دوافع عديدة:

لماذا غيّرت الدول الأوروبية سياستها تجاه إيران؟

19 January 2020


تتجه العلاقات بين إيران والدول الأوروبية إلى مزيد من التصعيد خلال المرحلة القادمة، على خلفية إقدام الأخيرة على تفعيل آلية فض النزاع الخاصة بالاتفاق النووي، في 14 يناير الجاري، بشكل يزيد من احتمالات انهيار الأخير في الفترة القادمة. وفي الواقع، فإن الدوافع الأساسية التي يمكن أن تفسر أسباب اتخاذ الدول الأوروبية تلك الخطوة لا تنحصر فقط في مواصلة إيران تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق، وإنما تمتد أيضاً إلى إدراك تلك الدول أنه لا يمكن الفصل بين الاتفاق والملفات الإقليمية الأخرى التي تنخرط فيها إيران، وتحظى باهتمام خاص من جانبها، وهو ما يوحي بأن الأزمة الحالية لن تقتصر على طرفيها الأساسيين وهما إيران والولايات المتحدة الأمريكية وإنما ستضم أيضاً الدول الأوروبية لتتحول إلى أزمة إيرانية-غربية خلال المرحلة القادمة.

خلافات مستمرة:

شن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في خطبة الجمعة التي ألقاها في 17 يناير الجاري، هجوماً حاداً على الدول الأوروبية، التي اعتبر أنه "لايمكن الوثوف فيها". وفي الواقع، فإن ذلك يمثل نتيجة مباشرة لتراكم الخلافات العالقة بين الطرفين في المرحلة الماضية، ويضع في الوقت نفسه سقفاً للجهود التي تبذلها حكومة الرئيس حسن روحاني من أجل احتواء التصعيد الحالي وضبط حدود الخلافات بين الطرفين.

ويمكن تناول أبرز الدوافع التي تفسر أسباب التوتر بين إيران والدول الأوروبية خلال المرحلة الماضية على النحو التالي:

1- إصرار إيران على تخفيض مستوى التزاماتها النووية: لم تعد إيران ملتزمة بالبنود الرئيسية في هذا الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بزيادة كمية اليورانيوم المخصب ورفع مستواه، فضلاً عن استخدام عدد أكبر من أجهزة الطرد المركزي، ورفع القيود المفروضة على عمليات البحث والتطوير. وهنا، فإن هذه الإجراءات المتتالية تُفرِغ الاتفاق من مضمونه، لأنها تعرقل تحقيق الهدف الأساسي منه، باعتبار أن القوى الدولية التي شاركت مع إيران في الوصول إليه كانت تسعى عبره إلى وضع قيود على النشاط النووي الإيراني وإبقاءه قيد المراقبة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لمنع إيران من الإقدام، في لحظة ما، على الوصول إلى المرحلة التي يمكن فيها إنتاج القنبلة النووية.

ورغم أن إيران فسرت إقدامها على اتخاذ هذه الإجراءات، وكان آخرها في 5 يناير الجاري، عندما رفعت مجمل القيود "العملية" المفروضة على أنشطتها النووية، بأنه يمثل رداً على انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق وفرضها عقوبات عليها، بالتوازي مع عزوف الدول الأوروبية عن رفع مستوى التعاملات المالية والتجارية معها، فإن ذلك لم يدفع الأخيرة إلى التراجع عن اتهام الأولى بأنها سوف تتسبب في انهيار الاتفاق، وستكون مسئولة عن العواقب التي سوف تسفر عن ذلك، قبيل اتجاهها إلى تفعيل آلية فض النزاع، التي تصل مدتها إلى 65 يوماً في حالة ما إذا لم تتوافق الأطراف المعنية على إطالة أمدها، وقد تنتهي بإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران من داخل مجلس الأمن.

2- عواقب التدخلات الإقليمية: كانت الدول الأوروبية تتبنى في البداية سياسة تقوم على الفصل بين الاتفاق النووي والملفات الإقليمية الأخرى، واعتبرت أن التطرق إلى تلك الملفات يمكن أن يؤثر على استمرار العمل بالاتفاق. ويبدو أنها شاركت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الرؤية الخاصة بالتداعيات التي يمكن أن يفرضها الاتفاق على التوازنات الداخلية في إيران، والتي كانت ترجح تغير تلك التوازنات لصالح تيار المعتدلين بشكل سوف يؤثر إيجاباً، وفقاً لها، على سياسات إيران في الخارج. لكن التطورات التي أعقبت الوصول للاتفاق النووي في منتصف عام 2015 أثبتت أن هذه الرؤية لم تكن تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي كانت تشير إلى أن إيران استغلت الوصول للاتفاق من أجل تعزيز دورها الإقليمي، بل إنها حاولت في هذه الفترة انتزاع اعتراف غربي بهذا الدور، لاسيما في العديد من الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانبها.

ومن هنا، بدأت الدول الأوروبية في إدراك أنه لا يمكن الفصل بين الاتفاق النووي والملفات الإقليمية، بعد أن كرست السياسة الإيرانية الارتباط فيما بينهما. وربما يفسر ذلك، إلى حد كبير، اتجاه تلك الدول إلى دعوة إيران للتفاوض حول الملفات الخلافية الأخرى، وفي مقدمتها برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي، إلا أن الأخيرة رفضت ذلك بشدة.

وتعاطت تلك الدول مع هذا الرفض بالاقتراب تدريجياً من السياسة الأمريكية، على نحو بدا جلياً في مؤشرات عديدة، كان آخرها حرص بعض تلك الدول على توجيه إشارات لتبرير الضربة الأمريكية التي أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، إلى جانب نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" أبومهدي المهندس وبعض المرافقين الآخرين، في 3 يناير الجاري. إذ قالت المتحدثة باسم الحكومة الألمانية أولريك ديمر، في اليوم نفسه، أن تلك الضربة "مثلت رداً على الاستفزازات العسكرية التي تتحمل مسئوليتها إيران".

3- الدعوة إلى إبرام اتفاق جديد: وقد تبناها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي قال، في 14 يناير الجاري: "إذا كنا سنتخلص منه (أى الاتفاق النووي) فلنجد بديلاً له وليحل اتفاق ترمب محله.. ذلك سيقطع شوطاً كبيراً"، مضيفاً: "علينا عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي". وهنا، بدأت إيران في شن حملة مضادة، واعتبرت أن أى انهيار محتمل سوف تتحمل مسئوليته الدول الأوروبية، حيث زعم المسئولون الإيرانيون بأن تلك الدول عليها أن تحدد مصير الاتفاق بالإجراءات التي سوف تتخذها في الفترة القادمة وأن تتحمل عواقب تفعيل آلية فض النزاع.

4- الخطوات التصعيدية الإيرانية: اتخذت إيران خطوات عديدة أثارت استياءً واضحاً من جانب الدول الأوروبية. إذ تبدو طهران مُصِّرَة على استخدام ملف مزدوجي الجنسبة في ممارسة ضغوط على تلك الدول، حيث ما زالت تلك القضية محور جدل بين طهران والعديد من تلك الدول، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا. وقد طالبت الأخيرة، على سبيل المثال، في 10 يناير الجاري، السلطات الإيرانية بالإفراج عن فاريبا عادل خاه الخبيرة في الشئون الشيعية في مركز الأبحاث الدولية بكلية العلوم السياسية بباريس، ورولان مارشال المتخصص في شئون القرن الإفريقي في المركز نفسه، اللذين اعتقلتهما في يونيو 2019، حيث اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان أن اعتقالهما "غير مقبول".

ولا ينفصل ذلك أيضاً دون شك، عن الخطوات التي اتخذتها إيران وهددت من خلالها مصالح بعض تلك الدول، خاصة عندما قامت باحتجاز الناقلة البريطانية "ستينا إمبيرو"، في 19 يوليو 2019، رداً على قيام سلطات جبل طارق بالتعاون مع القوات البريطانية باحتجاز الناقلة الإيرانية "غريس 1" في 4 من الشهر نفسه، على نحو فرض تداعيات مباشرة على العلاقات بين طهران ولندن حتى بعد أن تم الإفراج عن الناقلتين.

إن ما سبق في مجمله يوحي بأن مرحلة جديدة من التوتر سوف تبدأ بين إيران والدول الأوروبية، بعد أن كانت الأولى تُعوِّل في فترة ما بعد الوصول للاتفاق النووي، على تلك العلاقات في تحسين علاقاتها الخارجية ودعم انخراطها بشكل أكبر في منظومة التفاعلات الدولية على المستويات المختلفة.