سردية مضللة:

هل تتجانس السياسة الخارجية للأحزاب الشعبوية الأوربية؟

28 April 2021


عرض: عبد المنعم محمد – باحث في العلوم السياسية

سلط "المعهد الملكي للشؤون الدولية" (تشاتام هاوس)، في ورقة بحثية أعدها "أنجيلوس كريسوجيلوس"، الباحث ببرنامج أوروبا بالمعهد، وصدرت في 30 مارس 2021 بعنوان "هل هناك سياسة خارجية شعبوية؟" الضوء على المقاربات المختلفة للشعبويين تجاه السياسة الخارجية، انطلاقًا من فرضية أن صعود الشعبوية في أوروبا الذي أثار جدلًا كبيرًا في السنوات الماضية يمثل تهديدًا للنظام الدولي الليبرالي هي سردية مضللة.

وقد حاولت الورقة البحثية توضيح ذلك عبر إظهار الفارق بين الأنماط المختلفة للشعبوية وسمات كل منها، مع التركيز على الإجراءات والمقاربات التي تتخذها تلك الحركات تجاه القضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية. فعلى الرغم من التباين الأيديولوجي بين تلك الحركات، إلا أن سياستها الخارجية غالبًا ما تعكس التقاليد الاستراتيجية السائدة والمصالح الوطنية لبلدانها، كما أنها لا تختلف كثيرًا في توجهات السياسة الخارجية السابقة للبلاد.

أنماط عديدة

تجادل الورقة البحثية بأن الأيديولوجيا الشعبوية تنطلق من مبدأ أن المجتمعات تنقسم إلى شريحتين: الأولى تتمثل في الشعب، في حين تنحصر الثانية بالنخب. ويرى هؤلاء أن الشريحة الأولى تتميز بالنقاء والاضطهاد، في حين تتصف الثانية بالفساد والانعزال عن المجتمع. من ناحيةٍ أخرى، يختلف تناول ذلك التصنيف وفقًا للنمط الأيديولوجي السائد، إذ يُحدد الشعبويون اليساريون هذا التقسيم وفقًا للمنظور الاقتصادي، في حين يُعرفه اليمينيون على أسس عرقية وثقافية، ومن هنا تظهر عدة أشكال للشعبوية في أوروبا يمكن تحديدها فيما يلي:

أولًا- الشعبويون اليمينيون: يُنظر لتلك الفئة على أنها الأكثر تجذرًا ورسوخًا في أوروبا، ويعود ظهورها لأحزاب ما بعد الفاشية، وأبرز نماذج تلك الأحزاب: التجمع الوطني في فرنسا، والحرية في النمسا، والبديل في ألمانيا، وحزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الرابطة في إيطاليا. وينطلق أصحاب تلك الرؤية من أسس عرقية وثقافية، كما ينظرون للسكان الأصليين على أنهم مهددون ويعانون في مجتمعاتهم. 

وحول توجهات السياسة الخارجية، فقد اختلفت مواقفهم باختلاف القضايا المطروحة. فعلى سبيل المثال، وقف حزب التجمع الفرنسي والحرية النمساوي مؤيدَيْن للولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينيات كجزء من مناهضة الشيوعية، وقد تبدل الموقف في أعقاب الحرب الباردة، حيث اتخذا موقفًا معاديًا لأمريكا. وخلال العقد الأول من القرن الحالي اهتم عدد من تلك الأحزاب بمواجهة تأثير الإسلام السياسي في أوروبا، مما أدى إلى دعم واشنطن لحربها ضد الإرهاب، وفي أعقاب 2011 عارضت بعض الأحزاب تدخل حلف الناتو في ليبيا. وفي أعقاب وصول "دونالد ترامب" لإدارة البيت الأبيض اعتبرت تلك الأحزاب أن وصوله يمثل انتصارًا كبيرًا.

وفيما يرتبط بالموقف من روسيا، لفت الورقة البحثية إلى أن أحزاب اليمين المتطرف قد حافظت على علاقات وثيقة مع موسكو منذ نهاية الحرب الباردة، كما تكثفت الروابط بينهما في أعقاب عام 2010 على خلفية أزمة اليورو والتدخل الروسي في أوكرانيا. ورغم ذلك فقد تشكل الاتجاه العام بشأن روسيا وفقًا لمنظورين، إذ نظرت بعض الأحزاب لموسكو باعتبارها شريكًا حيويًا وضروريًا للأمن الأوروبي، علاوةً على كونها قوة موازنة للولايات المتحدة، في حين اتّخذت أحزاب أخرى مواقف أكثر تشددًا تجاه موسكو وعارضت تحركاتها في عدد من القضايا.

ثانيًا- الشعبويون اليساريون: تمركزت تلك الأحزاب في شمال أوروبا حتى عام 2010، ومن بينها: الحزب الاشتراكي في هولندا، وحزب اليسار في ألمانيا، وحزب سيريزا في اليونان. إلا أن أزمة اليورو وما أعقبها من تحولات ساهمت في بروز عدة أحزاب أخرى في جنوب أوروبا كحزب بوديموس في إسبانيا الذي تأسس عام 2014.

وفيما يرتبط بالسياسة الخارجية لتلك الأحزاب، تؤكد الورقة أن اليسار الشعبوي قد يكون معاديًا للولايات المتحدة، وينصبّ خطابه على الإمبريالية والعسكرة الأمريكية، حيث عارض تدخلات حلف الناتو وواشنطن في البلقان والشرق الأوسط في السنوات الخمس والعشرين الماضية. ومن ناحيةٍ أخرى، تتعاطف تلك الأحزاب مع روسيا، فحزب اليسار الألماني -على سبيل المثال- يدعو لتشكيل نظام أمن جماعي في أوروبا، بحيث تصبح موسكو جزءًا منه، ليس هذا فحسب بل يؤيد الحزب التدخل الروسي في أوكرانيا وسوريا، ولم يتخذ موقفًا مضادًا لموسكو في قضية "أليكسي نافالني". في العموم تشير الورقة البحثية إلى أن أغلب الأحزاب الشعبوية اليسارية تتعاطف مع روسيا وتدعم التوافق معها.

ثالثًا- شعبويون آخرون: تُوصف بكونها أحزابًا انتقائية، ويصعب تصنيفها سواء ضمن مربع اليسار أو اليمين، ومن بين أنجح تلك الأحزاب حركة النجوم الخمس التي تُعد أكبر الأحزاب الإيطالية منذ 2013 والشريك الأكبر في الائتلاف الحاكم في روما منذ 2018. وحول السياسة الخارجية لتلك الأحزاب فقد أوضحت الورقة صعوبة تصنيفها أيديولوجيًا. فعلى سبيل المثال، عارضت تلك الأحزاب ضم روسيا لجزيرة القرم، في الوقت الذي رفضت فيه عقوبات الاتحاد الأوروبي على موسكو.

تأثير محدود

شهدت بعض الأحزاب الشعبوية صعودًا ملحوظًا منذ عام 2010، بعدما كانت تسعى للانخراط في ائتلاف الحكومة، كما هو الحال بالنسبة لحزب Nord Lega "رابطة الشمال" في إيطاليا، وحزب FPÖ "حزب الحرية النمساوي"، وكذلك حزب القانون والعدالة في بولندا. ويمكن تسليط الضوء على أربعة أحزاب تولت الحكومة في الآونة الأخيرة:

أولًا- حزب "الاتحاد المدني المجري" (Fidesz): يسيطر هذا الحزب على السلطة منذ عام 2010، وقد دفع الحزب لتحقيق جملةٍ من الأهداف، منها الانخراط في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وكذلك مساعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويستهدف الحزب تنوع العلاقات الأمنية والانخراط في مثلث "برلين – موسكو – إسطنبول"، علاوة على تركيز الحزب في تفاعلاته الخارجية على روسيا في مجالات الطاقة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتمكن الدولة من إيقاف العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو، علاوة على تبنّيه سياسة الانفتاح على الشرق وتحديدًا الصين.

ثانيًا- حزب "القانون والعدالة" بولندا: عاد هذا الحزب للسلطة عام 2015، في أعقاب فترة تراجع امتدت منذ عام 2007، وتقوم فلسفة هذا الحزب على المعارضة المستمرة لروسيا، حيث أبدى رفضه لإقامة خط أنابيب "نورد ستريم 2"، علاوة على تقديمه الدعم لكلٍّ من أوكرانيا وجورجيا في مواجهة التوغل الروسي، ومساعيه المستمرة لفرض مزيد من العقوبات الأوروبية ضد موسكو. 

وفي هذا الإطار، فقد رحب الحزب بخطة الرئيس "جورج دبليو بوش" بنشر صواريخ في بولندا، وهو ما استجابت له بولندا بنشر مزيد من القوات الأمريكية في الأراضي البولندية. وقد جمعت بولندا وواشنطن علاقة متينة إبان فترة الرئيس "دونالد ترامب"، خاصة أنها تستهدف مواجهة الإسلاموية والاشتراكية والتأكيد على المبادئ والسيادة الوطنية، غير أن علاقة الحكومة البولندية بالرئيس الأمريكي "جو بايدن" يشوبها الكثير من الاضطراب على خلفية قضايا الديمقراطية داخل ذلك البلد.

لقد سعى الحزب إلى تطوير النهج المتبع تجاه الصين عبر زيادة الروابط وتدعيم مبادرة (16+1)، وذلك في بداية صعوده للسلطة، غير أن هذا النهج قد تبدل في ظل إعادة واشنطن صياغة سياستها الخارجية القائمة على فكرة "المنافسة الاستراتيجية" مع الصين، مما دفع الحزب لاعتبار بكين عاملًا مهددًا لحلف الناتو والغرب.

ثالثًا- حزب "سيريزا" في اليونان: يُعد ائتلاف اليسار الراديكالي المعروف باسم "سيريزا" المثال الوحيد للحزب الشعبوي اليساري الذي قاد حكومة في أوروبا، وينقسم تاريخيًّا بين يساري راديكالي وجناح إصلاحي معتدل، غير أنه وفي أعقاب عام 2004 سيطر الجناح الراديكالي على الحزب، واستطاع الوصول للسلطة عام 2015 في تحالف مع اليونانيين المستقلين القوميين (ANEL)، والذي استمر لمدة أربع سنوات.

لقد انتهج الحزب سياسة المقايضة تحقيقًا لمصالحه المختلفة، والتي تجلت في التصدي لعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، وتحقيق تقارب بينهما تجلى في أبريل عام 2015 عبر توقيع اتفاقيات اقتصادية، غير أن تلك السياسات تبدلت بصورة كبيرة من خلال حصول اليونان على خطة إنقاذ جديدة للديون في يوليو 2015، وكذلك تردي العلاقات مع موسكو على خلفية قضية مقدونيا عام 2018.

رابعًا- ائتلاف حركة النجوم الخمسة ورابطة الشمال في إيطاليا: تولي الائتلاف السلطة عام 2018، ويضم حزبين لهما ملامح أيديولوجية مختلفة كانت سببًا جوهريًا في تردي الائتلاف ومن ثمّ حله في عام 2019. وعلى الرغم من انتهاج الائتلاف سياسة معارضة للاتحاد الأوروبي في بدايته، غير أنه مؤخرًا اتّبع سياسات أقرب لأوروبا في مواقفها الخارجية بصورة عامة وتجاه روسيا على وجه التحديد، وبرز ذلك في مواءمة موقف الحزب من توجهات الاتحاد الأوروبي حيال عملية تسميم المعارض الروسي "سيرجي سكريبال".

سياسة خارجية متباينة

بالرغم من عدم التجانس الذي يشهده الشعبويون بصورة عامة في أوروبا، إلا أن هناك عوامل مشتركة في تعاطيهم مع الملف الخارجي، تتركز في انتهاج سياسة مناقضة ومضادة للاتحاد الأوروبي، حيث تجتمع غالبية الأحزاب الشعبوية تحت مظلة التشكيك في الاتحاد الأوروبي، والبحث عن سياسة متعددة المحاور لموازنة سياسات الاتحاد، ويتم ذلك باختلاف الأدوات حيث نجد بعض الأحزاب تتحالف مع روسيا لكسر هيمنة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في حين يتحرك آخرون تجاه الصين وروسيا وواشنطن مثل حزب "سيريزا – حزب القانون والعدالة".

وتوضح الورقة البحثية أن هناك يمينًا شعبويًا داعمًا لفكرة السيادة الوطنية، بينما اليسار الشعبوي يعارض الغرب بسبب انتقاده للقوة الأمريكية والنيوليبرالية، ويسعى كثير من الشعبويين إلى إعادة وضع أساسيات العمل في الغرب على أسس ثقافية وحضارية فيما يُعرف باسم "الغرب البديل"، وفي الإطار ذاته فإن الشعبويين اليمينيين في الدول الإسكندنافية وأوروبا الوسطى والشرقية يمتازون بسياسة أكثر تشددًا تجاه روسيا، وهناك من الأحزاب الشعبوية الأخرى ما يدعم فكرة عالم متعدد الأقطاب.

على النقيض من ذلك، تنظر بعض الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا الغربية والشعبويون الإسكندنافيون اليمينيون إلى الصين على أنها منافس اقتصادي غير عادل يساهم في تراجع التصنيع في دول الاتحاد الأوروبي، ومن بين تلك الأحزاب (حزب RN) في فرنسا و(حزب Lega) في إيطاليا، في حين تنظر الشعبوية في أوروبا الوسطى والشرقية بأهمية للتعاون مع الصين وتعزيز الاستثمارات الصينية، وتنطلق تلك الرؤية من منظور جيوسياسي أبعد يتمثل في كسر الهيمنة الأمريكية على عدد من الدول الأوروبية.

اتجاهات متعددة

قسّمت الورقة البحثية التعاطي الشعبوي للسياسة الخارجية في ضوء الاختلاف الأيديولوجي، وكذلك لاعتبارات الثقافة الاستراتيجية المهيمنة على الدولة، إلى ثلاثة اتجاهات/ أنماط، على النحو التالي:

أولًا- القوميون القاريون: الشعبويون اليمينيون في وسط وجنوب أوروبا، وينتهج هذا النمط سياسة مناوئة للناتو والقوة العسكرية الغربية ويميلون لخطاب اليسار، ويعتمدون على سياسة تعاونية مع روسيا، وحظيت فترة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بتقارب ملحوظ لدفاعهم المشترك عن مبدأ السيادة الوطنية، ولا يتبع أنصار هذا التوجه موقفًا مشتركًا حيال الصين.

ثانيًا- القوميون الأطلسيون: هم الشعبويون اليمينيون في الدول الأوروبية ذات التقاليد الأمنية الأطلسية المهيمنة، مثل (حزب القانون والعدالة في بولندا، وUKIP في المملكة المتحدة)، ويتبع هؤلاء سياسة خارجية تقوم على أسس ثقافية وحضارية، ويُعد القوميون الأطلسيون أكثر تشددًا تجاه روسيا، ولديهم موقف معادٍ للصين.

ثالثًا- الأمميون المناهضون للإمبريالية: هم الشعبويون اليساريون في أوروبا مثل (دي لينك في ألمانيا، وبوديموس في إسبانيا، وسيريزا في اليونان) ويتبعون سياسة مناهضة للإمبريالية، ولا يعولون كثيرًا على الناتو ويرفضون بصورة كبيرة التدخلات العسكرية، ويعتمدون في تفاعلهم مع واشنطن على طبيعة السلطة حيث تشهد علاقاتهم بالرؤساء الجمهوريين حالة من التدهور، ويتبنون سياسة تعاونية مع روسيا بينما تشهد علاقاتهم بالصين تدهورًا كبيرًا.

في الختام، خلصت الورقة البحثية إلى أن هناك حالة من عدم التجانس بين الشعبويين في أوروبا، ولديهم تأثير ضعيف في السياسة الخارجية التي لا تختلف اختلافًا جوهريًا عن سياسات غير الشعبويين. وأن الشعبويين يجمعون بين الخطاب المتضمن لغة الأممية الليبرالية وبين تعزيز الأهداف الوطنية، وحجم تأثيرهم الحقيقي في الخطابات المختلفة، غير أن تأثيرهم الفعلي على السياسة ضئيل. وأخيراً، تُعد الشعبوية عرضًا أكثر من كونها سببًا، حيث تعتبر أحد أعراض القوى الهيكلية الناجمة عن حدة الانقسامات والاختلافات بين المصالح الوطنية للدول الأوروبية والتحولات الأوسع في السياسة الدولية.

المصدر: 

Angelos Chryssogelos, Is there a populist foreign policy?, Chatham House, March 2021.