"هاتف الخلافة":

كيف انقاد جيل كامل من الإسلاميين للعنف؟

07 March 2015


فيما تتوالى إعلانات مبايعة حركة داعش وخلافتها المُدعاة، تتوالى أسئلة مشروعة عن الدور الأكثر فعالية في حزمة الأفكار المحركة للإرهاب في واقعنا الإسلامي.. أهي رؤية منظـِّر الإخوان (سيد قطب أو غيره)؟ أم فتاوى مفتي (سيد إمام الشريف أو غيره)؟ أم مشاعر سلبية قطب الرحى فيها الإحساس بالعجز (أو التهميش أو الاغتراب ....)؟ أم نطاقات فقر وعشوائية صنعها فشل في أداء "الدولة الوطنية" في تجارب كثيرة وكثيرة، عربياً وإسلامياً؟ أم .....؟

من الإجابات المتفردة التي قدمت مؤخراً مسعى لفهم الظاهرة الإرهابية شهادة (أحمد الرجال، وهو طبيب مصري كان من أعضاء تنظيم "الفنية العسكرية" الذي قام بمحاولة انقلاب فاشلة على حكم أنور السادات عام 1974 لهدف واحد هو: "إعلان الخلافة").

الرجل الذي صمت طويلاً خرج عن صمته بكتاب مهم حرره الدكتور كمال السعيد حبيب – وهو شاهد على الفترة من موقعه السابق كأمير لتنظيم الجهاد – وهو في الوقت نفسه أكاديمي متخصص في شؤون الحركات الإسلامية قدم الكثير من المشاركات المهمة في دراسة الظاهرة.

الكتاب – كما يشير عنوانه – يعتبر أن "هاتف الخلافة" قاد جيلاً من الإسلاميين إلى العنف، وتعبير "هاتف" له ظلال كثيفة في الثقافة المصرية، خاصة دلالته المعروفة في العامية المصرية، فهو معنى غيبي من الطراز الأول، وقبل سنوات اختار المستشرق المتخصص في الدراسات الأندلسية رينهارت دوزي عنوان: "وزير له هاتف" ليحكي قصة الوزير "ابن عمار" الملقب بـ "داهية الأندلس" لأن رؤية رآها في منامه وهو شاب صغير أعلمته بمصيره الفاجع بعد عشرات السنين.... وكانت تؤرقه من آن آخر!

وحسب محرر الكتاب، "فقد اندفع هؤلاء الشباب الغض خلف هاتف يهتف بأنفسهم وبعواطفهم الجياشة وبنفوسهم البريئة وكأنه الظل الملازم لصورة الإنسان حين يتحرك، بيد أننا أمام ظل روحي يخاطب الروح ويداعب الأفكار ويهتف بها أن قوموا لاستعادة الخلافة".... و"الهاتف في الحقيقة هو فعل نفسي ذو طبيعة حشدية تنادي في الإنسان عوامل الإقدام والشجاعة والنخوة لاستعادة ما فُقِد، ومن ثم تثير قلقه وتدفعه للتحرك بلا خطة ولا سؤال عن المستقبل، ولا بحث عن الكيفيات، ولكنها صيحة غامضة مجهولة تحيط بالنفس والروح وتدفعها إلى أقدارها حتى لو كان في ذلك حتفها أو موتها" (الكتاب ص 7 – 8).

الإيمان بأسطورة الخلافة

الأسطورة تصور يتجاوز الواقع المعيش وليست بالضرورة خرافة، كما يتصور كثيرون، بل هي في الكثير من الثقافات تحمل معنى إيجابياً. والخلافة في وجدان الغالب الأعم من المسلمين، أياً كانت درجة تدينهم، تملك الرصيد الوجداني الأكبر. ومنذ انفراط عقد الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين، والحركات الإسلامية لا تكف عن الإحالة على الرمز، بل إن الأرجح أن القسم الأكثر تأثيراً في واقع العالم الإسلامي اليوم من الحركات ولدت لتستعيد الخلافة وتعيدها إلى الحياة، وصولاً إلى خلافة داعش!!

والقضية ليست حسم السؤال المعلق منذ زمن طويل حول الوصف الدقيق الذي ينبغي أن توصف به "الخلافة"... أهي من أمور الدين أم من شؤون الدنيا؟ لكن المقطوع به أن رابطة الأخوة بين المسلمين تستلزم درجة ما من التضامن يراها البعض حداً أقصى من الموالاة ويراها آخرون تضامناً رمزياً مسرحه الرئيسي عالم الوجدان لا فضاء السياسة. وبين الحدين اشتعلت المعارك، والتي كان بعضها صراعاً ثقافياً أُسِيل فيه الكثير من الحبر منذ أصدر علي عبد الرازق كتابه: "الإسلام وأصول الحكم"، وبعضها كان صراعاً مسلحاً أُسِيل تحت رايته الكثير من الدم.

"الفنية العسكرية".. منطلقاً لنقاش أوسع

يثير الكتاب في الحقيقة عدة قضايا بعضها متصل أوثق الاتصال بموضوعه، وبعضها أوسع نطاقاً تثيره الدلالة اللغوية لعنوانه، وبعضها من العموم بحيث يتجاوز الموضوع المباشر للكتاب، ويتجاوز كذلك الدلالات المباشرة وغير المباشرة للعنوان. فصدور الكتاب أعاد النقاش حول الغياب الواضح للحقائق في ملف دراسات الحركات الإسلامية، حيث الباحث قد يجد نفسه مصاباً بـ "تخمة"، وفي الوقت نفسه جوع شديد لـ "الحقائق"، فمما لا حاجة بنا للإشارة إليه أن المعلومة ليست بالضرورة حقيقة يمكن أن تكون مقدمة في قياس منطقي.

وما هو متاح من "معلومات" و"حقائق" قسم لا يستهان به منه "روايات أمنية" – ولا يعني هذا بالضرورة الطعن في صدقيتها بسبب مصدرها – و"شهادات شخصية" هي (مهما بلغت أهميتها ودرجة رغبة كاتبها في توخي الدقة) رواية صاحبها: في حدود علمه، وتحت سقف انحيازاته، فضلاً عما يشوبها من عيوب تشوب كل استعانة بالذاكرة الشخصية لبناء صورة – يفترض أن تكون – دقيقة لأحداث مرت عليها عشرات السنين.

ويحسب لهذا الكتاب أن مؤلفه استعان بباحث/ شاهد (الدكتور كمال السعيد حبيب)، وأضاف إلى شهادته شهادات آخرين، وأهمها:

ـ أقوال زينب الغزالي أمام نيابة أمن الدولة.

ـ شهادة الشيخ محمد الغزالي.

ـ شهادة الشيخ سيد سابق.

ـ رواية محمد السيد سليم (أحد المتهمين في قضية الفنية العسكرية).

ـ شهادة ياسر سعد عضو تنظيم الفنية العسكرية.

ـ مرافعة كارم الأناضولي (أعدم في القضية).

ـ شهادة حسن الهلاوي (أحد أهم رموز الحقبة في التنظيمات المسلحة).

الانضمام... الصدمة... الانشقاق

القصة الرئيسة في الكتاب/الشهادة كيف انضم الطبيب أحمد الرجال إلى التنظيم بعد أن خطب خطبة عصماء في ضرورة الاحتكام لـ "شرع الله"، فعرض عليه ثلاثة من أعضاء التنظيم أن ينضم إلى "تنظيم قائم يهدف إلى قيام دولة إسلامية بالقوة" (الكتاب ص 54). ولعل ما تكشف عنه هذه العبارة حالة تبسيط مخل وثقة لا يساندها مبرر شرعي واستحلال يجب البحث عن جذوره، جعل جيلاً بأكمله يعتبر "القوة" خياره المفضل لتغيير العالم!

ويقول الرجال في موضع آخر من الكتاب: "عاد الثلاثة بالرسومات الكروكية وأطلعوني عليها، فأحسست أن فجر الخلافة الإسلامية بات وشيكاً" (الكتاب ص 64). المهم أن الرجل وجد نفسه بعد قليل مطالباً بأن يشارك في ذبح جنود من حراس الكلية الفنية العسكرية، حيث المرحلة الأولى من المخطط تقوم على ذبحهم لسرقة أسلحتهم واستخدامها في اقتحام الكلية واستخدام الأسلحة الموجودة بداخلها لتنفيذ انقلاب عسكري يترتب عليه "إعلان الخلافة".

وعندما وجد نفسه أمام الذبح قرر التراجع وقام بإبلاغ السلطات قبل الواقعة بساعات، لكنها تلكأت في رد الفعل حتى وقعت الواقعة وسقط قتلى وفشل المخطط وانتهت القضية بإعدام ثلاثة متهمين على رأسهم صالح سرية زعيم التنظيم، وسجن آخرين.

وحتى خرج الدكتور أحمد الرجال عن صمته ونشر شهادته بقي لسنوات يعاني من تبعات قيامه بإبلاغ السلطات عن الواقعة بأمل منع سفك دماء الأبرياء، ما يحمل إشارة مهمة إلى المصاعب التي تحيط بكل من يدخل مثل هذا التنظيم إذا حاول إعادة النظر في قراره.

وبين الانضمام وقرار الانشقاق يكشف الرجال في شهادته عن تفاصيل مهمة من بينها ما شك فيه بعض الضباط الذين يحققون في القضية من صلة محتملة بين حسين الشافعي – نائب رئيس الجمهورية آنذاك – وتنظيم الفنية العسكرية، فضلاً عن صلات محتملة لتنظيم "الفنية العسكرية" بنظام معمر القذافي. كما أن بالكتاب إشارة مهمة إلى أن صالح سرية (زعيم التنظيم) له ماضٍ تنظيمي شيوعي!.

"الفنية العسكرية" و"السلفية الجهادية"

الملاحظة المهمة، بل الخطيرة جداً، التي يوردها الدكتور كمال السعيد حبيب – محرر الكتاب – في تقديمه له، هو قوله: "..... وسنجد أن كل ذلك الجيل ممن شاركوا في الفنية العسكرية ينتمي لجيل الخمسينيات وذلك هو الجيل المؤسس لما نطلق عليه "السلفية الجهادية"". (الكتاب ص 9). وهذا الخيط المفترض الممتد بين مشروع صالح سرية ومشروع أبي بكر البغدادي هو الرسالة الأهم في الكتاب؛ فرغم الثراء الواضح في التفاصيل، ورغم الجهد الملحوظ المبذول في محاولة تفسير الوقائع وربطاً بسياقاتها، فإن هذا الاستنتاج يظل الأهم. صحيح أنه استنتاج يعطي "أولوية تفسيرية" كبيرة نسبياً لما هو جيلي على حساب اعتبارات أخرى كثيرة في مسار هذه الجماعات وكذلك الواقع المحيط الذي تولد وتتحرك فيه، إلا أنه استنتاج مهم، خاصة أنه استنتاج من أكاديمي معروف وقيادي جهادي سابق.

الكتاب يؤكد صحة معلومة سمعتها قبل سنوات شفاهةً من القيادي الراحل طلال عبد المنعم الأنصاري أحد أهم أعضاء التنظيم، وأول من خرج عن صمته منذ سنوات ليكتب عنه كتاباً أثار جدلاً كبيراً، والمعلومة أن عدداً لا يستهان به من كوادر التنظيم لم تطلهم يد العدالة مطلقاً بسبب عدم ورود أسمائهم في التحقيقات، وأكثرهم دلالة الداعية الشهير: وجدي غنيم!.