معضلة هيكلية:

الاقتصاد العراقي بين الأزمات والفرص

09 December 2019


يمر الاقتصاد العراقي بحالة من الضعف غير المسبوق في الوقت الراهن، حيث يواجه عوامل عدة مثبطة لأدائه؛ تشمل أسباب ضعف وهشاشة داخلية، وأسباباً أخرى خارجية. ومؤخراً فإنه ما إن تراجعت حالة عدم الاستقرار الأمني، التي نتجت عن سيطرة تنظيم "داعش" على مساحة كبيرة من الأراضي العراقية في عام 2014، حتى اندلعت تظاهرات واسعة، أدخلت البلاد في موجة جديدة من عدم الاستقرار الأمني، الممزوج باضطراب شديد في الأوضاع السياسية، لتضيف مثبطات جديدة لأداء الاقتصاد على المستوى الداخلي.

وإبان كل ذلك، تسعى الحكومة العراقية إلى إخراج الاقتصاد من حالة الضعف تلك، من خلال تبني بعض المبادرات والسياسات التي تساعده على ذلك، وفي ظل هذه المعطيات تتزايد التساؤلات حول جدوى تلك السياسات والمبادرات، وما يمكن أن تصل إليه في المحصلة النهائية في المستقبل.

أسباب مختلفة:

تعتبر العراق أحد أكبر منتجي النفط في العالم، حيث يفوق إنتاجها مستوى 4 مليون برميل يومياً حالياً؛ وبسبب الظروف السياسية والأمنية وكذلك العسكرية، التي مرت بها العراق على مدار عقود، فإنها لم تستطع تطوير قطاعاتها غير النفطية، فظل النفط هو المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة لها. وتشير بيانات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أن النفط يشكل 60% من ناتجها الإجمالي المحلي، ويمثل 90% من إيراداتها الحكومية، كما أنه يساهم بنحو 99% من الصادرات الإجمالية للبلاد.

ونتيجة للاعتماد الكبير على النفط، واجه الاقتصاد صعوبات جمة منذ عام 2014، وبالتحديد منذ منتصف ذلك العام، عندما دخلت أسواق النفط العالمية مرحلة طويلة من الهبوط والتراجع لم تستفق منها حتى الآن، حتى أن المستويات الحالية للأسعار -وبعد مرور أكثر من خمس سنوات منذ بداية التراجع- لم تتجاوز نحو 50% من مستوياتها في النصف الأول من عام 2014.

وبرغم أن الاقتصاد العراقي اشترك في مواجهة تحدي تراجع أسعار النفط مع الاقتصادات المنتجة الرئيسية للنفط حول العالم، لكن حالة عدم الاستقرار الأمني التي تعيشها العراق منذ عقود زادت من وطأة تراجع أسعار النفط عليها، ولاسيما أن هذه الحالة ازدادت بداية من عام 2014 أيضاً، لدى سيطرة تنظيم "داعش" على نسبة تزيد عن 40% من الأراضي العراقية، بما تحويه من مقدرات وموارد اقتصادية، ولاسيما آبار النفط.

وقد أعاقت حالة انعدام الاستقرار التي تعيشها العراق، بسبب وجود تنظيم "داعش" على أراضيها، خطط الاستثمار في البلاد، وكان من أهم الخطط التي تضررت بسبب ذلك، خطة رفع طاقتها الإنتاجية للنفط إلى 9 ملايين برميل يومياً بحلول عام 2020، والتي كانت ستؤدي، حال الوفاء بها، إلى مضاعفة إنتاجها الحالي.

مظاهر عديدة:

نتيجة لتلك الأجواء غير المواتية، شهد الأداء الاقتصادي العراقي انتكاسة شديدة، فبينما بلغ معدل نموه 7.6% عام 2013، فإن هذا النمو تحول إلى انكماشٍ صافٍ بحلول عام 2017، وبنحو 2.5%. كما تحولت الموازنة العامة من الفائض بنحو 4.5% في عام 2013، إلى عجزٍ صافٍ في السنوات التالية، وظل هذا العجز يرتفع إلى أن بلغ 13% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016. وبرغم تحسنه نسبياً في السنوات التالية، لكن تظل التوقعات تشير إلى بلوغ ذلك العجز نحو 1.3% من الناتج بنهاية عام 2019.

وتزامناً مع ذلك، ارتفع الدين الحكومي من نحو 31% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2013، إلى 59% عام 2017، ومن المتوقع أن يظل أعلى من 50% خلال السنوات المقبلة. كما تحول الميزان التجاري من الفائض بنحو 10.9% من الناتج عام 2011 إلى عجز تجاري بلغ 14.5% عام 2016، ويتوقع أن يبلغ 7.8% بنهاية عام 2019.

وتفاقمت المشكلات الاقتصادية التي تمس الحياة اليومية للسكان، وعلى رأسها البطالة، وبينما تشير البيانات الرسمية إلى بلوغها 11%، تكشف تقديرات غير رسمية عن ارتفاعها إلى يزيد عن 20%، ولاسيما بين الشباب، وقد تسببت هذه المعطيات في اندلاع موجة احتجاجات شعبية واسعة خلال الفترة الأخيرة.

وسعياً منها لتجنب المزيد من التأزم، تحاول الحكومة إحداث بعض التحسينات في الأداء الاقتصادي، وهناك بعض التقارير التي تتحدث عن أنها بصدد تنفيذ نحو 600 مشروعاً استثمارياً، لاستيعاب نحو مليون شاب من الباحثين عن عمل بحلول عام 2020. لكن الحكومة ترهن هذا الأمر بتوافر الأجواء المناسبة من الاستقرار وضبط الحدود وضبط القوانين المنظمة للأعمال على المستوى الوطني.

واستمراراً لحالة التأزم التي تعيشها البلاد، كشف أعضاء بمجلس النواب عن قيمة الموازنة العامة العراقية لعام 2020 بقيمة 133 مليار دولار، لكنهم ذكروا أن هذه الموازنة تواجه بدورها معضلة عدم توافر الإيرادات، جراء استمرار ضعف أسعار النفط العالمية، وعدم توافر الموارد المحلية الكافية لتعويض ذلك التراجع، ونتيجة لذلك يتضمن مشروع الموازنة عجزاً يبلغ نحو 4.2 مليار دولار. كما ذكر أعضاء البرلمان أن الموازنة تعتمد على الاقتراض من النظام المصرفي المحلي بشكل واضح، في وقت أجمعوا فيه على أن "هناك صعوبة كبيرة في الحصول على القروض، سواءً الداخلية أو الخارجية، الأمر الذي من شأنه إضعاف القدرة على الإبقاء على النفقات التشغيلية على حالها".

وفي الختام، فإنه من المرجح أن تستمر مظاهر الأزمة الاقتصادية في العراق خلال الفترة المقبلة، لاسيما في ظل اعتماد الاقتصاد على النفط، حيث أن إحداث التحول الهيكلي المطلوب لتعزيز مظاهر التوازن في أى اقتصاد تحتاج إلى عقود طويلة. كما أن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد، والتي يتوقع أن تمتد لفترة غير قصيرة في المستقبل، ستتركه مرهوناً بالقطاع النفطي، لاسيما أن الحكومة لن يكون بمقدورها تنفيذ الخطط الاقتصادية اللازمة، والتي تقوم على التنويع واستدامة النمو ومواجهة العيوب الهيكلة في الاقتصاد الكلي. وفي مثل هذه الظروف فإنها ستركن إلى الاعتماد على ما تحتكم عليه من موارد نفطية تصل إلى 147 مليار برميل كاحتياطيات نفطية مؤكدة، والتي تحتل بها العراق المرتبة الرابعة عالمياً في حجم الاحتياطيات، بعد فنزويلا والسعودية وإيران.