دبلوماسية ماكرون:

دوافع فرنسا لبناء "الطريق الثالث" بين الصين والغرب

11 April 2023


زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الصين، خلال الفترة من 5 إلى 7 إبريل 2023، لإجراء محادثات مع نظيره الصيني شي جين بينغ، وفق قناعة فرنسية بقيمة "الخطوط الساخنة" التي تقوم على التواصل المستمر والتنسيق الدائم حتى في أوقات الحروب والأزمات. ويعتقد ماكرون، الذي زار بكين من قبل مرتين في عامي 2018 و2019، أن التواصل وطرح الخلافات على مائدة النقاش والتفاوض هو الطريق الوحيد لتجنب بناء قناعات خاطئة من جانب كل طرف تجاه الأطراف الأخرى، خاصة في أوقات التنافس والصراع.

وهذا الإيمان بقوة الدبلوماسية الرئاسية شكّل الدافع الرئيسي وراء الزيارة الأخيرة التي قام بها ماكرون إلى الصين، بصحبة رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين؛ بهدف منع بكين من تقديم دعم عسكري لموسكو، وحث الرئيس بينغ على الضغط على نظيره الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

وعلى الرغم من أن هذه الزيارة تمحورت حول ثلاثة ملفات رئيسية هي: القضايا الاستراتيجية والأزمات الدولية، والتعاون في مواجهة التحديات العالمية الكبرى، والعلاقات الاقتصادية بين فرنسا والصين؛ فقد كان واضحاً أن باريس تراهن على بناء "طريق ثالث" للعلاقات الصينية مع أوروبا، يُجنب القارة العجوز تداعيات التنافس الصيني الأمريكي، في ظل اليقين الأوروبي بأن الرخاء الذي تحقق للأوروبيين في العقود الثلاثة الأخيرة يرجع إلى عدة أسباب، كان أبرزها سهولة وصول الصادرات الأوروبية إلى السوق الصينية العملاقة، وهو ما يظهره حجم التجارة الضخم بين الجانبين. ويبقى التساؤل هل نجحت زيارة ماكرون في تحقيق الأهداف التي ذهب من أجلها للصين؟ وماذا عن التحديات التي يمكن أن تمحو ثمار الكلمات الدافئة والودية التي أراد ماكرون من خلالها جذب بكين بعيداً عن موسكو؟

خصوصية ثنائية:

تتمتع فرنسا بخصوصية ميزت علاقاتها مع الصين منذ عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، وعلى مدار التاريخ احتفظت باريس بمكانة خاصة لدى الصينيين بعيداً عن الموقف الأمريكي، حيث أقامت فرنسا علاقات دبلوماسية مع الصين منذ عام 1964، أي قبل 15 عاماً كاملة من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحكومة الصينية في عام 1979. وترى التقديرات الصينية أن "أول بروليتاريا" في التاريخ نشأت في فرنسا عام 1871 عندما وقعت انتفاضة العمال في باريس، كما تعترف بكين بأن التعليم الفرنسي أدى دوراً كبيراً في النهضة الصينية، حيث تلقى أول رئيس لمجلس الدولة الصيني، تشو أن لاي، تعليمه لمدة 4 سنوات في فرنسا، وكتب عشرات المقالات التي نقل فيها التجربة الفرنسية في التنمية إلى الصين. كما تعلم الزعيم الصيني، دينغ شياو بينغ، في فرنسا، ونقل هو الآخر الكثير من النموذج الفرنسي التنموي. 

ونتيجة لهذه الخصوصية في العلاقة، جرى توقيع نحو 18 اتفاقية تجارية بين الشركات الصينية والفرنسية خلال زيارة ماكرون التي استمرت ثلاثة أيام. كما زاد حجم التجارة البينية بين البلدين من 60 مليار دولار إلى نحو 81.2 مليار دولار في عام 2022. وتُعد فرنسا أكبر شريك تجاري للصين داخل الاتحاد الأوروبي، كما أن باريس كانت أول دولة تنشئ آلية مع الصين للتعاون بين الشركات في كلا البلدين في إطار مبادرة "الحزام والطريق". وتبلغ قيمة الاستثمارات الفرنسية في الصين نحو 20 مليار دولار، بينما تستثمر بكين نحو 5.5 مليار دولار في السوق الفرنسية.

كوابح مُعرقلة:

توجد مجموعة من التحديات التي قد تعوق استفادة كل من الصين وفرنسا، ومن خلفها أوروبا، من الإمكانات الهائلة للطرفين، ومن أبرز هذه التحديات ما يلي:

1- تباين المواقف من الحرب في أوكرانيا: تدعم فرنسا ومعها دول الاتحاد الأوروبي، أوكرانيا بشكل كامل سواء عبر الخطوات الأحادية أو من خلال عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بينما رفضت الصين إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وكل خطوة تخطوها بكين تجاه موسكو في الحرب الجارية تشكل خطوة بعيداً عن باريس وأوروبا. وخفضت نتائج قمة الرئيسين بوتين وشي في موسكو، في 21 مارس الماضي، التوقعات بابتعاد الصين عن روسيا في ظل التناغم الكبير بين مواقف الطرفين، خاصة تلك المتعلقة بعالم متعدد الأقطاب، وضرورة نهاية عهد القطب الواحد. ويشكل الدعم الاقتصادي الصيني لروسيا، وتحول السوق الصينية إلى بديل للأسواق الأوروبية أمام المنتجات الروسية، أكبر داعم لاستمرار موسكو في الحرب الأوكرانية، وفق القراءة الفرنسية والأوروبية. كما تنظر فرنسا وأوروبا بقلق شديد للمعلومات الاستخباراتية التي ترجح أن الصين باتت قريبة جداً من تقديم السلاح والذخيرة لروسيا بالرغم من أنها لم تتخذ هذا القرار حتى الآن.

2- الخلافات الصينية مع حلفاء فرنسا: لا تقتصر هذه الخلافات على الأزمة بين بكين وواشنطن، بل هناك سلسلة من النزاعات والصراعات بين الصين من جانب، وحلفاء فرنسا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جانب آخر. وترى باريس أنها مضطرة لاتخاذ مواقف ضد بكين في خلافاتها مع حلفاء فرنسا خاصة في منطقة الإندوباسيفيك.

3- عقبة "الطرف الثالث": إن التدقيق في العلاقات الفرنسية الصينية، وحتى العلاقات الأوروبية الصينية، يؤكد أنها رهينة لطرف ثالث؛ فالتقارب الفرنسي الصيني مرتبط بالمسافة بين بكين وموسكو، كما أن النجاح في شق طريق للتعاون بين بكين وباريس ومعها كل أوروبا يتوقف على درجة التماهي الفرنسي والأوروبي مع المواقف الأمريكية الحادة ضد الصين. وهذا التشابك مع الطرف الثالث يضع قيوداً، على الأقل في الوقت الحالي، أمام تحقيق طفرة كبيرة في العلاقات بين باريس وبكين.

4- التحالفات الغربية ضد بكين: على الرغم من استبعاد فرنسا من تحالف "أوكوس" الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، واستبعادها كذلك من صفقة الغواصات النووية لصالح بريطانيا؛ فإن الدور الجديد الذي يريد حلف "الناتو" الاضطلاع به في شرق وجنوب شرق آسيا، وتحتل باريس فيه مكاناً مميزاً، يُلقي بظلاله على الشراكة الفرنسية الصينية. كما أن "الناتو" نظر للصين في استراتيجيته الأخيرة التي أعلنها في مايو 2022 باعتبارها "تحدياً خطراً " لجميع دول الحلف بما فيها فرنسا.

5- القيود التجارية الأمريكية على الصين: ما زالت بعض الدول الأوروبية، مثل هولندا، تدعم المبادرات الأمريكية التي تستهدف الصين في المجالات الاقتصادية، خاصة تلك الخطط التي تهدف لمنع حصول بكين على التكنولوجيا المتقدمة، وكذلك منع وصولها إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات الغربية. وشكلت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأمريكي، جو بايدن، والفرنسي، ماكرون، قبل مغادرة الأخيرة لبكين، دليلاً إضافياً على أن باريس لا يمكن أن تذهب بعيداً عن واشنطن في علاقاتها مع الصين. كما أن زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي، كيفن مكارثي، أكد خلال استقباله لرئيسة تايوان، تساي إنغ وين، يوم 5 إبريل الجاري، أن الولايات المتحدة نسقت مواقفها مع فرنسا قبل زيارة ماكرون لبكين، وأن بلاده تدعم كل خطوات الرئيس الفرنسي في الصين.

6- الدعم الغربي لتايوان في مواجهة الصين: لا تزال فرنسا تتشارك مع الدول الغربية الخوف من تدخل عسكري صيني محتمل ضد تايوان والسيطرة عليها بالقوة، خاصة في ظل تقديرات الجنرالات الأمريكيين بأن هذا التدخل قد يكون بين عامي 2025 و2027، وهو تقدير زمني أقرب بكثير من التقديرات السابقة التي كانت ترجح أن تكون محاولة استعادة الصين لتايوان بالقوة بعد عام 2035. وعلى الرغم من أن فرنسا لم تستقبل زعيمة تايوان، ولم تمدها بالسلاح، فإنها ضد أي محاولة صينية لاستعادة تايوان بالقوة. وأجرت الصين مناورات حول تايوان، بدأت في أعقاب زيارة الرئيس ماكرون لبكين، وتجاوزت فيها الطائرات الصينية ما يُسمى بخط المنتصف في بحر الصين الجنوبي، مما دفع الكثير من الأوروبيين وفي مقدمتهم الفرنسيين للقول إن الخلافات مع الصين أكبر وأعمق من أن تحلها زيارة مدتها ثلاثة أيام للرئيس ماكرون.

7- ملف حقوق الإنسان: انتقدت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان عدم الحديث العلني من جانب ماكرون عن أوضاع حقوق الإنسان في الصين، خاصة في مناطق التبت وشينغيانغ. وكثيراً ما ينتقد النواب الفرنسيون في البرلمان الأوروبي بكين في هذا الشأن، فضلاً عما يُقال من جانب المنظمات الحقوقية الدولية مثل "هيومان رايتس وتش" عن وضع ملايين الأويغور في معسكرات لتغيير هويتهم الوطنية، مما يشكل حرجاً كبيراً لفرنسا وأوروبا التي تقول إنها لا يمكن أن تتخلى عن حقوق تلك الأقاليم وأنها تُدين تصرف الحكومة الصينية ضد الأويغور وسكان التبت وهونغ كونغ.

مُحفزات أوروبية:

على الرغم من التحديات السابقة، هناك مجموعة دوافع تدعم توجه الرئيس ماكرون وأوروبا لبناء "طريق ثالث" في العلاقات مع بكين، بعيداً عن الانحياز المطلق للرواية الصينية أو الأمريكية، ومن تلك المُحفزات ما يلي:

1- قناعة أوروبا بأن ترك الساحة الصينية لروسيا ليس في صالح الدول الأوروبية، ولذلك هناك دعوات أوروبية للانخراط في حوار جاد مع بكين حتى يكون أمام القيادة الصينية بديل عن الكرملين.

2- نظرة فرنسا وأوروبا بإيجابية كبيرة لتحذير الرئيس شي من استخدام الأسلحة النووية في الحرب الروسية الأوكرانية، فضلاً عن المبادرة الصينية المتعلقة بالسلام في أوكرانيا والتي تتضمن 12 بنداً، حيث تعد باريس ذلك بمثابة أرضية مشتركة يمكن التعاون فيها بين بكين والغرب.

3- تخوف الرئيس ماكرون، في حديثه داخل السفارة الفرنسية في واشنطن، من أن التنافس الصيني الأمريكي يضع أوروبا في مهب الريح. وهذا التقدير قد يدفع باريس إلى أن تكون جسراً للتواصل ومكاناً لحل الخلافات الصينية الأمريكية.

4- مرور أوروبا بحالة من "عدم اليقين الاقتصادي" بسبب تداعيات جائحة "كورونا" والحرب الأوكرانية، كما أن الاقتصاد الصيني تضرر بقوة من فترة الإغلاق الكامل والسعي للوصول لـ"صفر كوفيد". وهو ما يجعل الطرفين في حاجة لبعضهما بعضاً، خاصة أن التعاون الاقتصادي بين أوروبا والصين حقق تقدماً كبيراً، على النحو السابق توضيحه.

5- ما زالت فرنسا والكثير من الدول الأوروبية بعيدة عن "سياسة العزل" الأمريكية، التي تهدف إلى إبطاء التطور التكنولوجي الصيني، كما أن رئيسة المفوضية الأوروبية لا تتفق مع آليات هذه الاستراتيجية وأهدافها التي تقول إنها تعمل على تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن بكين.

6- توافر إرادة سياسية أوروبية للتغلب على الخلافات مع الصين، وذلك من خلال توافد القادة الأوروبيين على بكين. فالرئيس ماكرون أصر على اصطحاب رئيسة المفوضية الأوروبية خلال زيارته الأخيرة لتوصيل رسالة أوروبية موحدة، بعد أن توافد عدد من القادة الأوروبيين على الصين بشكل منفرد خلال الشهور الأخيرة. وتلك الزيارات بدأت بزيارة المستشار الألماني، أولاف شولتز، لبكين في 4 نوفمبر 2022، ثم زيارة رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، في مطلع ديسمبر من العام الماضي، وقبل أيام من زيارة ماكرون كانت زيارة رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، للعاصمة الصينية في 30 مارس الماضي.

ختاماً، من المؤكد أن الرئيس ماكرون وهو في طريق عودته من الصين كان يردد المثل الشهير في الريف الفرنسي الذي يقول: "شيئاً فشيئاً يبني العصفور عشه"، أملاً في أن الخطوات التي تحققت في زيارته لبكين يمكن أن تفتح طريقاً جديداً للتعاون ليس فقط بين بلاده والصين، بل بين كل الدول الغربية وبكين، ولهذا غرد ماكرون فور وصوله إلى باريس قائلاً: "عاشت الصداقة بين الصين وفرنسا".