صفقة "منبج":

كيف يتعامل الأكراد مع تداعيات الاتفاق الأمريكي-التركي؟

07 June 2018


أنهى الاتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا حول الانتشار العسكري التركي في منبج فترة ممتدة من التوترات بينهما حول الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، إذ يحقق الاتفاق لأنقرة عدة مكاسب، يتمثل أهمها في حشد دعم الرأي العام في تركيا للرئيس "رجب طيب أردوغان" قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وتعزيز انتشارها العسكري بالقرب من شمال العراق للتصدي لحزب العمال الكردستاني، وخفض حدة التوترات مع واشنطن، كما سيستغل نظام "الأسد" هذه الصفقة في الضغط على الأكراد والاستمرار في التوسع الميداني.

بنود "صفقة منبج":

جاءت تحركات أطراف "صفقة منبج" الأخيرة التي عُقدت بين وزيري خارجية تُركيا والولايات المُتحدة في الاجتماع الأخير بينهُما في الرابع من يونيو الجاري منضبطة ومُتناغمة بينهما إلى أقصى حدّ. حيث أعلنت لجنة العمل العسكرية الاستخباراتية الأمريكية التُركية في نهاية شهر مايو الماضي توصلها إلى توافقات واضحة بشأن مُستقبل منطقة منبج، وترك الإعلان الرسمي والتفاصيل لاجتماع وزيري خارجية البلدين، وسرعان ما بدأت قوات سوريا الديمقراطية تهيئة الأرضية السياسية والميدانية لتنفيذ ما تم التوافق عليه عقب الإعلان، ويبدو أنها كانت على علم مسبق به. فبعد أقل من أربعة وعشرين ساعة من الإعلان الرسمي الأمريكي والتُركي، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية سحب "مستشاريها العسكريين" من منطقة منبج، وقام مبعوث الرئيس الأمريكي إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" داعش "بريت ماكجورك" بزيارة المدينة، لتقديم بعض التطمينات للطرف الكُردي، حتى يحمي التوافق الأمريكي "الاستراتيجي" مع قوات سوريا الديمقراطية من الانهيار. 

وعلى الرغم من عدم إعلان الطرفين عن مضمون الاتفاق، فإن بعض الصحف الكبرى قامت بنشر تسريبات عن مضمون الاتفاق، ويشير مضمون التسريبات إلى ما يلي: أن تنسحب قوات سوريا الديمقراطية عسكريًّا وسياسيًّا من مدينة منبج وكامل الإقليم الذي تُسيطر عليه في غرب نهر الفرات، وأن يكون هذا الانسحاب حتى على مستوى المؤسسات الخدمية والمدنية التي أسستها هذه القوات في تلك المناطق لتكون رديفة لهيمنتها على المدينة وإقليمها الجيوسياسي غرب نهر الفرات.

كما تشرف تركيا بالتعاون والتوافق مع الولايات المُتحدة على تشييد مؤسسات خدمية ومدنية وسياسية وأمنية ذات مصداقية تمثيلية للسُكان المحليين، على أن لا تكون الإجراءات التُركية "انتقامية" شبيهة بتلك التي مارستها ضد ميليشيات المُعارضة السورية الحليفة للولايات المتحدة في منطقة عفرين، فالتوافق يجب أن لا يظهر وكأنه "عملية احتلال".

بالإضافة إلى ضرورة أن تُخفف تُركيا من سعيها الدائم للهيمنة على كامل مناطق الشمال السوري، خاصة في منطقة شرق الفُرات التي بقيت وحيدة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وأن يُترك أمر إعادة تفكيك وتركيب السُلطة في تلك المنطقة للطرف الأمريكي الذي سيقوم بالضغط على الطرف الكُردي، ليكون حُكم هذه المناطق أكثر تشاركية وتمثيلًا لكافة المكونات والقوى السياسية، خاصة فيما بين الكُرد بمُختلف نزعاتهم السياسية من طرف، والعرب والتُركمان من طرف آخر.

حسابات المكاسب والخسائر:

يمكن القول إن التوقيت الذي عُقد فيه هذا التوافق يكاد يكون مثاليًّا نظرًا لما سيُدرُّه من مكاسب سياسية واستراتيجية على الطرفين التركي والأمريكي، وخاصة لصالح حزب العدالة والتنمية وزعيمه الرئيس التُركي "رجب طيب أردوغان"، بيد أنه قد يكون له عدد من التداعيات السلبية على الطرف الكردي، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى تداعيات هذا التوافق وذلك فيما يلي:

1- حشد الناخبين الأتراك: سيستخدم الرئيس "أردوغان" هذا التوافق إلى أقصى حدٍّ ممكن في حملته الانتخابية الراهنة. فأغلب استطلاعات الرأي العام التُركية تذهب للقول بأن أردوغان لن يستطيع الفوز برئاسة البلاد من الجولة الأولى من الانتخابات التي ستجري في الرابع والعشرين من شهر يونيو الجاري، حتى إن "مؤسسة سونار" لاستطلاعات الرأي ذهبت للقول بأن "أردوغان" قد يعاني من صعوبة شديدة في الفوز بالانتخابات حتى في الجولة الثانية بعدما صارت أسهم منافسه الرئيسي ومرشح حزب الشعب الجمهوري "محرم إينجه" ترتفع باستمرار.

فحزب العدالة والتنمية يُعاني تأثير ملفين ضاغطين: يتعلق الأول بالتراجع السريع لقيمة العُملة التركية التي فقدت قُرابة 31% من قيمتها خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، ويعود هذا التراجع في جزء منه إلى تراجع ثقة المستثمرين ببيئة العمل في تُركيا، بعد مساعي الهيمنة من قِبل حزب العدالة والتنمية على المؤسسات الاقتصادية. أما الملف الآخر فيتعلق بأن أحزاب المعارضة التركية بدأت في خلق توافقات فيما بينها، لا سيما بين الحزبين الرئيسيين، الشعب الجمهوري "الأتاتوركي"، وحزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد. وهو ما سيدفع "أردوغان" لتقديم "توافق منبج" على أنه أحد إنجازات سياسته الخارجية الساعية لحفظ الأمن القومي التُركي، ليجذب أصوات القواعد الاجتماعية القومية التقليدية، الموالية عادةً لحزب الشعب الجمهوري.

2- إعادة الانتشار الإقليمي: ستسعى الاستراتيجية الخارجية التُركية إلى أن تستغل هذه الصفقة في مدّ نفوذها في مُحيطها الجُغرافي "المُقلق"، خصوصًا في المُعسكرات والمناطق التي تسيطر عليها قوات حزب العُمال الكُردستاني في إقليم كُردستان العراق. 

فالطرف التُركي سيقوم باستغلال هذه الصفقة للإيحاء بأن حالة التوافق بين الولايات المُتحدة والأطراف الكُردية القريبة من حزب العُمال الكُردستاني قد انتهت، وأن أنقرة تستطيع مد نفوذها في مُحيطها العراقي والسوري دون خشية من الخطوط الحمراء الأمريكية. وفي هذا الإطار، صرح "أردوغان" بعد هذا الاتفاق: "بعد منبج، حان دور سنجار وقنديل"، فبعد سيطرة أنقرة على عفرين ومنبج، أصبحت تعتقد أن الوقت ملائم لتوجيه ضربة قاصمة لحزب العُمال الكُردستاني في مختلف مناطق نفوذه.

3- التقارب مع الولايات المتحدة: تعد "صفقة منبج" فرصة لتركيا والولايات المتحدة لإعادة ترتيب شبكة علاقاتهما وارتباطاتهما الاستراتيجية، فمثلما كانت صفقة "جرابلس/غرب مدينة حلب" في شتاء عام 2016 مناسبة لأن تُعيد تُركيا ترتيب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، عبر استخدام آلية القبول المتبادل من الطرفين للهيمنة على بعض المناطق السورية، حيث احتلت تُركيا منطقة جرابلس مُقابل تسهيل سيطرة روسيا والنِظام السوري على شرق مدينة حلب، ومن ثم احتلال منطقة عفرين مقابل تسهيل سيطرة النِظام السوري على غوطة دمشق.

4- إضعاف موقف الأكراد: يختلف الأمر بالنسبة للقوة الكردية، حيث إن هناك انعكاسات سلبية "لصفقة منبج" على التموضع والهيمنة الكُردية الراهنة، وعلى مُستقبل قوات سوريا الديمقراطية ودورها المُستقبلي، ويستشعر الأكراد -في الوقت الحالي- حالة من الضعف السياسي، فبعدما فقدوا الثقة في روسيا والنِظام السوري تمامًا بعد اعتقادهم بتوافق الطرفين غير المُعلن مع تُركيا في عملية عفرين، فإن "صفقة منبج" ستُفقدهم الثقة في الاستراتيجية الأمريكية، وهو آخر ما كانت تعول عليه كمنصة للحماية من حلقة "الأعداء" المُحيطين بهم. 

فالشعور الغالب على حزب الاتحاد الديمقراطي "الحاكم" وقوات سوريا الديمقراطية، هو الإحساس بأن مهمتهم الاستراتيجية انتهت تمامًا بالقضاء على تنظيم "داعش"، وأنهم كانوا مُجرد أداة بيد القوى الكُبرى لتنفيذ هذه المهمة، دون أن تهتم هذه القوى بإيجاد رؤية استراتيجية لمستقبل الأكراد ضمن المنظور الكُلي السوري. 

5- ضغوط نظام الأسد: سيسعى النِظام السوري لاستغلال "لحظة الضعف" الكُردية، خصوصًا وأنها تأتي في وقتٍ حقق فيه النِظام السوري تحولين استراتيجيين، حيث استعاد السيطرة على كامل منطقة الغوطة الاستراتيجية، وصارت هيمنته السياسية والعسكرية على العاصمة مُطلقة، كما يبدو أن هناك صفقة دولية تتعلق بالجنوب السوري بدأت ملامحها تتضح الآن، تقضي بأن يستعيد النِظام السوري هيمنته على هذه المنطقة الحساسة، وسيوظف النظام كافة أدواته لإرغام الطرف الكردي على القبول بصفقة معه وإن كانت غير عادلة لحمايتهم من تركيا، أو حتى من التوافق التُركي الأمريكي.

ختامًا، أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية مجبرَيْن على تقديم اجابات واضحة للقواعد الاجتماعية الكُردية، لا سيما أنهم قبلوا بهيمنتهم المطلقة على القوة السياسية والعسكرية في مناطقهم تحت ضغط ما كانوا يعيشونه من ظروف صعبة في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية، لكن هذا الطرف السياسي والعسكري أخذ يتوسع في هيمنته ومناطق سيطرته، حتى صار يفرض نفسه كقوة شبه مُطلقة مُتحكمة بالمُجتمع الكُردي السوري.

وقد كان المجتمع الكردي يملك قدرًا من الخضوع لهذا الأمر، نظرًا لقدرة هذه التيارات السياسية على تأمين الأوضاع الأمنية، وتحقيق السلام الاجتماعي في مناطق سيطرتهم، بالإضافة إلى قدرتهم على توفير الحياة العامة المُريحة للأكراد، بيد أن فقدان قوات سوريا الديمقراطية لمنطقة جُغرافية تلو أخرى سيؤدي إلى تراجع مستوى الثقة بها، وقد يُعرضها لنوع من المحاسبة والمساءلة من قبل القوى الاجتماعية الكردية التي قامت بتقديم تنازلات في مقابل تنفيذ قوات سوريا الديمقراطية للاستراتيجية الكردية.