الموازن الروسي:

لماذا تسعى موسكو لتعزيز نفوذها في لبنان؟

02 May 2021


في ظل معاناة لبنان من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ومن خلافات حول ترسيم حدوده البحرية مع جيرانه (إسرائيل وسوريا)، وعجز فرنسي عن ترجمة المبادرة الفرنسية الإنقاذية، وانكفاء أمريكي عنه، واحتمالية عدم تغير الوضع مع الإدارة الجديدة، ومحاولات إيرانية مستمرة لتكريسه ضمن دائرة الردع الخاصة بأمنها؛ تصاعد اهتمام روسيا بلبنان، فهل سيؤدي إلى مزيد من التأزم والصراع الداخلي والإقليمي أم سيكون عاملًا في تثبيت الاستقرار؟ هذا هو ما يسعي التحليل التالي للإجابة عليه. 

مؤشرات اهتمام موسكو:

حدثت في الآونة الأخيرة مجموعة من المؤشرات التي تؤكد الاهتمام الروسي بالوضع اللبناني الداخلي، حيث طالب بيان صادر عن وزارة الخارجية الروسية، في 9 مارس 2021، على ضرورة الإسراع في تشكيل "حكومة مهمة في لبنان من التكنوقراط"، وتم التأكيد على المضمون نفسه في بيان ثانٍ صادر عن الوزارة في 15 مارس، حيث نص البيان على "التأكيد على مهمة تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري في أقرب وقت ممكن، بحيث تكون قادرة على ضمان خروج لبنان من الأزمة ومن دون تدخل أجنبي"، كما أعيد التشديد على المضمون ذاته حول حكومة من التكنوقراط في بيان ثالث في 16 إبريل 2021، كما بدرت معلومات عن تمنيات صادرة عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف تم إبلاغها لجهات لبنانية عدة بضرورة تخلي جميع الأطراف عن مطلب الحصول على الثلث المعطل في الحكومة الجديدة.

وفي سياق متصل، قام وفد من حزب الله بزيارة إلى موسكو في 14 مارس 2021، التقى فيها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وكان لافتًا تزامن هذه الزيارة مع زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي في 17 مارس، ولقاء مستشاري لافروف مع مستشار الشؤون الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإسرائيلية جوشوا زرقا، في مؤشر محتمل على أن هذا التزامن بين اللقاءات أكثر من مجرد مصادفة، كما كشف جدول اللقاءات التي عقدها وفد حزب الله عن اجتماعات تم عقدها مع مسؤولين أمنيين في أجهزة المخابرات الروسية، ولوحظ بعد الزيارة أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله لم يأتِ على ذكر أي شيء فيما يخص هذه الزيارة من خلال خطاباته، وإنما كان لافتًا إعادة إعلان تأييده لحكومة تكنوسياسية.

والتقى الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أبوظبي في مارس 2021، ثم تمت دعوته إلى زيارة رسمية إلى موسكو في 16 إبريل 2021، وطلب الحريري من روسيا مساعدة لبنان اقتصاديًا من خلال المشاركة في ترميم مرفأ بيروت وبناء محطات كهربائية. 

 كما ناقش الحريري مسألة تزويد لبنان بلقاحات ضد فيروس كورونا، وتعتبر مصادر من تيار المستقبل أن مطلب الحصول على مساعدات للبنان كان حاضرًا دائمًا في جولات سعد الحريري الأخيرة، حيث إنه نزولًا عند رغبة العديد من الأطراف -كالفرنسيين والروس- أحجم عن مطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة في لبنان للخروج من الأزمة السياسية الحادة لإفساح المجال أمام المبادرة الفرنسية المدعومة روسيًا لإنقاذ الوضع الاقتصادي. 

 حيث يعتبر الروس والفرنسيون أن التعامل مع القوى الحالية في لبنان ضروري لإنتاج الحل، علمًا أنه عقب انفجار مرفأ بيروت أيد أكثر من 95% من جمهور تيار المستقبل الذي يترأسه الحريري فكرة استقالة كتلتهم النيابية من البرلمان اللبناني حسب استطلاع للرأي تم إجراؤه في أغسطس 2020، وهذه الاستقالة لو حصلت في حينها لكانت أدت إلى إسقاط شرعية البرلمان اللبناني الحالي، حيث إنها كانت ستؤدي إلى خروج المكون السني من هذه السلطة، فالوعود المعطاة حينها بتسهيل تشكيل حكومة "المهمة" من التكنوقراط المستقلين لم تنجح محاولات جعلها تبصر النور منذ ثمانية أشهر إلى الآن، لأسباب متعددة: منها ما هو متعلق بالملف النووي الإيراني، ورغبة بعض الأطراف الداخلية في الحصول على الثلث المعطل فيها كالتيار الوطني الحر.

وكان لافروف قد أشار في مؤتمر صحفي على هامش لقائه مع وزير الخارجية المصري سامح شكري، إلى أن روسيا ستستقبل ممثلين عن القوى السياسية الرئيسية في لبنان لحثهم على إدراك مسؤولياتهم، من بينهم رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في 29 إبريل، حيث بدرت معلومات بأن لافروف قرر الاجتماع مع باسيل بعد وصول تأكيدات بأنه سيقدم تسهيلات في ملف تأليف الحكومة اللبنانية والذي ما زال معقدًا حتى الآن، علمًا أن باسيل قد لمح قبل الزيارة إلى أن حزبه يبحث في كيفية سحب التكليف بتشكيل الحكومة من سعد الحريري. 

فيما لم يتأخر الرد من مصادر تيار المستقبل الذي أعلنت مصادره بأن الحريري لن يتراجع عن تشكيل الحكومة، وأن البديل عن اعتذار الحريري هو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في لبنان، كما تزامنت زيارة باسيل إلى روسيا مع وجود بوغدانوف في باريس للتباحث في تطورات الوضع اللبناني، خصوصًا مع تصاعد وتيرة الحديث عن توجه أوروبي لفرض عقوبات ستطال معطلي تشكيل الحكومة، كما أن الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط قد تلقى دعوة لزيارة موسكو وهو سيلبيها لاحقًا.

أهداف روسيا:

انطلاقًا من تحليل التفاعلات والمواقف الروسية، يمكننا استنتاج أن الأهداف المطلوبة روسيًا من لبنان تتمحور حول التالي:

1-القيام بدور الموازن: الرحلات المتكررة وموجة الأنشطة الدبلوماسية توحي بأن روسيا تستعد لتلعب دور الوسيط في لبنان، حيث ينطلق الروس من ميزة القبول من قبل جميع الأطراف لدعم مشروع قابل للاستقرار في لبنان، وعلى الرغم من التقارب الروسي–الإيراني في العديد من الملفات الإقليمية، كالدعم الروسي لبرنامج إيران النووي، ودعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد؛ إلا أن هذا التقارب لا ينسحب بشكل كلي على لبنان، حيث إنه خلافًا لإيران التي تعتمد على حزب الله لفرض نفوذها السياسي والعسكري، تفضل روسيا تنويع علاقاتها مع مختلف اللاعبين السياسيين في لبنان، حيث تعمل روسيا على إقامة علاقة متوازنة مع جميع الأطراف دون تشكيل تحالف منفرد مع جهة واحدة. ويكشف نمط اختيار هذه الاستراتيجية عن رغبة روسية في الاعتماد طويل الأمد على لبنان، لأن الرغبة في العمل والتعاون مع جميع الأطراف سيؤدي إلى تقوية النفوذ الروسي، ولن يكون هناك طرف مستبعد يفتش عن حليف خارجي تتعارض مصالحه مع مصالح روسيا الجيوسياسية.

2- حماية المصالح النفطية: تستخدم روسيا شركاتها النفطية كأدوات للسياسة الخارجية، وفي السنوات الأخيرة استخدمت موسكو روسنفت Roseneft لتعميق العلاقات مع حكومات دول الشرق الأوسط كليبيا وفي شمال العراق، ويندرج تحرك روسنفت نحو لبنان في السياق نفسه، أي الجمع بين الاقتصاد والسياسة، حيث يكثر الحديث عن توجه روسي لربط دول مثل العراق وإيران وسوريا وتركيا ولبنان وليبيا من خلال الطاقة لمواجهة تحالفات الطاقة الأخرى في المنطقة، مثل تحالف مصر وقبرص واليونان، وحصلت موسكو على موطئ قدم في قطاع النفط والغاز اللبناني من خلال شركتي نوفاتيك Novatek (لاستكشاف وإنتاج الغاز والنفط)، وأيضًا من خلال روسنفت التي تم إلزامها بإعادة تأهيل خزانات النفط في مرفأ مدينة طرابلس اللبنانية، علمًا أن هناك أنبوب نفط يصل كركوك في العراق (حيث تتواجد الشركات الروسية حاليًا) بالساحل اللبناني عبر طرابلس (الأنبوب متوقف عن العمل منذ عام 1984 بقرار سوري على خلفية الحرب الإيرانية العراقية).

3- انتزاع النفوذ من الحلفاء: شهدت السنوات القليلة الماضية قيام موسكو بعمل توازني دقيق. فمن ناحية، قامت بعمليات عسكرية مشتركة مع حزب الله في سوريا، كالاستيلاء على شرق حلب، ومع ناحية أخرى تغاضت عن الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف تخص إيران وحزب الله في سوريا. وعلى الرغم من أن موقف روسيا من حزب الله إيجابي، حيث يعترف الروس بجناحه السياسي وبأنه قوة منتخبة من الشعب، ولا تصنفه كجماعة إرهابية لأنه لم ينفذ أي عملية إرهابية داخل الأراضي الروسية؛ إلا أن ما يثير ريبة إيران هو مطالبة روسيا بخروج جميع الجماعات المسلحة من سوريا حتى الإيرانية، فروسيا بذريعة أن بعض قوى المعارضة السورية المعتدلة ترفض الدخول في التسوية التي تعمل على إبرامها في سوريا طالما استمر تواجد الجماعات المسلحة المحسوبة على إيران بما فيها حزب الله على الأراضي السورية مما يؤثر على نجاح مبادرتها؛ تعمل بشكل ضمني على أن يشكل هذا الخروج في حال حصل تأثيرًا كبيرًا على النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان ومضاعفة النفوذ الروسي.

كما أن سعي موسكو لتسليح الجيش اللبناني، وإبرام اتفاقيات للتعاون العسكري مع لبنان، خصوصًا أن موسكو، وعلى خلاف المساعدات العسكرية الأمريكية للجيش اللبناني، تعرض إمداد لبنان بالسلاح الثقيل؛ يزعج حزب الله الذي كان يروج لتبرير استمرار حمله السلاح بأن القرار الدولي لن يسمح للبنان بأن يمتلك قوة عسكرية تُمكّنه من الدفاع عن نفسه بجدارة.

إن مصلحة روسيا في المنطقة، حسب رؤية ألكسندر دوغين في كتابه "النظرية السياسية الرابعة"، تهدف إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، لزعزعة الهيمنة الأمريكية والأطلسية على النظام الدولي، ومنع محاولات تطويق روسيا. ويعتبر الكثير من المراقبين في العلاقات الدولية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطبق هذه الاستراتيجية وفق ما بات يعرف بأطروحة "الأوراسية الجديدة"، وبالتالي فإن لبنان يدخل ضمن مناطق تداخل النفوذ Spheres of influences بين دولة تحاول أن تصبح قوة إقليمية هي إيران، ودولة عظمى أو كبرى وهي روسيا، وبالتالي فإن الكلمة الأخيرة ستكون للدولة العظمى في حال حصل تعارض في المصالح، خصوصًا أن روسيا تبحث في لبنان عن فرص تجارية للشركات التجارية، واستعمال المرافئ والمطارات اللبنانية، وعقد صفقات لبيع الأسلحة، وكل ذلك يحتاج إلى الاستقرار، بينما تبحث إيران عن الانطلاق من لبنان لزعزعة استقرار الدول المجاورة، واستخدام الورقة اللبنانية للتفاوض على الملف النووي الإيراني، ولتشكيل عامل ردع بوجه أي تهديد للنظام الإيراني.

وبالتالي فإنه أمام إيران خيارين لمنع الوصول إلى التصادم الناتج عن التداخل في دوائر النفوذ: الخيار الأول التسليم المرحلي بتراجع النفوذ الإيراني في لبنان وانتظار تغير الظروف الإقليمية والدولية الحالية، والخيار الثاني وهو تحويل النظرة الإيرانية إلى لبنان واعتباره وسيلة لتهدئة التوترات مع الغرب (الولايات المتحدة تحت قيادة الديمقراطيين وأوروبا) وإسرائيل من خلال التعاون مع الوسيط الروسي، أو وسيلة لموازنة الدور الأمريكي (تحت قيادة الجمهوريين).

4- تعويض الخسائر: تدعم روسيا المبادرة الفرنسية لأنها تحافظ قدر الممكن على بقاء موازين القوى الحالية في لبنان كما هي، ولأن موسكو تضمن قدرتها في التأثير على هذه القوى، ولا يناسب حساباتها أي تغيير جذري يحصل في تركيبة السلطة اللبنانية، خصوصًا إذا كان ناتجًا عن احتجاجات شعبية أو ضغط دولي، وبدا ذلك واضحًا من خلال الحذر الروسي من نجاح ثورة 17 تشرين والتي تعتبرها تحظى بدعم أمريكي خفي، وبدا واضحًا التخوف الروسي من انقلاب موازين القوى في لبنان والذي وصل إلى أعلى مراحل التحقق عقب انفجار مرفأ بيروت مع احتلال الثوار بعض المباني الرسمية وإسقاط حكومة حسان دياب، حيث عارضت روسيا مطلب الثوار وقوى الرابع عشر من آذار بضرورة إجراء تحقيق دولي لكشف أسباب الانفجار على لسان السفير الروسي في بيروت حينها ألكسندر زاسبكين. فبحسب النظرة الروسية فإن نجاح هذه الثورة سيؤدي إلى توسيع النفوذ الأمريكي في لبنان، وإلى عرقلة مشاريعها.

ومن أسباب الدعم الروسي للمبادرة الفرنسية أيضًا هو الاختباء وراءها، لأنه لا يمكنها رفضها أو انتقادها مع عدم قدرة الطرف الروسي على تقديم طرح بديل، ولذلك فإن المسؤولين الروس يشددون على فكرة واضحة هي أنه ليست هناك مبادرة روسية في لبنان، لأن الوضع الاقتصادي المتدهور في لبنان يحتاج إلى دعم مالي فوري، وهو ليس من نوع المساعدة التي تقدمها روسيا عادة، خصوصًا أن مشروع إعادة إعمار سوريا مجمد حاليًا لأن روسيا بانتظار الدعم المالي للشروع به. وتعتبر بعض وجهات النظر الروسية أن الاعتماد على نظام مصرفي لبناني قوي ومستقر يمكن أن يشكل همزة وصل لسوريا بالعالم الخارجي، ويحد من تداعيات الحصار الاقتصادي على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وبالتالي فإن نجاح المبادرة الفرنسية في إنقاذ الاقتصاد اللبناني مفيد للحسابات الروسية.

وتعتبر روسيا أنها وجدت في لبنان الأرضية السهلة في المنطقة لتعويض نسبي لخسارتها حليفين مهمين في الشرق الأوسط هما ليبيا والعراق، خصوصًا أن القوى الداخلية المتنافسة تبحث عن نظام دولي جديد، وتحاول روسيا ملء الفراغ الناتج عن انسحاب اللاعب الأمريكي منه، وانتهاجه في لبنان مبدأ "العصا فقط" عبر الحصار الاقتصادي والعقوبات، لذلك فإن روسيا تبدي المزيد من المرونة والانفتاح على كافة الأطراف.

ختاماً فإن اهتمام روسيا باكتساب نفوذًا إضافيًّا في لبنان يُفسَّر بمحاولاتها توسيع مدى نفوذها في الشرق الأوسط كرد فعل على محاولات حلف الناتو تطويقَها في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي السابق. وتعتمد روسيا في مسعاها هذا على توجهات أمريكية تخفف من التركيز على الشرق الأوسط وتحول اهتمامها نحو أقاليم أخرى، وتعتمد الاستراتيجية الروسية حتى الآن على الانخراط في الأزمات، ومحاولة لعب دور الوسيط المقبول، وتفعيل الحوارات بين الأطراف المتناحرة دون الرغبة أو امتلاك القدرة على صناعة الحلول.