تفسيرات سبعة:

التكنولوجيا لم تحقق مزيداً من الديمقراطية

14 July 2015


إعداد: نوران شريف مراد


شهد القرن الحالي تقدماً مذهلاً في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الأمر الذي كفل "تمكيناً" هائلاً للأفراد على عدة أصعدة؛ حيث بات لديهم قدرة أكبر على الوصول لمختلف أنواع المعلومات، ومشاركتها مع الغير. وبالرغم من ذلك، فإن التقدم التكنولوجى غير المسبوق لم يؤدِ إلى مزيد من الديمقراطية على مستوى العالم؛ فبعد مرور خمسة عشر عاماً على بداية القرن الحالي، فإن عدد ديمقراطيات اليوم ليس أكثر من ذي قبل، بل تواجه العديد من الأنظمة الديمقراطية مشكلات مؤسسية حقيقية، كما لاتزال تعاني من ضعف ثقة المواطنين بها. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف تُفسر هذه المفارقة الكبيرة؟

وفي محاولة للإجابة على هذا التساؤل، نشر موقع مجلة Foreign Policy مقالاً بعنوان:" لماذا لم تحقق التكنولوجيا مزيداً من الديمقراطية؟"، للكاتب " توماس كاروثرز" Thomas Carothers، وهو نائب الرئيس للدراسات ومدير برنامج الديمقراطية وسيادة القانون في معهد كارنيجي للسلام الدولي. وفي مقاله، يتيح "كاروثرز" الفرصة لستة باحثين آخرين ينتمون لخلفيات متباينة، لتفسير لماذا لم تأت التكنولوجيا بمزيد من الديمقراطية؟

التفسير الأول: التمكين التدريجي للأفراد

يقدم Martin Tisné - مدير السياسات في شبكة Omidyar التي تهتم بتغيير المجتمع عبر الاستثمار في الأفراد - التفسير الأول، ويمكن إيجازه في النقاط التالية:

ـ ثمة حقيقة معروفة هي أن القادة السلطويين حول العالم دوماً ما يجدون سُبلاً بديلة لمنع ما قد تحققه التكنولوجيا من "تمكين" للأفراد؛ عبر تضييق الخناق على المجال العام Civic space، واستخدام التكنولوجيا لخدمة أغراضهم غير الديمقراطية.

 ـ كثيراً ما تظهر الآثار الديمقراطية للتكنولوجيا الحديثة على الصعيد المحلي دون الإطار الوطني الأوسع. فعبر الإنترنت، بات بإمكان مواطني المملكة المتحدة البريطانية الإبلاغ عن أي مشاكل قد يصادفونها في الشوارع عبر تطبيق FixMyStreet. كما بات بإمكان مواطني نيجيريا الاطلاع على تفاصيل الميزانية العامة للدولة، ومن ثم محاسبة المسؤولين عن أي إهدار للمال العام، وذلك عبر تطبيق BudgIT. في حين يقوم مواطنو المكسيك بمتابعة وتقييم عمل المدارس المحلية عبر تطبيق Mejora Tu Escuela.

ويعتقد الباحث في هذا الصدد أنه خلال عقد أو اثنين، سوف ينتقل التأثير الإيجابي للتكنولوجيا بصورة تدريجية من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني الأوسع. كما أن التكنولوجيا قد تحقق تمكيناً للأفراد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي قد يكون له انعكاسات سياسية ذات مغزى خلال الأعوام القادمة.

التفسير الثاني: دور الحكام المستبدين

يقدم Larry Diamond- الباحث الأول في مؤسسة هوفر الأمريكية Hoover Institution- التفسير الثاني، مشيراً إلى العناصر التالية:

ـ في حين تتواجد مجموعة من العوامل التي قد تشجع على نمو الديمقراطية وبزوغها، كالنمو الاقتصادي والتكنولوجي والدور الفعَّال للمجتمع المدني؛ إلا أن تلك التأثيرات الإيجابية قد تنحصر بسبب عدد من العناصر السلبية؛ مثل تنامي التأثير العالمي للقوى الكبرى غير الديمقراطية كالصين وروسيا وإيران، وعدم فاعلية العديد من أنظمة الحكم الديمقراطية، فضلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب باسم الحرب على الإرهاب.

وبالإضافة إلى ذلك، تسود أنظمة حكم ديمقراطية في ظروف غير مواتية بالعديد من بقاع العالم، الأمر الذي يتطلب قدراً من الشراكة بين عدد من الفاعلين المحليين والدوليين للإبقاء على تلك الديمقراطيات الحديثة، خاصةً في ظل ما تعانيه من مشكلات بسبب الفساد والصراعات الإثنية.

ـ لا يمكن إغفال الانعكاسات السلبية للتكنولوجيا؛ فإلى جانب كونها قد تحقق مزيداً من "التمكين" على مستوى الأفراد والجماعات، بيد أن هناك عدداً من المخاطر المرتبطة بها، فهي قد تُعد ساحات جديدة للانتشار السريع للشائعات، والافتراءات الإثنية، ومشاعر كراهية الأجانب، والعديد من المشاعر والأيديولوجيات المتطرفة.

ـ تفرض الأنظمة السلطوية قدراً من الرقابة والتقييد أو حتى تقوم بالمنع التام لمصادر التكنولوجيا التي تكفل مزيداً من الحرية، كما هو الحال في روسيا والصين، وتشترك تلك الأنظمة السلطوية بصفة عامة في كونها تستخدم أدوات رقابية وقمعية للأنشطة التي تتم عبر الإنترنت.

التفسير الثالث: قيود مستمرة على التكنولوجيا

أما التفسير الثالث فتقدمه  Senem Aydin Düzgitوهي أستاذ مشارك في قسم العلاقات الدولية بجامعة Istanbul Bilgi. وترى أنه في خضم تلك التطورات التكنولوجية، من الضرورى عدم إغفال وجود فئة كبيرة من مواطني العالم غير متمتعين بتلك التكنولوجيا، فهم يعيشون في مناطق أقل ثراء لم تصل إليها الموجات التكنولوجية بعد. فعلى سبيل المثال، في تركيا، ذلك البلد الذى حقق قدراً من النجاح الاقتصادي، لاتزال حوالي نصف الأسر تعتمد على الوسائل التقليدية (مثل التليفزيون) للحصول على المعلومات والأخبار. وحتى المناطق التي يتمتع مواطنوها بالإنترنت، تقوم الحكومة التركية بفرض رقابتها على استخدامات الإنترنت، بل إنها تراقب كافة وسائل الاتصال والإعلام. ومن ثم، يتم القضاء على الأثر التحرري والديمقراطي الذي قد يترتب على التكنولولجيا، واتضح هذا الأمر جلياً إبان إحتجاجات "جيزي" عام 2013، حينما كان هناك فئة غير قليلة من الشعب تعتمد على المصادر الحكومية لمتابعة تلك التطورات المذهلة.

وبالتالي، يُثبت النموذج التركي أن وسائل الاتصال والإعلام الأكثر حداثةً وتطوراً قد تكون موضع رقابة وتقييد من جانب الحكومات السلطوية، الأمر الذي يقضي على الأثر التمكيني المحتمل لتلك الأدوات، ومن ثم لا تؤدي التكنولوجيا إلى مزيد من التمكيين للأفراد على الساحة السياسية.

التفسير الرابع: أهمية وجود حافز لدى الأفراد للتغيير

يُقدم التفسير الرابع Rakesh Rajani – مدير برنامج المشاركة الديمقراطية والحكم الرشيد في مؤسسة فورد، موضحاً أنه في عام 2009 بدأت مبادرة تسمى Twaweza في الظهور، وهي مبادرة تطمح إلى التغيير الاجتماعي في منطقة شرق أفريقيا. ولقد كان الاعتقاد السائد في بداية تنفيذ المبادرة أن انتشار وسائل الإعلام المستقلة والصحف والإنترنت ووسائل الاتصال بسرعات وأسعار غير مسبوقة، كلها عوامل سوف تُصعب على السلطات إخفاء مظاهر المعارضة الموجودة على أرض الواقع. لكن، بعد مرور ست سنوات على بداية المبادرة، أُكتُشف أن الأمور لا تسير على هذا النحو، بل إن الوضع أكثر تعقيداً. فالتكنولوجيا تخلق فرصاً ومجالات جديدة أمام الأفراد، إلا أنهم في الوقت ذاته يحتاجون لقنوات للتحرك عبرها وتحقيق أهدافهم. ففي مواجهة الأنظمة المتسلطة، من الضروري أن يكون لدى الأفراد الحافز للضغط من أجل التغيير الاجتماعي، ومن ثم بلوغ الديمقراطية.

التفسير الخامس: أهمية المؤسسات التمثيلية

تقدم هذا التفسير Diane de Gramont - الباحث السابق في برنامج الديمقراطية وسيادة القانون التابع لمؤسسة كارينجي للسلام الدولي، حيث ترى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الأنظمة الديمقراطية حول العالم، هو تشكيل مؤسسات تمثيلية قوية وموثوق بها، قادرة على الاستجابة لاحتياجات المواطنين ومطالبهم.

وفي واقع الأمر، تؤكد الباحثة أن التطورات التكنولوجية من الممكن أن تقدم مساعدة محدودة في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، تعد الأحزاب السياسية هي الحلقة الأضعف في معظم الأنظمة الديمقراطية العريقة وحديثة العهد على حد سواء، حيث تعاني من محدودية ثقة واحترام المواطنين لها. وقد تكون التطورات التكنولوجية سلاح ذو حدين بالنسبة للأحزاب، فمن ناحية قد تُسهل الاتصال المباشر بين السياسيين والناخبين وتؤدي إلى ضخ دماء جديدة إلى الحياة السياسية. ومن ناحية أخرى، قد تؤدي إلى مجالس تشريعية ضعيفة ومشتتة، وغير قادرة على دعم الائتلاف الحاكم المستقر أو كفالة قدر من الرقابة الفعَّالة على السلطة التنفيذية.

بالإضافة إلى ما سبق، تشير الباحثة إلى أن أحد المشكلات الجادة التي تعاني منها كافة الأنظمة الديمقراطية، حتى العريقة، تتمثل في تقديم الخدمات العامة للمواطنين بالمستوى المطلوب من الجودة. وفي هذا الإطار، تلعب التكنولوجيا دوراً هاماً في مساعدة مؤسسات الدولة على أداء أدوارها بالكفاءة المطلوبة، ففي الهند على سبيل المثال، مكَّنت التكنولوجيا المواطنين من مراقبة جودة الخدمات المقدمة ومواجهة الفساد. ومع ذلك، فإن الجهود المبذولة لتصدير مثل هذه الأساليب للديمقراطيات الحديثة، أثبتت في كثير من الأحيان نتائج مخيبة للآمال.

التفسير السادس: دروس مختلطة من إيران

تشير Golnaz Esfandiari  - كبير مراسلي راديو الحرية Radio liberty وراديو أوروبا الحرةRadio Free Europe – إلى أن الوضع في إيران يلخص صعوبة الإجابة على تساؤل: لماذ لم تؤدِ التكنولوجيا إلى مزيد من الديمقراطية؟ ففي مقابلة له مع التليفزيون الأمريكي، صرح وزير الخارجية الإيرانى "محمد جواد ظريف" أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تقوم بحبس أي مواطن بسبب آرائه السياسية. ولقد أثار هذا التصريح ضجة في الشبكات الاجتماعية المختلفة في طهران، حيث ذكَّر المواطنون "ظريف" – عبر صفحته بموقع فيسبوك - بالمسجونين السياسيين الإيرانيين، الأمر الذي أجبر الدبلوماسيين الإيرانيين على تعديل تصريحات وزير الخارجية لتهدئة المواطنين؛ وبالتالي، لم يكن من الممكن الاعتراض الواسع على تلك التصريحات الخاطئة دون وجود شبكات التواصل الاجتماعي.

غير أن المفارقة التي تشير إليها Esfandiari أنه بعد أيام قليلة من تصريح "ظريف"، تم حبس ناشط حقوقي. ومن ثم، يمكن القول إن الأنشطة التي تتم عبر شبكة الإنترنت لن تخلق تلقائياً الديمقراطية في إيران وغيرها من البلدان غير الديمقراطية، خاصةً في ظل ما تستخدمه تلك الأنظمة من سبل موازية لقمع الحريات. لكن مع الوقت، من المؤكد أنها سوف يكون لها تأثيرات أوسع نطاقاً. 

التفسير السابع: وضع شديد التعقيد

يعود "كاروثرز" للتعقيب في نهاية المقال، لافتاً إلى أنه من خلال التفسيرات الست السابق الإشارة إليها؛ من الممكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل أساسية تُفسر كون التقدم العلمي والتكنولوجي الذي ساد العالم في الخمسة عشر عاماً الأخيرة لم ينعكس على الأنظمة السياسية ولم يدفعها لتكون أكثر ديمقراطية، وتتمثل هذه العوامل فيما يلي:

1- إن تحديد تأثير التقدم التكنولوجي على الأنظمة السياسية أمر يتطلب وقتاً طويلاً.

2- ثمة مجموعة من العوامل تحد من التأثير الديمقراطى للتكنولوجيا، منها: قدرة الحكومات السلطوية على استخدام التقدم التكنولوجي لخدمة أغراضها غير الديمقراطية؛ كما أن هناك عدداً محدوداً فحسب من الأفراد حول العالم يتمتعون بآثار التقدم التكنولوجي.

3- لا تقدم التكنولوجيا حلولاً لعدد من التحديات الأساسية في بناء الأنظمة الديمقراطية، وعلى رأسها تحفيز المواطنين على المشاركة في الحراك الجماعي، وخلق مؤسسات تمثيلية فعالة.

ختاماً، يشير "كاروثرز" إلى أن هذه العوامل الثلاثة التي ذكرها قد تمثل بداية جيدة لتفسير العلاقة بين التكنولوجيا والديمقراطية. كما أكد أن ثمة نقاشاً موازياً على الصعيد الاقتصادي حول القضية ذاتها، حيث نشر مؤخراً Paul krugman في صحيفة "نيويورك تايمز" عمود رأي بعنوان: ""The Big Meh، وتساءل فيه عن سبب تزامن التطورات التكنولوجية في الأعوام الأخيرة مع بطء النمو الاقتصادي وتصاعد معدلات عدم المساوة؟ ويرى "كاروثرز" أن الوصول لإجابة حول ذلك التساؤل الاقتصادي قد يكون من العوامل المساعدة في تفسير غياب التأثير الديمقراطي الملموس للتكنولوجيا على الصعيد العالمي حتى الآن.

* المصدر:

Thomas Carothers, Why Technology Hasn’t Delivered More Democracy, Foreign Policy, June 3, 2015.