سيناريوهات أردوغان:

ماذا بعد أن أصبح الكرد رقماً سياسياً صعباً؟

09 June 2015


رسمت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية خريطة سياسية جديدة في المشهد التركي بعد ثلاثة عشر عاماً من تفرد حزب العدالة والتنمية بالحكم وتحكمه في الرئاسات الثلاث (الحكومة – البرلمان – الجمهورية). ولعل من شأن المشهد الجديد إعادة ترتيب البيت الداخلي التركي، بل وحتى السياسة الخارجية التركية، لاسيما تجاه الدول العربية والإسلامية بعد أن جعلت حكومة العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة من نفسها طرفاً في القضايا العربية الداخلية، خصوصاً إزاء التطورات الدراماتيكية التي شهدتها مصر وتشهدها سوريا.

أربعة أسباب رئيسية لصعود الكرد

لعل النقطة الأهم، والتي قلبت المشهد التركي، تتمثل في الفوز الكبير الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بعد أن تجاوز العتبة الانتخابية المحددة بـ 10%، وفقاً لقانون الانتخابات التركي، إذ حصل الحزب على نسبة 13% تقريباً كما تشير النتائج الأولية.

ومع هذه النسبة الكبيرة من الأصوات أضحى الكرد قوة برلمانية مؤثرة في الحياة السياسية والدستورية، وربما الحكومية (في حال دخولهم في حكومة ائتلافية). وبقدر ما شكل هذا الفوز انتصاراً للكرد والديمقراطية في البلاد، فإنه شكل هزيمة لحزب العدالة والتنمية، لاسيما لمشاريع الرئيس أردوغان الذي كان يعد على قدم وساق للانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي في حال تحقيقه الأغلبية البرلمانية، وهو ما لم يتم، ليصبح المشهد التركي بذلك أمام احتمالات مفتوحة.

عودة إلى السؤال الأساسي، وهو لماذا فاز الحزب الكردي؟.. في الواقع ثمة أسباب كثيرة لعل أهمها:

الأول: أن الكرد وبعد الانتخابات الرئاسية في العام الماضي، والتي حصل فيها رئيس حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين دميرطاش، على قرابة 10% من مجموع أصوات الناخبين، قد اكتسبوا المزيد من الثقة بأنفسهم وقدراتهم الانتخابية.

وقد نجح الحزب الكردي من خلال ممارسات عملية وخطاب قومي منفتح في استنفار الكتلة الانتخابية الكردية الكبيرة نسيباً، والتي تقدر بقرابة 8 ملايين ناخب، يتركزون بشكل أساسي في مناطق الجنوب والشرق، فضلاً عن المدن الكبرى، خصوصاً اسطنبول وأزمير، حيث عكست نتائج الانتخابات في هذه المناطق هذه الحقيقة، فللمرة الأولى يتعرض حزب العدالة والتنمية إلى هزيمة قاسية في اسطنبول التي كانت تعد خزاناً انتخابياً له طوال السنوات الماضية.

الثاني: الدور الكبير الذي لعبه الحزب الكردي على صعيد عملية السلام الكردية - التركية ونجاحه في إدراج هذه العملية على جدول أعمال السياسة التركية.

وقد تعزز هذا الأمر مع صدور بيان مشترك من الحزب الكردي والحكومة التركية في فبراير الماضي على شكل مسودة بيان يحدد مرجعية السلام على أساس النقاط التي وضعتها كل من الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، وقد كرس ما سبق الحزب ممثلاً شرعياً عن الكرد في تركيا.

الثالث: تصاعد الشعور القومي لدى كرد تركيا في ظل الإنجازات القومية التي حققها الكرد في العراق وسوريا، وتحول الكرد في المنطقة إلى لاعب إقليمي مهم على وقع تحالفهم مع الغرب ضد داعش بعد أن كانوا مجرد ورقة في الحسابات الإقليمية والدولية.

وقد ألهمت معركة كوباني (عين العرب) كرد تركيا، وشدت من عصبهم القومي وتطلعهم إلى نيل المزيد من الحقوق التي حرموا منها، حيث شهدنا احتجاجات تضامنية مع كوباني عمت أرجاء تركيا. وعلى الرغم من أن ضحيتها كانت العشرات، فإنها شدت من أزرهم القومي وتطلعهم إلى المزيد من الحقوق.

الرابع: الخطاب المنفتح لحزب الشعوب الديمقراطية، فالحزب لم يطرح نفسه حزباً كردياً وللكرد فقط، بل طرح نفسه ضامناً للديمقراطية ونجح في مد الجسور مع القوى الديمقراطية واليسارية التركية فضلاً عن الأقليات الدينية (السريان – الأرمن – الآشور) والطوائف (الطائفة العلوية)، وبذلك نجح في كسب تعاطف هذه الأوساط والحصول على أصواتها، وهو ما لم يفعله حزب تركي آخر في هذه الانتخابات.

أردوغان يدفع الثمن

وفي مقابل هذه الأسباب لفوز الكرد، ثمة أسباب كثيرة تقف وراء خسارة العدالة والتنمية في معركة الانتخابات، حيث كان أردوغان يخطط للحصول على 400 مقعد كي يتمكن عبر البرلمان من تمرير مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي ووضع دستور جديد للبلاد، وإن لم يكن ذلك فالحصول على 330 صوتاً كي يكون ما سبق عبر استفتاء شعبي، لكن النتائج خيبت آماله إلى درجة أن حزبه فقد الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً.

وفي محاولة معرفة أسباب خسارته، لابد من التوقف عند ما يلي:

1 ـ إن حزب العدالة والتنمية لم ينجح - وبشكل أدق لم يهتم طوال السنوات الماضية - في بناء تحالفات مع القوى والأحزاب الأخرى، بل مارس السياسة بطريقة شمولية أقرب إلى سياسة الحزب الواحد. ومع تفجر الخلاف بينه وبين حليفه السابق فتح الله غولن، مارس أردوغان سياسة إقصائية ضد الجماعة تحت عنوان محاربة (الكيان الموازي).

وقد انعكس هذا النهج الأمني الإقصائي على باقي القوى والأحزاب المعارضة تحت عناوين مختلفة، وكذلك في الشارع التركي عندما لجأ أردوغان إلى قمع الحريات ومحاصرة وسائل الإعلام، حيث وصل به الأمر إلى حجب العديد من مواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ما جعل من أردوغان رمزاً للاستبداد في الشارع التركي، خاصة بعد قمعه تظاهرات ساحة تقسيم باسطنبول في وقت كان يطالب بالحرية للشعبين في مصر وسوريا.

2 ـ تراجع الاقتصاد، فمع أنه يسجل لحكومة العدالة والتنمية نجاحها الكبير في نهضة الاقتصاد التركي وانتشاله من أزمة خانقة كانت تعيش على وقع وصفات صندوق النقد الدولي في نهاية التسعينيات، فإن الاقتصاد التركي بدأ يشهد تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة مع تراجع معدلات النمو والتنمية وتصاعد نسبة التضخم وتزايد معدلات البطالة وتراجع قيمة العملة التركية وتنامي الفساد، حيث كانت لفضيحة الفساد التي هزت البلاد قبل أكثر من عام وقع الزلزال على مصداقية العدالة والتنمية وأردوغان شخصياً.

وفي المحصلة باتت الحياة المعيشية صعبة جداً وسط تنامي المخاوف من انهيار اقتصادي، فضلاً عن انهيار المصداقية الأخلاقية لأردوغان الذي يقول مراراً إنه يفتخر بأن حزبه هو الوحيد الذي لا يوجد فيه فساد.

3 ـ انصراف الناخب الكردي عن العدالة والتنمية بعد إحساسه بعدم جدية أردوغان في إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، إذ من المعروف أن الناخب الكردي كان في السابق يصوت للعدالة والتنمية، بل إنه حصل في انتخابات عام 2002 على جميع المقاعد البرلمانية المخصصة للمناطق الكردية.

وبعد سنوات من الوعود والتصريحات عن عزمه إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، ظهر أردوغان قبل الانتخابات البرلمانية ليقول "لا توجد قضية كردية في تركيا"، وقد كانت هذه الكلمات كافية ليصرف الناخب الكردي عنه إلى درجة أن أكثر من 90% من أصوات الكرد في ديار بكر ذهبت إلى الحزب الكردي بعد أن كان نحو 40% منها تذهب للعدالة والتنمية في الانتخابات السابقة.

4 ـ السياسة الخارجية التي اتبعها أردوغان، لاسيما تجاه سوريا ومصر، فقد أدت هذه السياسة إلى تداعيات أمنية واقتصادية وسياسية على الداخل التركي. ومع اشتداد خطر التنظيمات الإرهابية، لاسيما "داعش"، بدأ المواطن التركي يحس بأن أمنه بات مهدداً، ولم يجد الناخب أمامه سوى أردوغان ليحمله المسؤولية المباشرة خاصة في ظل التقارير التي تحدثت عن تورط أجهزة الاستخبارات التركية بنقل أسلحة للمجموعات المسلحة في سوريا وتحويل الأراضي التركية إلى ممر للمقاتلين القادمين من مختلف أنحاء العالم؛ إذ استغلت المعارضة التركية هذا الأمر، إلى جانب الأعداد الهائلة للاجئين السوريين بهدف إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية.

وبعيداً عن جدل أسباب فوز الكرد وخسارة العدالة، ثمة من يرى أن فوز الحزب الكردي سيكون أفضل للديمقراطية وقطع الطريق أمام حكم شمولي كان يعد له أردوغان.

أي مشهد تركي بعد الانتخابات؟

أسئلة كثيرة تطرح على وقع نتائج الانتخابات على نحو: هل البلاد مقبلة على حكومة ائتلافية أم ذاهبة إلى انتخابات مبكرة؟!

في الحديث عن السيناريوهات المحتملة، تتجه الأنظار إلى إمكانية خيار بناء تحالف بين العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بزعامة "دولت باهجلي" على اعتبار أن التناقض الأيديولوجي والسياسي مع حزب الشعب الجمهوري الذي يمثل إرث أتاتورك لن يسمح بتشكيل مثل هذه الحكومة.

وفي جميع الأحوال فإن نتائج الانتخابات تفرض خيار الذهاب إلى خيار حكومة ائتلافية ربما لن تكون سوى حكومة تصريف أعمال في ضوء التجارب الفاشلة للحكومات الائتلافية السابقة، ولعل ما يعزز من هذه الفرضية هو أن أردوغان لن يستسلم للوضع الجديد، ولن يتخلى عن تطلعاته الكبيرة، وهنا ينبغي التوقف عند سيناريوهين:

الأول: تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الحركة القومية، حيث إن هناك مشتركات أيديولوجية كثيرة بين الحزبين، ولكن هذا الأمر يتطلب من أردوغان التضحية بالعملية السلمية مع الكرد، نظراً لأن حزب الحركة القومية يرفض أي اعتراف بوجود قضية قومية كردية. ولعل مثل هذا الخيار سيؤثر على العملية السلمية مع الكرد، وربما يدفع الكرد إلى العنف تمسكاً بمطالبهم. ويحمل مثل هذا الخيار مخاطر عودة العسكريين إلى الساحة السياسية التركية بعد أن نجح أردوغان في إبعادهم عنها.

الثاني: بعد انتهاء مدة 45 يوماً الدستورية لتشكيل حكومة ائتلافية قد يقوم أردوغان بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، لكن مثل هذا السيناريو قد يتطلب منه الاستقالة من رئاسة الجمهورية والعودة إلى زعامة العدالة والتنمية ليقود الحزب بشكل مباشر، خاصة أن الحزب لن يكون بمنأى عن تداعيات نتائج الانتخابات، لاسيما في ظل تحميل البعض أردوغان – أوغلو مسؤولية ما جرى.

إضافة إلى ما سبق، ينبغي عدم استبعاد احتمال نشوء حكومة ائتلافية بين العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي على الرغم من إعلان زعيم دميرطاش رفضه تشكيل حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية، لكن العارف بواقع الحركة الكردية يدرك أن صنع القرار الكردي لا يعود إلى دميرتاش وحده، فهناك أوجلان القابع في سجن آمرالي وله الكلمة العليا في هذا الشأن، وأردوغان الذي أرسل له مراراً رئيس استخباراته هاكان فيدان يدرك قيمة أوجلان اليوم أكثر من أي يوم آخر، لا محبة به وإنما إنقاذاً لتطلعاته الجامحة التي أصبحت في مهب نتائج الانتخابات.

في جميع الأحوال دخلت تركيا مرحلة جديدة... وكل السيناريوهات باتت مطروحة، بما في ذلك الدخول في أزمة سياسية مفتوحة ستكون لها بالتأكيد تداعيات على السياسة الخارجية التركية، لاسيما تجاه الأزمة السورية.