استكشاف التحول:

التقارب التركي - السوري.. مصالح مُتغيرة وشروط مُتبادلة

30 August 2022


ظهرت في الفترة الأخيرة مؤشرات على تقارب تركي – سوري، وهو ما عكسته العديد من التصريحات الصادرة عن مسؤولين أتراك، ومنهم الرئيس رجب طيب أردوغان، خاصةً في أعقاب قمة طهران التي حضرها مع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والإيراني، إبراهيم رئيسي، في 19 يوليو 2022. وقد كشفت تلك التصريحات عن موقف تركي جديد يتجاوز نبرة العداء مع النظام السوري والرئيس بشار الأسد بصورة أساسية.

تغير تركي:

تراوحت تصريحات الرئيس أردوغان في تأكيده أنه من الضروري اتخاذ مزيد من الخطوات الدبلوماسية مع دمشق، وأنه ليس مُهتماً بتحقيق انتصار على الرئيس السوري، وأن الأمور تفرض أن يكون هناك تعاون وتنسيق مشترك في مواجهة الإرهاب الذي يهدد البلدين. كما أشار الرئيس التركي إلى أن بلاده ليست لديها شروط مُسبقة، وأن المحادثات مع سوريا لابد أن تكون لها أهداف، وصرح أردوغان بأن الرئيس الروسي قد اقترح عليه تعاوناً بين تركيا وسوريا في مواجهة أعمال الإرهاب على حدودهما المشتركة. 

كما تحدث وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عن العلاقات مع سوريا، مشيراً في 11 أغسطس الجاري إلى أنه قد التقى بوزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عُقد في أكتوبر من العام الماضي بالعاصمة الصربية بلجراد. كذلك عقد مسؤولو المخابرات في البلدين عدة اجتماعات تباحثا فيها حول إمكانية تطوير العلاقات الثنائية.

وجاءت زيارة وزير الخارجية السوري، المقداد، إلى موسكو يوم 23 أغسطس الجاري، لتؤكد أن ثمة اتصالات تُجرى ودوراً روسياً واضحاً للتوفيق بين أنقرة ودمشق، وتحقيق انفراجة أو اختراق في العداء القائم بينهما، بحيث يتم التركيز على وجود نوع من التعاون المشترك في مواجهة التطورات في شمال سوريا، لكن من دون تحديد القضايا المطروحة للمناقشة. ولم يُعقب المقداد، خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، على الأخبار التي كانت متداولة بخصوص حدوث تقارب بين سوريا وتركيا أو محاولة موسكو عقد لقاء بطريقة غير مباشرة بين الرئيسين أردوغان والأسد في اجتماع منظمة شنغهاي المقبل في أوزبكستان من خلال دعوة البلدين إلى حضوره، خاصةً أن سوريا قد أبدت رغبة في الانضمام لهذه المنظمة. لكن التصريحات التي خرجت من المقداد تحدث فيها عن أمور عامة، حيث طالب تركيا بالانسحاب من الأراضي السورية في الشمال، والتوقف عن مساعدة الفصائل الإرهابية الموجودة هناك، وهو أمر لا يعبر عن موقف سوري واضح من التوجه التركي حتى الآن.

دوافع التغير:

أظهرت الشواهد السابقة وجود تغير في موقف أنقرة من دمشق؛ حيث يتبنى الموقف التركي الجديد تحسين العلاقات مع سوريا، وهو ما يدفع للتساؤل عن أسباب هذا التغير وتوقيته. وهنا يمكن الإشارة إلى بعض الدوافع والتفسيرات، كما ما يلي:


1- السياسات المُتغيرة للرئيس أردوغان: من طبيعة أردوغان أن يُغير مواقفه بصورة كبيرة دون أي تحفظات، وقد عكست سياسات أنقرة تجاه بعض دول الإقليم هذه الطبيعة المُتغيرة، مثل العلاقات التركية مع إسرائيل وانتقالها من العداء إلى تأسيس علاقات كاملة بينهما. وبالتالي فإن أسلوب عمل الرئيس أردوغان وتعاطيه مع التطورات التي تشهدها السياسة الخارجية التركية والتحولات الإقليمية والدولية، يجعلان من موقفه المُتغير إزاء دمشق أمراً طبيعياً بالنظر إلى سياسته منذ عام 2003 وحتى الآن. كما لا يمكن تجاهل أن توجهه الجديد إزاء سوريا يأتي في سياق تعديل أنقرة لمسارها الإقليمي.

2- ضغوط الداخل التركي على أردوغان: هناك قضية اللاجئين السوريين الذين يقترب عددهم من 4 ملايين نازح داخل تركيا، وتركز المعارضة التركية على أن هذه القضية من أسباب الأزمة الاقتصادية في البلاد، وأن ثمة فشلاً للرئيس أردوغان في مواجهة هذه الأزمة، وأن موقفه غير السليم في الصراع السوري هو الذي سمح باستضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين. وبالتالي يسعى أردوغان إلى إيجاد حل لهؤلاء النازحين وعودتهم، أو على الأقل الوصول إلى صيغة اتفاقات تسمح بعودتهم قبل الانتخابات القادمة والمُقررة في عام 2023، حتى يتجنب هذا الضغط من الأحزاب التركية المُعارضة.

3- رغبة الرئيس التركي في استرضاء روسيا: أوضحت تصريحات الرئيس أردوغان أن ما يقوم به هو نوع من التجاوب مع الرغبة الروسية واسترضاء الرئيس بوتين. ومن المُلاحظ أن أردوغان يحاول الاستفادة من الحرب الأوكرانية والظروف التي تواجه موسكو، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، سواء على مستوى الطاقة والمسائل الاقتصادية الأخرى أو حتى على المستوى السياسي والعسكري. ولا شك أن روسيا تُدرك ذلك جيداً، وأرادت في مقابل كل هذه المطالب التركية أن تحقق مكسباً أيضاً يتعلق بدعم الحكومة السورية، ومواجهة الإرهاب، ووقف التقدم العسكري التركي في الشمال السوري، ومواجهة النفوذ الأمريكي المُتزايد في شرق الفرات والداعم للقوات الكردية هناك. كما أن وقف العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا ربما يخفف من الضغوط على القوات الروسية الموجودة هناك، ومن ثم يسمح بنقل المزيد منها إلى أوكرانيا.

ردود الفعل:

لم تكن ردود فعل القوى الإقليمية والدولية، وحتى على مستوى الداخل السوري، جميعها إيجابية تجاه تغير التوجه التركي من سوريا، بل يمكن القول إن علامات الاستفهام حول هذا التغير تغلب على الترحيب به. ويمكن الإشارة إلى أبرز ردود الفعل في هذا الشأن، كالتالي:

1- المعارضة السورية: أثارت هذه التطورات التركية قلقاً كبيراً لدى فصائل المعارضة السورية، خاصةً السياسية منها، واتضح ذلك من التصريحات التي أدلى بها العديد من قياداتها، والذين أكدوا أنهم أجروا اتصالات مع وزارة الخارجية التركية لمنع هذا التغير، والعودة إلى الموقف الأصلي من النظام السوري. فمثلاً، صرح جورج صبرا، الرئيس السابق لائتلاف قوى المعارضة، يوم 22 أغسطس الجاري، قائلاً إن التصريحات التركية الأخيرة تجاه النظام السوري لم تكن مفاجئة، بل جاءت في مسار انسيابي ومتدرج، لكن المفاجئ هو الذهاب فوراً إلى المصالحة.

ويثير هذا التحول التركي تساؤلاً مفاده؛ هل مازالت أنقرة تساند عملية التغيير السياسي في سوريا ودعم اللجنة الدستورية وإعداد دستور وفترة انتقالية كما كان الأمر من قبل؟ أم أن ذلك سيعني انتهاء مسار جنيف والاعتماد على المسار الذي التزمت به روسيا بصورة كبيرة؟

2- إيران: كان واضحاً منذ عدة شهور أن إيران تتبنى اتجاهاً لتهدئة الأجواء بين تركيا والنظام السوري، وتهيئة الظروف لنوع من التطبيع يبدأ تدريجياً من خلال التنسيق الأمني والعسكري لمنع أي احتكاكات بين الطرفين، ثم يتصاعد إلى الموقف السياسي، حيث تتم تلبية احتياجات تركية مقابل وقف أنقرة عداءها مع دمشق، وبما يسمح ببلورة صيغة أخرى لحل الأزمة السورية تتجاوز الموقفين الأمريكي والأوروبي بصورة كبيرة ولا تؤثر على الوجود الإيراني في سوريا.

وتتوافق إيران مع تركيا في معاداتها لحزب العمال الكردستاني الذي يمثل تهديداً لأمن البلدين، خاصةً أن هناك حزبين إيرانيين مرتبطين بحزب العمال الكردستاني قد أعلنا مؤخراً توحيد قدراتهما ومؤسساتهما لدعم العمل المُناهض لإيران، وهو ما يدفع الأخيرة إلى مزيد من العداء مع العمال الكردستاني بأفرعه المختلفة، ويُهيئ أرضية تفاهم بين طهران وأنقرة. وبالتالي فإن تحقيق الهدوء في العلاقات التركية - السورية والاتجاه لعودة هذه العلاقات، ربما يخدم مصالح إيران، ليس فقط على مستوى حضورها في سوريا، ولكن أيضاً على مستوى العلاقات التركية – الإيرانية.

ومن ناحية أخرى، شهد التعاون الروسي مع إيران تقدماً كبيراً في الفترة الأخيرة، ليس فقط في الميدان السوري، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين. ولعل العقوبات الغربية المفروضة على كل من موسكو وطهران، قد هيأت مجالات للتعاون بين البلدين، وهو ما يجعل من سوريا مُرتكزاً مُهماً لكلٍ منهما، وبما يفرض عليهما العمل على مواجهة التهديدات التي تتعرض لها دمشق وبذل جهد كبير للتوفيق بينها وبين أنقرة.

3- الولايات المتحدة: لم تُعلق واشنطن على ما يُثار حول وجود تقارب بين تركيا وسوريا، خاصةً أن الموضوع يتعلق بالدرجة الأولى بالمنطقة التي ينتشر فيها النفوذ الأمريكي، سواء السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، فهناك قوات موجودة في منطقة الحكم الذاتي الكردية تحت دعاوى مواجهة داعش، وهي قوات أمريكية وتابعة لدول التحالف. وفي الوقت نفسه، تُسيطر الولايات المتحدة على عدد من الآبار البترولية التي كانت تابعة للدولة السورية، وتستخرج منها البترول وتُكرره بصورة غير قانونية دون الالتفات لأي ضوابط خاصة بالقانون الدولي في هذا الخصوص.

وترفض واشنطن أي عملية عسكرية تركية لاجتياح المنطقة الكردية في سوريا، لكنها وقفت ساكنة في العمليات العسكرية التركية السابقة، وتُرهن موقفها بما يمكن أن يهدد حياة المدنيين فقط في هذه المنطقة. وهذا ما يجعل أنقرة تعتقد أن الموقف الأمريكي لا يتفهم كثيراً مطالبها، وربما كان ذلك سبباً في التقارب التركي مع كل من روسيا وإيران وحتى النظام السوري، ليكون ورقة ضغط على الولايات المتحدة لاستثمارها في قضايا وملفات ثنائية بينهما.

مطالب مُتبادلة:

على الرغم من أن الاستراتيجية التركية كانت ثابتة خلال العمليات العسكرية الأربع التي قامت بها في الشمال السوري، فإنه من الواضح أنها تباينت بخصوص كل منطقة من المناطق الثلاث التي استهدفتها؛ عفرين، وريف حلب الشمالي، ومنطقة تل أبيض. 

فقد نجحت تركيا في تهجير الأكراد من منطقة عفرين، ووطنت فصائل عسكرية وعائلاتهم في هذه المنطقة، بجانب نقل النازحين التركمان إلى منطقة الشريط الحدودي في عفرين وعلى اتساع الحدود، بما أحدث نوعاً من التغيير الديموغرافي، كما قامت بعملية تتريك لكل الحياة المدنية هناك، وفرضت نظاماً خدمياً يرتبط بالحكم المحلي في تركيا وكأن المنطقة أصبحت جزءاً من تركيا.

بينما تباينت سياسة أنقرة بخصوص منطقتي ريف حلب الشمالي وتل أبيض، فهي تحاول استيعاب السكان في هذه المناطق حتى تكون مجال مساومة مع النظام السوري وروسيا، وقد قبلت نوعاً من التفاهم مع الأخيرين بأن تكون هناك دوريات مشتركة لمكافحة وجود قوات تابعة للفرع السوري التابع لحزب العمال الكردستاني في تلك المناطق، ومازالت تتهم الطرفين بأنهما لم يقوما بواجبهما في هذا المجال. وترد روسيا وسوريا على تركيا بأنها لم تُنفذ كذلك التزاماتها بإبعاد كل الفصائل والتنظيمات الإرهابية المُرتبطة بها من مناطق التماس بين سوريا وتركيا.

وأشارت بعض المصادر التركية إلى أن الحوارات التي جرت بين أجهزة الأمن السورية والتركية، وكذلك في لقاءات القمة التركية – الروسية - الإيرانية سواء في طهران أو سوتشي، قد تناولت بصورة تفصيلية مطالب أنقرة بإبعاد العناصر العسكرية كافة التابعة لحزب العمال الكردستاني من شمال سوريا، ورفض إقامة دولة مستقلة في منطقة الحكم الذاتي، ووقف التعاون بين الحكومة السورية وسلطة الحكم الذاتي.

وفي المقابل، اشترطت دمشق، خلال هذه الاتصالات، ضرورة إبعاد القوات العسكرية التابعة للفصائل التي تستغلها تركيا في مواجهة الأكراد، بجانب أن ترفع أنقرة يدها عن دعم هيئة تحرير الشام التي تستولي على إدلب، كما طالبت سوريا تأكيد ما سبق الاتفاق عليه بفتح طريق حلب - اللاذقية - دمشق الدولي والذي يُسمى M4، والذي لا تزال القوات التركية لا تسمح بفتحه.

ومن الواضح أن مطالب كل من تركيا وسوريا حتى الآن ترتفع إلى سقف كبير يصعب تطبيقه، فلا يُتصور أن يسلم النظام السوري لتركيا باحتلالها إدلب ومنطقة عفرين بصورة كاملة، وأن يتم الحديث حول الوجود التركي في باقي المناطق بالشمال وتجاهل تلك المناطق التي تم احتلالها. كما لا يُتصور أن توافق الحكومة السورية، بالرغم من كل الضغوط التي يمكن أن تُمارس عليها من روسيا وإيران، على أن تتجاهل وجود قوات عسكرية للفصائل الإرهابية تهدد مناطق التماس. وفي الوقت نفسه، فإن تركيا لن تسلم كثيراً بالمطالب السورية، خاصةً فتح الطريق الدولي بين اللاذقية ودمشق، وإبعاد القوات الإرهابية وهيئة تحرير الشام إلى مسافة 20 كم وفقاً لما تم الاتفاق عليه.

ختاماً، تعد العلاقات في سوريا متشابكة، سواء بين القوى الداخلية أو الأطراف الإقليمية والدولية المُتصارعة، وبالتالي لا يتصور أن تسفر التطورات الأخيرة عن تغير كبير في العلاقات التركية – السورية، ولكن إذا تم ترتيب لقاء بين الرئيسين أردوغان والأسد ربما تهدأ حدة المواجهة بينهما، وقد تستثمرها تركيا في الداخل وفي علاقاتها الإقليمية.