الجولة الرابعة:

لماذا تلوح واشنطن بعقوبات إضافية على أنقرة

08 October 2020


بعد نحو شهرين من صدرو قرار بأغلبية في الكونجرس الأمريكي يحظر بيع أسلحة إلى تركيا، طالب نائبان بتوقيع عقوبات جديدة على خلفية الكشف عن اختبار أنقرة منظومةS-400  الروسية في قاعدة سامسمون المطلة على البحر الأسود على طائرات 16  Fالأمريكية خلال تدريبات عسكرية قامت بها فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص أثناء الأزمة التي اندلعت بين تركيا واليونان. وفي حال ثبوت إجراء تلك التجربة، فعلى الأرجح ستواجه أنقرة عقوبات للمرة الرابعة تقريباً من الكونجرس خلال العامين الأخيرين. 

وفي 5 أكتوبر الجاري، قام الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بزيارة إلى أنقرة، شمل جدول أعمالها عدداً من القضايا كان من بينها قضيةS-400 ، بينما لم تكن هناك أى تقارير عسكرية قد أفادت بتلك التجربة، حيث كان يعتقد على نطاق واسع أن الحلف بصدد احتواء الأزمة مع تركيا في هذا الملف، خاصة في ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية: أولها، أن التقديرات العسكرية رجحت أن تركيا، التي تعاني من أزمة اقتصادية ضاغطة، كما تواجه تحديات مستمرة في إطار التقارب مع روسيا، قد تتخذ خطوة إلى الخلف، وأشار بعضها إلى أن أنقرة منزعجة من عدم تشغيل المنظومة، وأن هناك إشكاليات فنية في عملية التشغيل، وأن موسكو ردت عليها بأن الاتفاق يشمل تشغيل طواقم فنية روسية للمنظومة بالنظر لكونها تفتقر لتلك الخبرات. وهنا، فإن ثمة احتمالاً في أن أنقرة ربما عملت بمفردها على اختبار المنظومة دون العودة لموسكو خلال تدريبات شرق المتوسط في أغسطس الماضي، في إطار الأزمة مع اليونان، وهو ما تم الكشف عنه في الكونجرس. 

وربما يكون هذا السياق حجة لتركيا بأنها لم تتبادل معلومات مع روسيا، خاصة وأن تقرير الكونجرس يتحدث بدقة عن "تنشيط الرادارات" لقراءة حركة المقاتلات، وهو ما يعني أنها لم تقم بعملية فتح المنظومة بالكامل، لكن من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيحظى بقبول من جانب واشنطن والناتو أم لا. 

ووفقاً لبيان الناتو حول زيارة أمينه العام إلى أنقرة، فإن الحلف سيقدم دعماً للأخيرة في تقوية دفاعاتها على الجانب السوري، الذي كانت تتحجج به أنقرة دوماً وتقدمه كمبرر لحصولها على المنظومة الروسية بعد رفض الإدارة الأمريكية السابقة منحها منظومة باتريوت، وبالتالي فإنه في حال التأكد من تلك التجربة، فإن مبررات أنقرة ستفتقد للمصداقية بشأن أهداف حصولها على تلك المنظومة، حيث أصبحت في الأخير موجهة لاكتشاف مقاتلات أمريكية. 

وثانيها، ورود تقارير عسكرية كشفت بشكل مفصل عن إجراء سلاح الجو الملكي البريطاني تجارب، هذا العام، بالقرب من الحدود الروسية تمكن عبرها من التشويش على رادارات منظومتي 300 S-، وS-400 اللتين تنشرهما روسيا، واكتشفت بالتالي ثغرات في عملية تشغيل تلك المنظومات، وهو ما اعتبره محللون بمثابة "أنباء سارة" للحلف قد تنعكس على إمكانية تفاديه المخاوف الخاصة بـالمنظومة الأخيرة التي حصلت عليها تركيا. 

وثالثها، أن الحديث عن تجربة تركيا للمنظومة على طائرات F-16 قد يكون لافتاً في هذا السياق، فأغلب التقديرات تشير إلى إمكانية كشف هذه المقاتلة، لكن المخاوف من المنظومة كانت تتعلق بمقاتلتى 22F- ، و35F-  الشبحتين. فعلى سبيل المثال، كان الغرض من حصول الهند على منظومة مماثلة من روسيا هو التعامل مع مقاتلاتF-16  التي تمتلكها باكستان، الأمر الذى يتماشى مع التقارير التي تخص المقاتلات الشبحية بشكل خاص.  

إشكاليات رئيسية: 

تاريخياً، كان التوتر سمة رئيسية في العلاقات بين الناتو وتركيا، لكن ظل الطرفان حريصين على الإبقاء على الحد الأدني في تلك العلاقات، فيما عرف بسياسة الاحتواء المتبادل. ففي الأخير، تمنح مظلة الناتو امتيازات يصعب على أنقرة الاستغناء عنها. لكن يعتقد أن هذه السياسة تمر باختبار صعب حالياً، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو أكد أن طرد تركيا من الحلف غير وارد، وهو ما أرجعته تقارير لعدم وجود سوابق في هذا الصدد، إضافة إلى الإجراءات المعقدة من الناحية القانونية التي تتطلب بشكل أساسي تقديم الدولة العضو طلب انسحاب بشكل مسبق، فضلاً عن أن الحلف يتحدث عن حوافز لتركيا وليس العكس، وبالتالي في حال ما إذا كان الناتو، وهو أمر مرجح أيضاً، على علم بتلك التجربة، فإنه لا يزال يعتمد خيار الاحتواء، خاصة وأن تركيا من جانبها تراجعت خطوة إلى الخلف تجاه الأزمة مع اليونان وسحبت سفن التنقيب عن الغاز في المياة اليونانية، وبدأت في إجراء حوار دبلوماسي تجلى فى لقاء وزيري خارجية البلدين في 8 أكتوبر الجاري. 

لكن في المقابل، فإن فائض هذا التوتر داخل الناتو غالباً ما انعكس على العلاقات التركية – الأمريكية، ففي عام 1974 فرضت واشنطن عقوبات تسلح على أنقرة بعد احتلالها الشطر الشمالي من قبرص، وعلى الرغم من انتهاء تلك العقوبات، لكن ظل أثرها قائماً، حيث لم تمنح واشنطن منظومات دفاعية لأنقرة في الوقت الذى كانت تلح فيه الأخيرة على طلب تلك المنظومات منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ثم حرب الخليج الثانية، ولوح الجيش التركي بما يعرف بـ"الخيار الأوراسي" أى العودة إلى التقارب مع الخصوم القدامى (روسيا وايران)، خاصة مع اعتبار مجلس الأمن القومي التركي، آنذاك، أن أنقرة ستواجه حالة انكشاف دفاعي في مواجهة روسيا التي قد تعود، وفقاً لرؤيتها في هذه الفترة، للانتقام من حلف الناتو في وقت لاحق، كما أن المصالح الدفاعية بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي لا تتوافق، وبالتالى فإن على تركيا الاستدارة عن الأخير الذي لم يمنحها العضوية الكاملة. 

وعلى الرغم من أن هذا الخيار طُرِح قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، إلا أنه أصبح الخيار الذي اعتمده الرئيس رجب طيب أردوغان بعد تقدم روسيا على خطوطها الأمامية في جورجيا 2008 والقرم 2014 ثم الشرق الأوسط وشرق المتوسط من خلال الانخراط العسكري في سوريا 2015، وهو ما كان أحد الأسباب التي دفعت الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إلى تحميل سلفه الرئيس بارك أوباما المسئولية عن ذلك برفضه منح أنقرة منظومة "باتريوت"، بشكل دفعها إلى التقارب مع روسيا.

لكن يبدو أن الكونجرس الأمريكي يرفض هذا التبرير، وربما في حال إثبات قيام تركيا بالتجربة، فسيكون الرئيس ترامب في مأزق لأنه لم يحاسب تركيا بموجب قانون "أعداء الولايات المتحدة"، في حين ثبت أن تركيا قامت بتجربة تؤكد هذا العداء. وعليه، فمن المتصور أن الجولة الرابعة من العقوبات لن تكون في صالح تركيا هذه المرة. وعلى سبيل المثال، تشير تقارير أمريكية إلى اتجاه الولايات المتحدة نحو إغلاق قاعدة "انجيرلك" العسكرية الأمريكية في تركيا، وهى القاعدة التي تشكل مؤشراً رئيسياً على مستوى العلاقات بين البلدين، ففي أزمة السبعينيات بادرت أنقرة إلى إغلاق القاعدة رداً على عقوبات التسلح الأمريكية، لكن يعتقد أن واشنطن تبحث في المرحلة الحالية عن بديل لتلك القاعدة، إضافة إلى عقوبات أخرى لا تزال غير معروفة في الإطارين الاقتصادي والسياسي. 

في الأخير، تبدو تركيا على أعتاب جولة رابعة من العقوبات الأمريكية في حال ثبت قيامها بإجراء تجربة للكشف عن مقاتلات أمريكية (غير شبحية)، ستلقي بظلالها على المزيد من التعقيدات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، خاصة وأن تلك الجولة ربما لن تكون الأخيرة من نوعها، في ظل تقارير تؤكد مضى أنقرة في الحصول على مقاتلة "الجيل الخامس" الروسية 35 SU كبديل للأمريكية 35F ، بل إن بعض التقديرات التركية تشير إلى أن أنقرة قد تذهب الى ما هو أبعد من ذلك بالحصول على منظومة دفاعية روسية أخرى سواء من الطراز ذاته (S-400) أو أكثر تطوراً منها.