رؤى متباينة :

لماذا ترفض إيران الوساطة الفرنسية مع إدارة بايدن؟

14 February 2021


لم يلق الاقتراح الذي تبناه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في 4 فبراير الجاري، بممارسة دور "المُيَسِّر" في أية مفاوضات محتملة بين إيران والولايات المتحدة، أى استجابة لافتة من جانب الأولى. إذ ردت طهران على ذلك، بعد يوم واحد، بتأكيدها أن "الاتفاق بشأن البرنامج النووي لا يحتاج إلى وسيط". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية سعيد خطيب زاده أن "الاتفاق النووي كُتِب في أكثر من 150 صفحة، وعندما يكتب نص طويل ودقيق إلى هذا الحد، هذا يعني عدم وجود حاجة لإعادة مناقشته".

واللافت هنا، أن هذا الرفض يتعارض مع ما سبق أن طرحه وزير الخارجية محمد جواد ظريف بشأن إمكانية قيام الاتحاد الأوروبي بدور في "تيسير" عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، في حالة ما إذا بدأت إدارة الرئيس جو بايدن في اتخاذ خطوات تنفيذية في هذا السياق، بما يعني وجود ارتباك في الموقف الإيراني، لاسيما أن اقتراح ظريف بشأن "العودة المتزامنة" في الاتفاق- أى عودة الولايات المتحدة للمشاركة فيه بالتزامن مع عودة إيران إلى الالتزام ببنوده- لم يكتسب أهمية وزخماً خاصاً على الساحة الداخلية، لاسيما بعد أن أصر المرشد علي خامنئي على تأكيد أن إيران لن تعود إلى الالتزام بتعهداتها في الاتفاق إلا بعد عودة الولايات المتحدة ورفع العقوبات المفروضة عليها. 

اعتبارات عديدة:

لم يكن الاقتراح الفرنسي هو الأول من نوعه، إذ سبق أن حاولت فرنسا بالفعل القيام بدور الوسيط بين طهران وإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أكثر من مناسبة، سواء في اجتماع قمة السبع في مدينة بيارتيس الفرنسية في 25 أغسطس 2019، أو في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية سبتمبر من العام نفسه. إذ حاول ماكرون في المناسبة الأخيرة، على سبيل المثال، ترتيب اتصال هاتفي بين ترامب وروحاني، إلا أن الأخير رفض ذلك بعد أن علم، وفقاً لتقارير عديدة، أن الرئيس الأمريكي سوف يصر على إبقاء العقوبات.

ويمكن تفسير موقف إيران الرافض لقيام فرنسا بدور الوسيط في الاتفاق النووي في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في: 

1- الاقتراب الفرنسي من الموقف الأمريكي: ترى إيران أن موقف فرنسا في الوقت الحالي لم يعد كما كان عندما قامت باريس بمحاولة ممارسة دور الوسيط في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. ففي رؤيتها، فإن فرنسا، في عهد ترامب، كانت تتبنى موقفاً أكثر توازناً، باعتبار أنها كانت ترى أن الأزمة التي تعرض لها الاتفاق النووي كانت بسبب السياسة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية آنذاك، بعد انسحابها من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات على إيران، على أن يأتي بعد ذلك الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها الأخيرة على صعيد زيادة كمية اليورانيوم المخصب، ورفع مستوى التخصيب وتوسيع نطاق عمليات التخصيب. أما الآن، فإن فرنسا باتت، وفقاً لتلك الرؤية، أقرب، إلى حد كبير، من السياسة التي تتبناها الإدارة الأمريكية الجديدة، لاسيما ما يتعلق بالإصرار على ضرورة توسيع الاتفاق النووي الحالي ليشمل الملفات الأخرى خاصة برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، فضلاً عن فرض قيود صارمة تحول دون عودة إيران من جديد، في أى لحظة، إلى انتهاك التزاماتها النووية على غرار ما يحدث في الوقت الحالي.

2- ضعف الموقف الأوروبي: رغم أن إيران دعت، على لسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف، إلى قيام الاتحاد الأوروبي بدور في حالة عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، فإن ذلك لا يعني تغير موقفها تجاه السياسات التي اتبعتها الدول الأوروبية إزاء التصعيد المستمر بينها وبين الإدارة الأمريكية السابقة. إذ أنها ترى أن هذا الدور الذي يمكن أن يقوم به الاتحاد لا يصل إلى حد الوساطة، بل ينحصر فقط في تقديم دعم لوجيستى يمكن أن يساعد في عودة واشنطن للانخراط في الاتفاق النووي مرة أخرى مقابل عودة طهران للالتزام ببنوده. ويعود ذلك في المقام الأول إلى أنها ما زالت توجه اتهامات للدول الأوروبية بعدم اتخاذ خطوات جدية لإنقاذ الاتفاق النووي عندما كان يواجه خطر الانهيار بسبب الإجراءات العقابية الأمريكية، حتى بعد أن اتفقت على تفعيل ما يسمى بـ"آلية انستكس"، التي لم تحقق نتائج بارزة على صعيد رفع مستوى التعاملات الثنائية بين إيران وتلك الدول بشكل كان من الممكن، في حالة حدوثه، أن يقلص من حدة الضغوط التي أنتجتها العقوبات الأمريكية.

3- التشكك في أهداف باريس: لا ينفصل هذا الموقف الإيراني عن الشكوك التي تبديها طهران إزاء الأهداف الحقيقية التي تسعى باريس إلى تحقيقها عبر الأدوار التي تقوم بها في بعض الملفات الإقليمية، ولاسيما الملف اللبناني. إذ بدا جلياً منذ قيام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بمحاولة ممارسة دور الوسيط في الأزمة السياسية اللبنانية، لاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي، على نحو انعكس في الزيارتين اللتين قام بهما إلى بيروت، أن إيران لا تدعم هذا التوجه. وربما لا يعود ذلك فقط إلى المبادرة نفسها، وإنما يعود أيضاً إلى أن اتجاهات عديدة في طهران تبدي شكوكاً في أن باريس تسعى في النهاية إلى تحقيق الهدف نفسه الذي تتبناه الولايات المتحدة وإسرائيل، والخاص بنزع سلاح حزب الله ومحاصرة دور خارجياً عبر إضعافه داخلياً. وقد انعكس هذا القلق الإيراني في سؤال طرحه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف خلال زيارته لموسكو، في 24 سبتمبر الماضي، بقوله :"ماذا يفعل ماكرون في بيروت؟"، وذلك رداً على محاولات نظيره الروسي سيرجي لافروف إقناعه بضرورة اتخاذ خطوة داعمة للجهود الفرنسية في لبنان، تتوازى مع الموقف الذي اتخذته باريس بعدم تأييد محاولات إدارة ترامب تمديد الحظر الأممي الذي كان مفروضاً على إيران في مجال الأسلحة التقليدية.

4- سياسة التسويف: رغم أن إيران تبدو في أمس الحاجة لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها نتيجة الضغوط الاقتصادية التي تعرضت لها بسببها، إلا أنها ليست، على الأرجح، في عجلة من أمرها للموافقة على شروط الإدارة الأمريكية للعودة للاتفاق، بل إنها ربما تتعمد التسويف الذي يمكن أن يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة لشهور، ليس فقط انتظاراً لإجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 18 يونيو القادم، وإنما أيضاً لتحقيق أكبر قدر من التقدم في البرنامج النووي وتسجيل مستوى أعلى في الأنشطة الخاصة به، لاسيما على صعيد زيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، وهو ما ترى أنه سوف يعزز موقعها ويضعف موقف الإدارة الأمريكية عند اللجوء إلى الحوار أو فتح قنوات تواصل مستقبلاً. 

على ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن إيران تواصل سياستها التصعيدية سواء على مستوى رفض أى جهود وساطة أوروبية لتقريب وجهات النظر مع الإدارة الأمريكية، أو على صعيد مواصلة عمليات التخصيب أفقياً ورأسياً بما يعني زيادة كمية اليورانيوم المخصب ورفع مستواه لدرجة ربما تكون غير مسبوقة.