حسم الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الانتخابات الرئاسية لصالحه في 18 أبريل 2014، بنسبة 81% من الأصوات وبمعدل مشاركة بلغ 51.7%، ما يعكس تشبث الجزائريين بالاستقرار الناتج عن سيطرة بوتفليقة على مقاليد الحكم بدعم من المؤسسة العسكرية الداعمة لبقائه في السلطة.

2 ـ الحرب على الإرهاب: لا تنفصل عودة الدولة عن اتجاه الدول العربية إلى مواجهة التنظيمات الإرهابية، خاصة مع حول الإخوان المسلمين لتبني العنف السياسي والتقارب مع التيارات الجهادية التكفيرية، حيث شن الجيش اليمني عمليات عسكرية لتطهير محافظات شبوة وأبين ومأرب من خلايا تنظيم القاعدة، والتي أسفرت عن سقوط قياديين بالتنظيم، مثل المقداد وإبراهيم العسيري الملقب بصانع القنابل، الذي يحمل الجنسية السعودية. بينما لاتزال المواجهات العسكرية محتدمة بين القوات النظامية العراقية وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) والميليشيات العشائرية في الأنبار والفلوجة والرمادي، خاصة أن تمكن تنظيم داعش من الاستيلاء على مناطق واسعة في نينوى والأنبار وديالا ومدينة الموصل في يونيو 2014، حيث تسعى بعض الأطراف الداخلية الإقليمية والدولية إلى الحد من، أو إنهاء، خطر داعش الذي أعلن دولة الخلافة في العراق والشام؛ مما يمثل خطراً داهماً تسعى هذه الأطراف إلى احتوائه مبكراً ما أمكن.

3 ـ مواجهة فوضي الميليشيات: حيث كشفت التظاهرات الحاشدة في مطلع شهر يونيو الداعمة لعملية "كرامة ليبيا" التي أعلنها اللواء حفتر عن مدى الدعم الشعبي في ليبيا لعودة الدولة لحفظ الأمن والاستقرار وإنهاء الفوضى الأمنية، بعدما أعلن حفتر تشكيل الجيش الوطني الليبي لتحرير بني غازي وطرابلس من قبضة الميليشيات والتنظيمات الإرهابية والإخوان المسلمين، معلناً عدم شرعية المؤتمر الوطني وحكومة أحمد معيتيق المنتمية لحزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان.

وبالرغم من اصطفاف الكتائب العسكرية وقوات الشرطة في إطار الجيش الوطني الليبي بزعامة حفتر، فإنه يواجه تحالفاً من الميليشيات الداعمة للتيارات الإسلامية التي يتحكم فيها رئيس الأركان الليبي اللواء سالم العبيدي الموالي للإخوان المسلمين، وتضم هذه الميليشيات: درع ليبيا في مصراتة والزاوية، وغرفة عمليات ثوار ليبيا، واللجنة الأمنية العليا المنتشرة في المدن الساحلية والتابعة للإخوان المسلمين، وكتيبة راف الله السحاتي، التي تعد أولى الكتائب التي اشتبكت مع قوات حفتر في بني غازي، وكتيبة 17 فبراير ذات التوجهات السلفية، وكتائب أنصار الشريعة وميليشيات أبو سليم في درنة.

ويتشابه ذلك المسار مع توجه الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي في منتصف مارس 2014 نحو استبعاد القيادات العسكرية المرتبطة بحزب التجمع اليمني للإصلاح التابع للإخوان المسلمين، الذي نجح في اختراق المؤسسة العسكرية في اليمن خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بعد الثورة عبر مكانة اللواء علي محسن الأحمر، الذي لايزال يقود اللواء 310 في عمران.

4 ـ التصدي لمحاولات الانفصال: يرتبط الدعم الشعبي الصاعد للرئيس عبدربه منصور هادي بتصدي القوات المسلحة اليمنية لمحاولات الحوثيين احتلال محافظة عمران عقب صراع محتدم للتوسع من صعدة في شمال اليمن نحو مناطق تمركز القبائل السنية في كتاف وحجة ودماج وأرحب في محاولة لتطويق العاصمة صنعاء بالسيطرة على جبلي الجنّات والضين الاستراتيجيين، حيث دفع رفض الحوثيين محاولات التهدئة واستهدافهم مناطق تمركز القوات المسلحة اليمنية قيام الجيش اليمني بصد هجماتهم والقصف الجوي لمناطق تمركزهم في محافظة عمران لدفعهم للتراجع باتجاه صعدة وإجبارهم على القبول بالتهدئة.

رابعاً: تحديات استعادة الدولة

لا يمكن اعتبار الدفع الشعبي باتجاه استعادة الدولة نهاية مسار التحولات المتلاحقة على المستوى العربي، إذ إن ثبات وتماسك ذلك الاتجاه يرتبط بقدرة الدولة على تلبية الحد الأدنى من التطلعات المجتمعية، وفي مقدمتها الطلب المتصاعد على الأمن والاستقرار واحتواء الاحتقان السياسي واستعادة النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفساد.

ويزيد من تعقيد التحديات التي تواجه عودة الدولة السياق غير المواتي لتحقيق تلك الغايات في خضم الصراعات الأهلية المذهبية والمناطقية وتناحر الميليشيات المسلحة والجيوش الموازية والحركات الانفصالية وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية والصدع الآخذ في الاتساع بين فرقاء النخب السياسية والمجتمعية.

ولذا من غير المستبعد أن تتعرض اتجاهات استعادة الدولة في بعض دول الإقليم لموجات ارتدادية في ظل ارتباط بعضها بالميل لشخصنة السلطة، والارتباط بقائد سياسي أو عسكري، مع الافتقاد لمؤسسات قادرة على استيعاب وترشيد مطالب وتوقعات المواطنين وتحويلها لسياسات تعزز من الرضا العام والدعم المجتمعي للدولة، ومن ثم فقد لا تتمكن من احتواء حركة الشارع وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني.

على مستوى آخر تفتقد بعض القيادات الصاعدة من رجال الدولة في بعض الدول العربية تحالفات شبكية داعمة لبقائهم في السلطة، في ظل عدم رسوخ تحالفاتها مع التكوينات المجتمعية الأولية وعدم استنادها لتيار سياسي يتمتع بالتغلغل الأفقي والانتشار في أقاليم الدولة؛ مما يجعل سعي تلك القيادات لملء الفراغ السياسي رهناً بقدرتها على توزيع المنافع الاقتصادية والاجتماعية لتوسيع قاعدتها الجماهيرية، بينما تواجه قيادات أخرى، مثل نوري المالكي في العراق، طعناً في شرعية الوصول للسلطة من جانب المعارضة السياسية وتحالف القبائل السنية، مما يجعل حسم جدليات الشرعية واستعادة التوافق الوطني في الدول ذات الانقسامات المجتمعية مثل العراق واليمن ولبنان محدداً رئيسياً لاستعادة الدولة.

ولا تنفصل تلك التحديات عن حالة الاستقطاب الإقليمي وتناقضات المصالح بين التحالفات الإقليمية وسعي بعض القوى الإقليمية لتأجيج عدم الاستقرار الداخلي في دول الإقليم لاستعراض مكانتها الإقليمية، خاصة عقب الإطاحة بحلفائها من سدة الحكم في مقابل محور إقليمي آخذ في التشكل يدعم الاستقرار السياسي وحسم الصراعات السياسية واستعادة الدولة.

إجمالاً يمكن القول إنه من المرجح أن تتفاوت السيناريوهات المطروحة لمستقبل دول "الثورات" العربية وغيرها، ما بين عدة مسارات، أولها التصدع الكامل تحت وطأة الصراعات الأهلية المحتدمة والنزعات الانفصالية والميليشيات المسلحة مثل الحالة السورية، وثانيها الضعف البنيوي بمعنى بقاء الدولة في ظل وجود توازن للضعف السياسي يمنع احتكار أي من الفرقاء السياسيين والمجتمعيين لمركز النظام على غرار الحالة اللبنانية، أما المسار الثالث فيتمثل في الإخفاق الوظيفي الذي ينطوي على بقاء الدولة وتحقيقها لقدر من التماسك دون تمكنها من تأدية وظائفها الأمنية والاقتصادية، مما يؤدي لتفجر موجات متتالية من الاحتجاجات والانتفاضات المهددة للاستقرار. ويتمثل المسار الأمثل في المناعة السياسية من خلال تعزيز شرعية الإنجاز الاقتصادي واحتواء المطالب المجتمعية.