دور محدود:

محددات السياسة النووية الأمريكية الجديدة

13 July 2015


إعداد: محمد أحمد عبد النبي


يرى العديد من الخبراء والمحللين أن السياسة النووية الأمريكية الحالية، والتي تقوم على الاعتقاد بأن المزيد من التلسيح النووي هو ما يجلب الأمن الأمريكي، لن تقود إلى السلام العالمي، كما أنها لن تحقق المصالح الأمريكية ذاتها، بل قد تؤدي إلى كارثة إنسانية وعالمية.

وقد برر هؤلاء الخبراء صحة ما ذهبوا إليه بالآثار المدمرة التي تنتج عن استخدام الأسلحة النووية، وتمتع واشنطن بقدرات عسكرية تقليدية عالية تُغنيها عن المزيد من التسليح النووي، فضلاً عن عدم جدوى هذه الأسلحة النووية على مدار العقود الماضية، إذ لم تساهم في تطوير الاستراتيجية الأمريكية سياسياً أو عسكرياً على الإطلاق.

ووفقاً لما تقدم، نشر مركز "ستيمسون" Stimson دراسة بعنوان: "السياسة النووية الأمريكية الجديدة.. حماية الأمن القومي الأمريكي عن طريق الحد من دور الأسلحة النووية"، حاول من خلالها الباحثان في المركز "باري بلشمان" Barry Blechman و"راسيل رامبوغ" Russell Rumbaugh تقييم السياسة النووية الأمريكية، وذلك من خلال استعراض أهمية القوة العسكرية الأمريكية التقليدية ومستقبلها، وكذلك الفوائد المحدودة للسياسة النووية الحالية وأبرز مخاطرها على الصعيدين الأمريكي والعالمي، وصولاً إلى طرح رؤية حول السياسة النووية المفترض تحقيقها وأبرز بنودها.

الهيمنة العسكرية الأمريكية التقليدية

أكد الكاتبان أن السمة الرئيسية للوضع العسكري الحالي هي "الهيمنة العسكرية الأمريكية"، وهي سمة من المرجح أن تستمر لعدة عقود قادمة في ظل توفر الرغبة لدى المواطنين الأمريكيين لاستثمار قدر كاف من الموارد في المجالات العسكرية بهدف الحفاظ على تميز الأمة الأمريكية، مشيراً إلى أنه رغم محدودية دور القدرات العسكرية وحدها في تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية الأمريكية، فإن التفوق العسكري الأمريكي التقليدي يدل على تمتع الولايات المتحدة بالقوة الكافية للدفاع عن نفسها وحلفائها، وكذلك حماية مصالحها.

وفي السياق ذاته، أرجع الكاتبان التفوق العسكري الأمريكي التقليدي إلى التوسع الأمريكي للاستثمار في مجال التكنولوجيا العسكرية، إضافة إلى كبر حجم قواتها، والكفاءة والتدريب الخاص بها؛ فالولايات المتحدة تقود العالم في مجال التكنولوجيا العسكرية، سواء من خلال أجهزة الاستشعار في مجال الأقمار الصناعية والمأهولة أو الطائرات بدون طيار، والتي يرافقها سيطرة أمريكية على شبكات الاتصالات، وغيرها من القدرات العسكرية الهائلة التي من بينها إمكانية تحريك عدد كبير من الغواصات والقوات المسلحة بسرعة فائقة وعلى مسافات بعيدة، ناهيك عن القدرة المتفردة لنشر عدد كبير من قوات العمليات الخاصة المزودة تكنولوجياً في أي مكان من العالم في غضون فترة زمنية قصيرة.

من ناحية أخرى، أشارت الدراسة إلى خطأ الافتراض القائل بإمكانية تهديد الصين حالياً للولايات المتحدة عسكرياً، حيث يتطلب ذلك الأمر تحقق ثلاثة عوامل؛ أولها أن تضع الصين مواردها الكاملة لتعويض المزايا الأمريكية، وثانيها أن تغير بكين من هيكلها التنظيمي الخاص بقواتها المسلحة لكي يصبح أكثر حرية ويستطيع تهديد المصالح الأمريكية قبالة السواحل الصينية، وثالثها ألا تمتلك الولايات المتحدة قدرة الرد على التكنولوجيا الصينية الحديثة، وهي عوامل يصعب تحقيقها على الإطلاق؛ فعدد حاملات الطائرات الأمريكية تبلغ أضعاف نظيرتها الصينية، والحزب الشيوعي يتحكم في "جيش التحرير الشعبي الصيني" ويُقيد من حركته فعلياً على المستوى الخارجي، كما أن القدرات العسكرية الأمريكية الحديثة تتفوق على أي تكنولوجيا عسكرية صينية.

وفي هذا الصدد، أكدت الدراسة أن ثمة من يرى أن روسيا وحلف الناتو يمكنهما أن ينافسا الولايات المتحدة عسكرياً في غضون فترة زمنية معينة، وهو أمر غير صحيح أيضاً، في ظل الحاجة الروسية لإجراء إصلاحات عسكرية قد تستغرق عدة عقود لكي تستعيد عافيتها مرة أخرى، إضافة إلى ضعف قدرات حلف "الناتو" على تحريك قوات في وقت الأزمات.

الدور المحدود للأسلحة النووية

ذكرت الدراسة أنه في ظل التفوق العسكري الأمريكي التقليدي، فإن الأسلحة النووية تضيف ميزة محدودة، وهي ردع الهجمات النووية على الولايات المتحدة وحلفائها، ولا تقوم بأي دور عسكري هام آخر، مشيرةً إلى خطورة الاستخدام النووي أو التهديد به وقت الأزمات والحروب، نظراً لحاجته إلى صُناع قرار يتمتعون برشادة، واتصالات فعالة، وعدد من الظروف الأخرى المواتية.

وأوضح الكاتبان أنه على الرغم من أهمية أن تتبع الولايات المتحدة كافة السبل التقليدية والدبلوماسية لحماية حلفائها، فإن ثقة الحلفاء في تنفيذ الالتزامات الأمنية الأمريكية - سواء من خلال الوسائل التقليدية أو النووية - غير مؤكدة. وأشار الكاتبان إلى أهمية أن يسود اعتقاد لدى الولايات المتحدة بأن الأسلحة النووية يمكن فقط أن تستخدم لردع الهجمات النووية، وأن تسعى للتقليل من أهمية هذه الأسلحة، وإبراز خطورتها، والحد من انتشارها، حيث إنه في حالة اعتماد واشنطن على التسليح النووي بشكل كبير، فإن ذلك سيؤدي إلى انتشار التسليح النووي في العالم.

كيفية الحد من دور الأسلحة النووية في السياسات الأمريكية

أكدت الدراسة أنه في ظل محدودية قدرة الأسلحة النووية على تحقيق الحماية للأمن الأمريكي، فإن على الولايات المتحدة أن تنسق جهودها الدبلوماسية وسياستها النووية ووضعها العسكري للحد من استخدام الأسلحة النووية، وأن تسعى لتحقيق الآتي:

1- اتباع وسائل متنوعة لإقناع النظام العالمي بأهمية إزالة خطر الأسلحة النووية، وذلك من خلال تفعيل نظام نزع التسليح النووي، وتطوير التعاون مع الدول الأخرى في مجالات قدرات المراقبة والاستطلاع الحديثة، وحل الصراعات بين الدول التي تمتلك ترسانات نووية، والسعي لاحتواء روسيا والصين داخل المنظومتين الأوروبية والعالمية، وتقليل المخزون النووي لدى الدول الكبرى بدءاً من الولايات المتحدة وروسيا، وعمل ضوابط أكثر صرامة على المنشآت النووية المدنية، وتعزيز معاهدة حظر الانتشار النووي...إلخ.

2- تبني سياسات تؤكد على الاعتقاد الأمريكي بالاستخدام الضيق للأسلحة النووية، وذلك عن طريق التأكيد على العواقب الإنسانية الوخيمة من الاستخدام النووي، وعدم الاستفادة العسكرية من الأسلحة النووية، وأن تؤكد السياسة النووية الأمريكية على عدم استخدام هذه الأسلحة إلا في حالة استخدامها ضدها أو ضد حلفائها، وأنها سترد على أي هجوم عليها وعلى حلفائها بنفس درجة القوة أو أكبر.

3- تركيز واشنطن هيكل قوتها النووية على حفظ الأمن، وأن ينعكس ذلك على حجم قوتها النووية وتشكيلها، وسمات قواتها النووية وتفاعلها مع غيرها من القوى غير النووية. وفي حال الإخفاق في إزالة التسليح النووي عالمياً، فإنه ينبغي أن تحتفظ الولايات المتحدة بالثالوث النووي الاستراتيجي (الصواريخ العابرة للقارات، والغواصات، وقاذفات القنابل).

محددات تغير السياسات النووية

أوضحت الدراسة أن التغير في السياسات والقوى النووية يحدث في حال حدوث تغير مماثل في التكنولوجيا ذات الصلة، والسياسات العالمية (التغييرات الجيوسياسية)، والتوازن العسكري التقليدي.

1- التغيير التكنولوجي:

افترضت الدراسة في هذا الصدد وجود عنصرين ذات صلة بالتكنولوجيا، يمكن أن يؤديا إلى التغير في السياسات والقوى النووية، وهما:

أ- تكلفة تطوير دفاعات صاروخية فعَّالة: حيث يعد هذا النظام أرخص لنشر التطورات في القدرات الدفاعية بشكل أكبر من نظيره الخاص بالقدرات الهجومية. وفي حال امتلاك أعداء الولايات المتحدة له، فإن واشنطن لن تعتمد على القدرات النووية لردع الهجمات النووية عليها وعلى حلفائها، وسيصبح أمامها إما أن تنسحب من التدخل في الشؤون العالمية، أو أن تصل لتسويات مع الدول الأعداء. أما إذا طورت الولايات المتحدة هذه القدرات ولم تصل لها أعدائها، فستصبح في وضع يسمح لها بتحقيق هدف إزالة الأسلحة النووية من كل دول العالم. ولكن إذا امتلكه الطرفان، فسيصبح الوضع معقداً، وسيتحقق أحد الهدفين السابقين.

ب- تطوير أسلحة متطورة مضادة للغواصات: وهي مساوية في الفاعلية لتطوير القدرات لتدمير غواصات حاملة للصواريخ النووية. وترى الدراسة أنه في المستقبل يمكن أن يقوم الأعداء بنشر عدد كبير من أجهزة الاستشعار بدون طيار بجوار قواعد الغواصات الأمريكية لكشف تحركات الأخيرة وتتبعها أو الهجوم عليها، وهو ما يعني إجبار الولايات المتحدة على تنويع قوتها المستقبلية، وأن تمتلك قاذفات بعيدة المدى ومزودة بصواريخ "كروز"، والاحتفاظ بها في حالة تأهب قصوى.

2- التغييرات الجيوسياسية (السياسات العالمية):

أكدت الدراسة على وجود عدد من المتغيرات التي ستؤثر على المكانة النووية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي:

أ- استخدام الأسلحة النووية، وفي هذا الصدد ثمة عدة احتمالات ممكنة: أولها يتعلق بالعلاقات بين واشنطن وموسكو، ففي حالة إندلاع حرب روسية - أمريكية لأي سبب وتصاعدها لحرب نووية بين الدوليتن، فإن الحضارة لن تصبح موجودة على الأقل في نصف الكرة الشمالي.

وثاني الاحتمالات هو استخدام الأسلحة النووية في ساحة الحرب من قِبل روسيا أو الصين، ففي حالة اندلاع حرب في أوروبا أو شرق آسيا وتم مهاجمة حلفاء واشنطن واستخدام أسلحة نووية، فإن النتائج ستتوقف على الرد الأمريكي ونتائجه، بحيث إذا تم استخدام سلاح أو سلاحين فقط، فإن الولايات المتحدة من الممكن أن تحجم عن الرد النووي وترد من خلال أسلحة تقليدية، مع التحذير من أن أي هجوم نووي أخر سيُقابل برد نووي.

وثالث الاحتمالات يتعلق بحالة استخدام سلاح نووي من قِبل دولة ثالثة ضد دولة مأهولة بالسكان، وهو ما يمكن تصوره في حال تصاعد حرب هندية - باكستانية، حيث يمكن في حالة اقتراب انتصار الهند أن تستخدم باكستان سلاحاً نووياً حتى لا تُهزم تماماً، وهو ما قد يدفع الهند للثأر من بعض المدن الباكستانية، ما سيؤدي إلى خسائر بشرية مهولة، وهو ما يعني أيضاً تحفيز دول أخرى لامتلاك سلاح نووي، وبالتالي انتشار الأسلحة النووية في العالم.

ب- فك نظام التحالفات الأمريكية: حيث من الممكن أن تختار الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق - بعيداً عن واشنطن - مع الدول التي تقوم بتهديدها، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نتائج طيبة فيما يتعلق بالسياسة النووية، حيث سيصبح على الولايات المتحدة حماية نفسها وأراضيها فقط بصرف النظر عن تضرر مصالحها الخارجية.

ج- حل النزاعات بين روسيا وجيرانها، وكذلك الصين وجيرانها، حيث سيؤدي هذا التقارب المحتمل إلى إحداث تقدم كبير فيما يتعلق بتأسيس نظام عالمي خال من الأسلحة النووية.

3- التوازن العسكري التقليدي:

من الممكن أن يحدث تغير في التفوق العسكري الأمريكي التقليدي، وذلك في حالة وصول أعداء الولايات المتحدة للنطاق والكفاءة التي وصلت إليها واشنطن، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال إنفاق الأعداء على الدفاع بنفس مستوى الإنفاق الأمريكي لمدة خمسة أعوام متتالية، فضلاً عن مقاومة التدابير المضادة. ومع ذلك، فقد أشارت الدراسة إلى عدم إمكانية انهيار المكانة النووية الأمريكية في حال تحقق هذين الشرطين، مضيفةً أنه في حالة تعرض الولايات المتحدة أو حلفائها لهجوم، فإن ذلك قد يؤدي إلى تغيير في مبدأ "عدم اللجوء الاستباقي للأسلحة النووية"، حيث ستلجأ واشنطن حينها للاستخدام النووي لصد الهجمات عليها.

في نهاية الدراسة، أوضح الكاتبان أن الأسلحة النووية لا تحقق أهداف السياسة الأمريكية، بينما تقوم بذلك قوتها العسكرية التقليدية، ومن ثم فقد تم التأكيد على أن يتم التعبير عن المصالح الأمريكية من خلال المبدأ القاضي بالاستخدام النووي في حدوده الدنيا مقابل استخدام قوتها العسكرية التقليدية والسياسة والدبلوماسية، وليس عن طريق التوسع في الأسلحة النووية.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "السياسة النووية الأمريكية الجديدة: حماية الأمن القومي الأمريكي عن طريق الحد من دور الأسلحة النووية"، والصادرة في مايو 2015 عن مركز "ستيمسون"، وهي مؤسسة أمريكية غير حزبية تهدف إلى تحسين الأمن والسلام العالمي.

المصدر:

Barry Blechman and Russell Rumbaugh, Protecting US Security by Minimizing the Role of Nuclear Weapons: A New U.S. Policy (Washington, The Stimson Center, May 2015).