أزمة ثقة:

لماذا يعاني الاقتصاد التركي من معدلات تضخم مرتفعة؟

30 September 2021


تشهد معدلات التضخم في تركيا ارتفاعاً مضطرداً في الفترة الأخيرة، فمنذ مايو 2018 وحتى القراءة الأخيرة للتضخم لشهر أغسطس 2021 والتي بلغت 19.3% على أساس سنوي، لزم معدل التضخم خانة العشرات أو الأرقام المزدوجة، وهي مستويات حوّلت أسعار الفائدة الحقيقية مؤخراً إلى النطاق السالب. ومع الخفض المفاجئ الذي قام به المركزي التركي لأسعار الفائدة في اجتماعه يوم 23 سبتمبر 2021، يستمر التساؤل في الأسواق العالمية حول استجابة صانعي السياسة النقدية في تركيا لظاهرة التضخم، ومدى تلبيتهم متطلبات إدارة الاقتصاد التركي في تلك المرحلة، وهو ما يضع السياسة النقدية التركية محل أنظار الأوساط الاقتصادية الدولية والمحلية.

أزمة الليرة التركية:

غالباً ما يعكس التضخم المفرط مشكلة جانبية في الاقتصاد أو اختلال ما في أحد قطاعاته الرئيسية، كالقطاع الحقيقي أو الخارجي، وهو ما يُعتقد أنه ينطبق بشدة على الوضع الحالي للاقتصاد التركي. فالتضخم المتواصل في تركيا لا يمثل جوهر المشكلة، وإنما يأتي انعكاساً لعدد من الاختلالات الأكثر تأصلاً في الاقتصاد التركي.

وهنا يمكن القول إن التضخم المفرط يُشكل الوجه النقدي الآخر لمشكلة الانخفاض المتتالي لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي. فعلى مدار العقد الأخير، شهدت قيمة الليرة انخفاضاً تدريجياً من 1.5 ليرة للدولار الواحد في مطلع 2010 حتى لامست حافة الـ 9 ليرات أمام كل دولار في سبتمبر 2021، وقد كانت بداية التراجع الشديد للعملة التركية منذ النصف الثاني من عام 2018.


ومن ثم، يبدو ارتفاع التضخم أمراً حتمياً في ظل الانخفاض المتواصل لسعر صرف الليرة التركية والناجم بالأساس عن العجز المستمر للمعاملات الجارية بالنقد الأجنبي، خاصة مع نمو الواردات السنوية من المواد الخام والسلع الرأسمالية والسلع الوسيطة، والتي تمثل معاً حوالي 67% من إجمالي الواردات التركية لعام 2019، حسب قاعدة بيانات التجارة الخارجية للبنك الدولي. ويقود ذلك بطبيعة الأمر إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج وأسعار السلع النهائية. 


 عوامل متشابكة:

يرجع ارتفاع معدلات التضخم في تركيا إلى العديد من الظروف السياسية والاقتصادية على الساحة المحلية والدولية، ويمكن استعراضها على النحو التالي:


1- أزمة الحساب الجاري في تركيا: تمثل أزمة سعر صرف الليرة في الفترة الراهنة امتداداً لمعضلة عجز الحساب الجاري التركي، والذي تفاقم بوجه خاص في 2018، وهو العام نفسه الذي شهد تراجع عملات عدد من الاقتصادات الناشئة؛ نظراً لتدهور أساسيات الاقتصاد الكلي. ولكن الوضع بالنسبة لتركيا كان يبدو مختلفاً نسبياً، حيث إن منشأ أزمة العملة مزيج من العوامل الاقتصادية والسياسية معاً. 

وفي ظل اتساع فجوة الموارد المحلية وانخفاض معدل الادخار، يعاني الاقتصاد التركي عجزاً مزمناً في الحساب الجاري. وبالرجوع إلى بيانات العقد الماضي، فقد سجل الحساب الجاري عجزاً قدره حوالي 47 مليار دولار في عام 2010، مرتفعاً إلى مستوى قياسي قدره 74 مليار دولار في عام 2011، طبقاً لبيانات صندوق النقد الدولي. وبعد أن تراجع عجز الحساب الجاري بشكل ملفت في عامي 2015 و2016 مسجلاً أرقاماً دون الـ 30 مليار دولار، لكنه قفزة مرة أخرى إلى ما يقارب 41 مليار دولار في عام 2017.

وتمثل الأرقام المرتفعة لعجز الحساب الجاري أحد مصادر هشاشة وضعف السيولة الأجنبية في تركيا، وتزيد حدة المشكلة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الديون الخارجية تستنفد جزءاً ليس بقليل من تدفقات النقد الأجنبي الواردة لتركيا، حيث اعتمد قطاع واسع من شركات القطاع الخاص في العقد الماضي على الاقتراض من الخارج لدعم أنشطتها ونموها بالأسواق. وبناءً عليه، شهد الدين الخارجي للقطاع الخاص ارتفاعاً مستمراً في العقد الماضي، ما قد يفاقم أيضاً أزمة العملة التركية. 

2- مخاطر جيوسياسية: تعرضت الليرة التركية أيضاً لأزمة ثقة قوية في العامين الماضيين، على خلفية توتر العلاقات السياسية والاقتصادية بين أنقرة وواشنطن، والذي وصل ذروته مع فرض إدارة دونالد ترامب السابقة تعريفات جمركية على الصادرات التركية من الحديد والألمنيوم إلى السوق الأمريكي. علاوة على ذلك، كررت الولايات المتحدة تهديداتها لتركيا بتقويض الشراكة الاقتصادية معها، إلى جانب فرض عقوبات اقتصادية عليها، وذلك بعد شراء أنقرة النظام الدفاعي الصاروخي الروسي "إس-400".

3- موجات تضخم عالمية: شهد العالم موجات تضخم عالية منذ بداية العام الجاري، مع التعافي التدريجي من جائحة كورونا نظراً للتوسع في عمليات التطعيم ضد الفيروس. وارتفعت أسعار السلع العالمية، بعد تهاويها في الربع الثاني من عام 2020، بشكل غير مسبوق في الأشهر الأخيرة. 

وطبقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، شهد مؤشر أسعار السلع، والذي يشمل الطاقة أيضاً، ارتفاعاً كبيراً، وكاد أن يتضاعف، وتحديداً من 84 نقطة في أبريل 2020 إلى 164 نقطة في أغسطس 2021؛ أي بارتفاع نسبته حوالي 95.2%، وهو من بين عوامل أخرى دفعت وزارة المالية التركية إلى تعديل معدل التضخم المستهدف إلى 16.2% بنهاية عام 2021.


سياسة نقدية غير تقليدية: 

يعود جزء كبير من عوامل الأزمة الحالية في الاقتصاد التركي إلى عوامل سياسية؛ تتمثل بالأساس في تبني ¬البنك المركزي التركي، تحت ضغوط من الرئيس رجب طيب أردوغان، سياسية نقدية توسعية. وثمة تباين بين ما يقتضيه التعامل مع التضخم من خلال السياسة النقدية التقليدية، وبين توجهات أردوغان غير التقليدية فيما يخص أسعار الفائدة، أو التي تُسمى في الأدبيات الاقتصادية بـ Unorthodox Monetary Policy أي "السياسة النقدية غير التقليدية"، حيث يؤمن أردوغان بأن أسعار الفائدة المرتفعة ما هي إلا متغير سلبي في دالة الأداء الاقتصادي، ومن شأنها أن تُبطئ وتيرة النمو الاقتصادي.

وقد ظهر ذلك التوجه جلياً في تباطؤ وتردد البنك المركزي التركي حيال قرارات رفع سعر الفائدة، والتعجل نسبياً في خفضها. فخلال الفترة من يناير 2017 وحتى سبتمبر 2021، رفع المركزي التركي سعر الفائدة 6 مرات، بينما خفض الفائدة 10 مرات أخرى، ولعل الخفض المفاجئ لسعر الفائدة في 23 سبتمبر 2021 إلى 18%، يؤكد الموقف السلبي لأردوغان من تشديد السياسية النقدية، متغاضياً في الوقت ذاته عن معدلات التضخم القياسية في الوقت الحالي.


وبشكل عام، لا يعد التوجه النقدي غير التقليدي أساس المعضلة القائمة، ولكن تكمن المشكلة الحقيقية في ضغوط أردوغان المستمرة على البنك المركزي لتعديل سياسته، والذي يُفترض أنه يتمتع بحد أدنى من الاستقلالية عن الحكومة، وبما يكفي لاتخاذه القرارات اللازمة وفق ما تقتضيه معطيات الاقتصاد والقطاع النقدي. وقد تعاظمت تلك الضغوط مع إقالة محافظ البنك المركزي، ناجي إقبال، بعد أن أقدم على رفع سعر الفائدة في مارس 2021.  

وقد انتقدت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، في تقريرها الصادر في أغسطس الماضي، ممارسات أردوغان حيال البنك المركزي التركي، حيث نوهت إلى أن استقلالية الأخير باتت على المحك، وأن تلك التدخلات تضعف من مصداقية السياسية النقدية. وسبق أن أشارت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني في سبتمبر 2020 إلى أن السياسة النقدية التركية لا تتسم بالفعالية في مواجهة الضغوط التضخمية المستمرة.   

وفي ضوء المعطيات السابقة، يبدو أن فقدان الثقة والمصداقية في إدارة السياسة النقدية التركية هي الأزمة الحقيقية وراء تراجع الليرة، وارتفاع معدلات التضخم في البلاد. وهنا، فرضاً إذا ما كان ارتفاع سعر الفائدة قد يكبح النمو الاقتصادي ويضعف شهية الاستثمار، فبالنسبة لاقتصاد تركيا الذي يعاني تضخماً مزمناً واحتياجات تمويلية خارجية ضخمة، فإن معدلات الفائدة المنخفضة ليست أقل ضرراً على هذا الاقتصاد.

إذ إن انخفاض معدلات الفائدة تعني عائداً أقل على الاستثمار في الأصول التركية، وتقلل جاذبيتها الاستثمارية، لذا فقد تسببت في الأعوام الأخيرة في خروج رؤوس الأموال الأجنبية من السوق التركي، متجهة إلى أسواق أخرى تحقق عوائد استثمارية أعلى، وعلى نحو أدى إلى شح في النقد الأجنبي في تركيا، وتدهور مستمر لسعر صرف الليرة.

استنتاجات جوهرية:

ختاماً، يمكن القول إنه بالنظر إلى أساسيات الاقتصاد الكلي والظروف الجيوسياسية الراهنة، يقع الاقتصاد التركي في دائرة مغلقة من تدهور العملة المستمر، ويتواكب معه ارتفاع متتالٍ في معدل التضخم. ويغذي ذلك أيضاً كون السياسة النقدية التركية تفتقد المصداقية والثقة، لاسيما أن الرئيس أردوغان لا يبدو أنه سيسمح بمنح البنك المركزي التركي استقلاليته لاتخاذ ما يرى من سياسات وتبني الآليات لاحتواء معدل التضخم. وعليه، فإنه ليس متوقعاً أن يتراجع معدل التضخم المتفاقم في تركيا قريباً إلا بشكل محدود؛ وذلك لأسباب تتعلق بالتعافي الجزئي من جائحة كورونا، أو تدخلات من حلفاء أنقرة مثلاً عبر ضخ سيولة من النقد الأجنبي في الاقتصاد التركي. 

لكن في المجمل، ما زالت هناك جوانب قصور عديدة فيما يتعلق بالسياسة النقدية التركية، والتي تفتقد المصداقية والاستقلالية، وهي الثقة المطلوبة فيما يخص كيفية صناعة السياسة النقدية وحدود تدخل الأطراف المختلفة فيها، بغض النظر عن اتجاه وفترات تحركات الفائدة، ما يزيد من عدم اليقين الاقتصادي ويضعف من ثقة المستثمرين خارج وداخل تركيا في آليات عمل اقتصادها.